عين العرب: مقاتلون يحلمون برصاصة الشرف

اكراد يشيعون في تركيا امس الاول احد قتلى الاشتباكات في عين العرب (رويترز)
اكراد يشيعون في تركيا امس الاول احد قتلى الاشتباكات في عين العرب (رويترز)


كان جنكيدار قد وصل إلى معبر مرشد بينار عند الحدود التركية ـ السورية، بعدما أمضى أياماً متنقلا من بيروت إلى طرابلس، ومنها عبر البحر إلى مرفأ «تاشوجا» في مدينة مرسيل التركية، ومن ثم مدينة غازي عنتاب، وصولاً إلى المعبر، أملا في الوصول إلى مدينة عين العرب (كوباني) السورية.

هو أنهى لتوّه امتحاناته الجامعية في الجامعة اللبنانية في بيروت، حيث يدرس، وتواعد مع زميله الجامعي وابن منطقته حسين للذهاب إلى عين العرب وتصوير الحياة هناك حيث الحصار المضروب على المنطقة من قبل تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»-»داعش» للسنة الثانية على التوالي .

وصل حسين الى هناك قبل جنكيدار بخمسة أيام، وأنهى معاملاته الرسمية مع السلطات المحلية في عين العرب، ذات «الإدارة الذاتية»، غداة إخلاء النظام السوري المنطقة وتسليمها إلى «وحدات حماية الشعب» في 19 تموز العام 2013 .

اضطر حسين للتنكر بثياب «داعشية»، وركب دراجة نارية برفقة عجوز، حاملاً ربطات من الخبز بعدما ترك كتبه الجامعية في بلدة منبج السورية، حيث يقيم شقيقه. هو وصل من الرقة عن طريق تدمر قاطعا حاجزين تابعين لتنظيم «داعش»، ثم حاجزا لـ«أحرار الشام»، ومن هناك وصل إلى ناحية قريته في عين العرب.

لم يكن شهر تموز ينبئ بما هو أكثر من حر الصيف، إلا ما يتردد على ألسنة سكان المنطقة عن الإجراءات المشددة من قبل السلطات التركية على طول الحدود الفاصلة مع المنطقة الخاضعة لسيطرة «حزب الاتحاد الديموقراطي»، وهو أمر لا يحدث في الجهة التي يسيطر عليها «الدولة الإسلامية». معاناة إضافية تضاف إلى معاناة سكان عين العرب البالغ عددهم قرابة 500 ألف نسمة، موزعين على 384 قرية، يحدّها من الغرب نهر الفرات، ومن الشمال تركيا ومن الشرق تل الأبيض، ومن الجنوب منطقة صرين.

بدأ الشابان توثيق الحياة اليومية للناس، والتدريبات العسكرية شبه اليومية بسبب استمرار تطوع الشباب والشابات، والاهم الاستعداد للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لإقامة «حكم الشعب الكردي» في 19 تموز الماضي.

الفتيات انهين تدريباتهن العسكرية في «وحدات حماية النساء» وعدن إلى حلقات الدبكة، أو ارتدين الزي التقليدي وتوجهن إلى تلة مشتى النور وهن يحملن آلاتهن الموسيقية.

في المدينة مطحنة واحدة وفرن آلي، كما أن المؤسسات الرسمية تعمل بطريقة منتظمة، حيث أنجزت حفر آبار المياه بعد أن قطع «داعش» المياه عن المنطقة، واستقدمت مولدات كهرباء للسبب ذاته. ويمكن إجراء اتصالات هاتفية عبر الشبكة التركية، أما السورية فمتوقفة بعد تدمير منصات الإرسال اللاسلكية في المنطقة.

ويحكم في عين العرب كل مؤسسة، بغض النظر عن طبيعة عملها، رجل وامرأة بصورة متساوية، ولا يمكن اعتبار أي اجتماع محلي كامل النصاب ما لم يكن 40 في المئة من المجتمعين نساء.

وكان يوجد أربعة مستشفيات في المدينة، واحد منها قيد الإنشاء، فيما فجر «داعش» اثنين، وقام المقاتلون الأكراد بتفجير الرابع بعناصر من «الدولة الإسلامية». ولا يكاد مستشفى عسكري محلي يفي بغرض تطبيب المصابين.

اعتاد جنكيدار وحسين على أصوات الرصاص عند غروب الشمس، حيث أن طبيعة المنطقة المنبسطة شبه الصحراوية لا تسمح بتحركات عسكرية لافتة نهارا. أخبار احتلال «داعش» للقرى المحيطة تصل تباعاً، وترافقها اخبار اخرى عن إعدامات ونهب البيوت وجرف القبور. ومع كل تقدم يحدث نزوح كثيف للمدنيين نحو عين العرب ومنها نحو معبر مرشد بينار التركي .

ومع تأزم الوضع أكثر، قررت «وحدات حماية الشعب» الكردية إخلاء عين العرب من المدنيين، خاصة بعد استقدام «داعش» مسلحين من الرقة ودير الزور وجرابلس، فزحف عشرات الآلاف نحو المعبر، فيما بقي قرابة 300 مدني مع حوالي 700 مقاتل، بينهم 250 فتاة، في مواجهة ارتال التنظيم التكفيري الذين يقدر عددهم بحوالي سبعة آلاف مسلح، يحاصرون مدينة لا تتجاوز مساحتها ستة كيلومترات مربعة.

أصغى جنكيدار وحسين إلى التعليمات الصادرة عبر الجهاز اللاسلكي من مسؤولة عسكرية، قالت بلغة حاسمة «إلى السلاح والثبات في المواقع»، قبل أن تضيف: «لا تنسوا القسم». أدركا من تلقاء نفسيهما أن الوضع خرج عن السيطرة. سألا عن القسم، فعرفا أن كل مقاتل أو مقاتلة يقسم على العلم والبندقية، ويختمه بالتعهد باستخدام رصاصة الشرف ضد نفسه كي لا يقع في الأسر.

في 16 أيلول الماضي، بدأ الهجوم من محاور عدّة. كانت هذه المرة الأولى التي يطال القصف مركز المدينة. اشتعلت الجبهات دفعة واحدة. ظن المقاتلون أن الهدف هو السيطرة على الطريق السريع الذي يربط بين جعدة (حيث قبر السلطان سليمان) ومنطقة الشيوخ، وهما منطقتان تسيطر عليهما «داعش»، وتفصل بينهما مناطق كردية، لكن سرعان ما اتضح أن الهدف اجتياح عين العرب.

جنكيدار سبق ان خدم سابقا في الجيش، أما حسين فكانت تلك المرة الأولى التي يحمل فيها بندقية ويطلق النار. في البداية خاف، لكنه عاد وتشجع بعدما شاهد رفاقه يضحكون ويغنون ويطلقون النكات على عناصر «داعش» كيف يهاجمون أفواجاً، وكيف يتم اصطيادهم بالرشاشات وقذائف «ار بي جي»، وهي الأسلحة الوحيدة المتواجدة معهم، في مقابل قذائف الدبابات والصواريخ الحرارية والرشاشات الثقيلة.

ومع هدوء المعارك، التقى جنكيدار بحسين الذي ابلغه أن جميع أفراد عائلته غادروا نحو المعبر... وقف بين جموع الناس يراقب أكثر من مئة ألف نازح، متسائلا أين يعثر على الأهل ليودعهم؟

أبناء عين العرب متمسكون بمدينتهم يقاتلون حتى آخر طلقة، ومن بينهم مقاتلون لهم باع في المعارك، بسبب خبرة راكموها ضد الجيش التركي. وسطر المدافعون عن عين العرب، التي تحولت إلى مدينة أشباح، بطولات وثقها الصحافيون.

ويروي الطالبان، بعد مغادرتهما المنطقة للعودة إلى الجامعة، بحسرة كيف بكيا ما إن استقلا الحافلة المخصصة لنقل الصحافيين في نهاية أيلول الماضي، وكيف عبرت بين النساء والأطفال والعجزة، وقد طال بهم الانتظار، وتكدس على ثيابهم الغبار. وأكثر ما أتعبهما مشهد الدبابات التركية تصطف على مسافة 200 متر من عين العرب من دون أن تحرك ساكنا، وفي نفسيهما أمنية: لو أن في المدينة دبابة واحدة لتغيرت كل المعادلة.

انهمرت دموع شابين تحولا سريعا إلى مقاتلين، ودخان القصف يتصاعد خلفهما، وفي جعبة كل منهما صور كثيرة لمقاتلات ومقاتلين يحلمون باستخدام رصاصة الشرف، تماما كما فعلت المقاتلة بيريفان ساسون، تلك الطالبة الجامعية التي لم يتجاوز عمرها الـ19 عاما، والتي حوصرت مع مجموعتها في الجهة الجنوبية، وقالت لرفاقها عبر جهاز اللاسلكي بعدما نفد سلاحها من الذخيرة واستشهد من معها «سامحوني، لم يبق لدي إلا رصاصة الشرف، سوف استخدمها. أفضل الموت على الوقوع في الأسر».

لحظات ويدوي صوت الرصاصة، ويختفي صوت بيريفان .. وتبقى عين العرب.

عين العرب

تقع المنطقة على بعد حوالي 30 كيلومتراً شرق نهر الفرات، وحوالي 160 كيلومتراً شرق حلب، وتتألف من 384 قرية، أبرزها عين العرب (كوباني).

ونشأت في العام 1892 مع انطلاق مشروع خط سكة حديد بغداد، قبل أن تتحول في العام 1911 إلى تجمع سكاني مهم. وتميزت بكثرة عيون الماء، ولهذا أطلق الأتراك على المنطقة اسم «مرشد بينار» أي «عين المرشد»، نسبة إلى مرشد الذي سكن شمال خط سكة الحديد. أما الأكراد فقد أطلقوا عليها اسم عين العرب «كاني عربا» حيث كان العرب يجلبون ماشيتهم إلى العين لشرب الماء.

وفي العام 1912 عملت شركة «كوبان» الألمانية على خط سكة الحديد، وأقامت مخيماً للعمال من أبناء المنطقة، وهم بغالبيتهم من الأكراد. وسرعان ما تحولت المنطقة إلى «كوباني» نسبة إلى أعمال الشركة.

وفر إلى المنطقة أرمن، خوفاً من مجازر الأتراك، فيما استقر بها الأكراد. ومع تحديد الحدود من قبل تركيا في العام 1921 شكل خط سكة الحديد حدوداً فاصلة بين «مرشد بينار» التابعة للسيادة التركية وعين العرب التابعة للسيادة السورية.

تعليقات: