«هاني فحص» يرتجل الضوء

هاني فحص.. ما زلت مأخوذة بلغتك التي ساحت على الورق ،وبللت قلوبنا ،وذاكرتنا بعسلها المداف
هاني فحص.. ما زلت مأخوذة بلغتك التي ساحت على الورق ،وبللت قلوبنا ،وذاكرتنا بعسلها المداف


وأنت تسافر في صوت فيروز، وفي عطر الوردة.. وبرق المسافة ..وخدّ الضوء.. ودمعة السماء الهاطلة بحنو أمّ على حماقة أولادها .. اكتب لنا من عليائك كيف يكون البكاء دهشة ،ورعشة، وفتنة.. والشمس موّالا أشقر يتمدد في حضن الحقول، ووديان، الخضرة ، والضوء .. وكيف تتحول النصال الى أعواد ثقاب تتهشم تحت خطاك الخاطفة نحو الضوء .. وشوق يهتف بك : تمهل قليلا ، فلاتزال مرارة القهوة ، والوطن على أولها .. والبحر على زرقته .. والوجع فتى نزق يرفض أن يبلغ سنّ الرشد ..

أن تواصل غناءك دون أن تقاطعك الأصوات الناشزة، والأرواح المستذئبة التي اقتفت حروفك المدافة بعسل اللغة، وترانيم الضوء المرتعش عشقا، وتصوفا لا يفهم الحياة الا نجمة آفلة، وأغنية عابرة بشجنها ورقصها وبكائها ، لذا .. لم تكن تتقن لغة الفناء، ونصال الكلام ، بل كنت تُشرع صدرك بتبغه الأخضر للريح كلما اشتدت الريح.. وكنت تطلق مواويلك مستأنسا بها فوق اصطكاك الخناجر المختبئة خلف العباءات ..

وحدث أن تكون موالا تغنى به أشقياء الحب، والوطن ..

وأن يكون عزفك المنفرد صوت الحكمة الذي اهتدينا به الى أصواتنا ، وأغنياتنا القديمة ، واستعدنا به الدبكة، ورقصة الفجر، والشمس، والليل، والهواء، والجبل، ورحنا نعانق الياسمين بماتيسر من جنون طفولتنا المصلوبة على المنابر ..

وإني إذ أكتب اللحظة عن رحيلك الذي فاح بالياسمين ، والحب، والدموع ، واللوعة، والتعاويذ التي افترشت الدرب نحو زرقة السماء، فإني أكتب عن أولئك الصغار الذين تتركهم أمهاتهم في منتصف الدرب وتجعلهم يتسلون ب(سأعود) !

ولسوء الحظ لسنا صغارا لنصدق ولا كبارا لنحلم !

ولرحيلك وقع اليقظة في عزّ الحلم.. أنت الذي علّمتنا أن الحلم رغيف الذاكرة، كيف لنا اليوم أن نصمت سعير الذاكرة، وهي تستعيدك محرضا على الحياة، والكلام، والحب ،والجمال ،والشعر في اللحظة التي تقرّر فيها أن تصمت ،والى الابد ؟

كان عليك الاتكون رائعا الى هذا الحد، وصادقا الى هذا الحد، وحكيما الى هذا الحد كي لاتدعنا ننفضح بكل هذا الوجع المنسكب حبرا أحمر فوق البياض ..

وكان عليك أن تحزم في دربك نحو الشمس صوتك، وشعرك، ونثرك ونصّك، وابتسامتك التي تخبرنا أن الكون بخير ،وإن كان يتدحرج نحو الهاوية !

والاّ تنسى، وأنت تلملم بقايا ضوئك عن حطب الأرض، وعوسجها أن تحزم مواويلك ،وأصوات محبيك المزروعة في أقاصي العراق من جنوب القلب حتى شمال الروح ..حتى آخر ابتسامة خبأتها في جيب النخيل ،وقلب دجلة ،ومآذن النجف ،وصوتك الذي صاح في نوبة عشق (لحظة توقف القلم عن الصرير، والحبر عن الهدير، والحمام عن الهديل، والجنوب عن الاشتعال، ريثما يشتعل ثانية، وثالثة، حتى آخر فلسطين.. وآخر عراقي، يعاني الجوع بين الفرات ،ودجلة، أوان الرطب، في أرض السوادين، على مقربة من جيكور ،وبويب، و"أبو الخصيب".. والأهوار.. ومناخات السياب، الحاضر أصلاً في قصائدنا ومواجعنا)

لحظة توقّف القلم عن الهدير، وقلبك عن المواويل، ورحت تنثر أوراقك على سلم اللاعودة ..وصايا من عطر ،وغياب نقرؤها كأننا لم نقرؤها من قبل .. نفك طلاسمها ، والغازها ،وشفراتها ،ورمزيتها، ونحيلها الى أبجدية غيابك .. ارتحالك الذي يضرم الحبرفي القرطاس، والملح في الرؤية، واللوعة في الحنين كلما طالعنا ذلك الفراغ المدوّي لعمامتك التي كانت باستدارة وطن ،وموسيقاك ،وخمرة لغتك المعتّقة بمياه دجلة والفرات، وانحناء السعف ،وبكاء الأرز، وأنت المسجل في مفكرة الغابات، وبساتين النخل إبنا بارا بالأرض والعرض ،وشمسا تذرف النورعلى محبيها ولاعنيها وتمضي نحو قدرها المتورد في بذار الأرض خلقا طيبا وذكرا ناصعا ،ومحبة تتردد في القلوب ...

دعني اليوم اعترف لك إني بعد أكثر من عامين على لقائي بك في احتفالك بصديق روحك محمد علي شمس الدين.. ما زلت مأخوذة بلغتك التي ساحت على الورق ،وبللت قلوبنا ،وذاكرتنا بعسلها المداف بصوتك والقائك ،وضحكتك ،وابتسامتك ،وغضبك، وغبطتك، ودهشتك، وجرأتك، و اندهاشتنا بك ...

وانني ما زلت أستعيد كلماتك بذاكرة لم أحسبها على خير. .حتى استعدت بدقة كاميرا سينمائية صوتك والقائك، وضحكتك، ونظاراتك السوداء ،وحروفك البيضاء حتى اننا رحنا نحتفي بك، ونتحلّق حولك عطاشى لدهشة اعادة اليّ الثقة بالشعر، والنثر ،والدين، ورجاله الذين حدث أن تكون منهم لتعيد الينا صورة رجل الدين الذي يضمنا تحت خيمة حكمته لاطائفته ولادينه ولا تلقينه ...

ولاعزاء لنا اليوم سوى صوتك الهادر كبحر بيروت، وهو يتلو علينا، وصاياك، وصلاتك لنا ، ولأجلنا كأنك كنت تخطها لهذا الصمت الفادح.. لتكون صوتك بعد أن منحته للغيم، والمطر، والغياب.. ( إني أعود الى المطلق، ما يكاد يكون مطلقاً قياساً على الأكثر محدودية لأذهب منه الى المحدود، أغريه بالكدح، لعله يصل، يقترب، فيحترق، أو يتحد فيضيع، يحلّ أو لا يحلّ.. والمهم، بل والأهم، أن لا نقف، لا على اليابسة، ولا على وجه الماء ، ولا في عبابه، حتى لو ذهبنا جفاءً في الزبد، فإنه يمكث منا في الأرض، خير كثير وحبر كثير، وشوق كثير، وشعر كثير ،ومجد كثير.. ويقوم الجمال بين ربوعنا، عبادة خالصة، غير مشوبة بطمع، ويمسي الإبداع اقترافاً، يشتبه فيه الإثم بالتقوى، ويتماهى اليأس، والرجاء، والجنون والعقل، والصمت والكلام، والوطن والجرح، والخبز والحبر) ..

* رشا فاضل - بيروت

تعليقات: