الانقلاب العراقي وتداعياته


تتزايد حاجة أميركا للتعاون مع إيران التي تمسك بالجزء الأكبر من السلطة في العراق وسوريا ولبنان وتؤثر في دول أخرى كذلك. تظهَّرت هذه الرغبة الأميركية مؤخراً تجاه الأوضاع في العراق وسوريا ودعوة أميركا إيران من أجل المساهمة في إيجاد حل سياسي.

النفوذ الإيراني في هذا الإقليم مزيج من انتشار عسكري ومن ولاء شعبي واسع في أوساط الشيعة العرب. ليست إيران هنا مجرد قوة عسكرية وافدة من خارج النسيج الاجتماعي، بل هي تحوّلت إلى مكوّن سياسي ديمغرافي يصعب إخراجه من المعادلة لأمد طويل. السنة العرب مضطرون لقبول الأمر الواقع الجديد المتمثل في تبلور الهوية السياسية الشيعية في الداخل والخارج ولو أن معظم القلق أو الحذر كان من التوازن الجيوسياسي في المنطقة والدور الإيراني المتعاظم فيه. تنامت لدى الشيعة التيارات والقوى المرتبطة بإيران رداً على تهميشهم داخل الكيانات العربية، وتنامت لدى السنة التيارات والقوى المناهضة لصعود الشيعة رداً على الدور القيادي لإيران في المنطقة.

الانقلاب المفاجئ في الوضع العراقي لا يزال خارج السيطرة ولم تستوعبه كل الأطراف المعنية إقليمياً ودولياً. فما زال الغموض يلفّ الاحتمالات والتداعيات المحتملة. لكن الشيء المؤكد بالقراءة الموضوعية أنه يمثل اختراقاً كبيراً للسلطة المركزية التي نشأت منذ ثماني سنوات بدعم مباشر من إيران. في مكان ما من قراءة الجغرافيا والديمغرافيا الجديدتين هناك احتمالان متناقضان: الأول أن تتبلور كيانات طائفية انفصالية أو تقسيمية، والثاني أن تتعطّل إمكانية قيام هلالين شيعي وسني على امتداد العراق وبلاد الشام. توضحت مراكز القوى والنفوذ لكن امتداد النفوذ السني العراقي إلى الحدود السورية يقطع التواصل الشيعي المفترض جغرافياً بين البلدين. ما حصل في العراق لا يعطي إيران فرصة السيطرة المتواصلة التي كانت لها من قبل. إمكانية تدخل إيراني عسكري لحسم الصراع غير راجحة وكذلك تأييد أميركا هذا الدور ولو كانت ترغب في تعاون إيراني في ما أصبح "لغة مشتركة": مكافحة التطرف و"الإرهاب". كما أظهرت الأيام المنصرمة أن إعادة السيطرة على شمالي العراق أو "تحرير" المناطق التي خرجت عن سلطة الحكم المركزي أو إعادة محاصرتها ورسم حدود جديدة مع كل التجييش الطائفي والاستنفار "الجهادي" أمر بعيد المنال. بل إن دول الخليج العربي كذلك دعت إلى حكومة وحدة وطنية وحذرت من حرب أهلية طويلة غير معروفة النتائج ما يعني أن التوازن الجديد أو المعادلة الجديدة من الصعب الارتداد عليها. وبقطع النظر عن التوصيف الأميركي للإرهاب ولخطر الانقلاب العراقي، إلا أن الواضح دعوة أميركا إلى حوار وطني وحل سياسي ولتعاون سياسي مع إيران وليس إلى تعاون عسكري. حتى هذه اللحظة لا تفويض لإيران، كما يستنتج البعض بحل مشكلات "الإقليم" وإدارته في العراق وسوريا ولبنان، ودون ذلك عقبات ميدانية ومصالح إقليمية لا تستطيع أميركا تجاهلها.

ينعكس كل ذلك حذراً في التحليلات والحسابات والتوقعات وغموضاً في مستقبل الأوضاع. الثابت الدائر على الأرض هو حرب المواقع التي أدخلت العراق وسوريا في عملية عسكرية وسياسية واحدة، وهو الأمر الذي اتخذ دلالته الرمزية من جرف المعابر والحدود والتمدد العسكري على الضفتين. بمعنى آخر يمهد ذلك للبحث عن مخرج يشمل الأزمتين العراقية والسورية، وعلى إيران أن تحسم خياراتها في التقدم للتعاون في هذه الملفات كما الملف النووي، أو أنها ستواجه استنزافاً طويلاً لا ندري مدى قدرتها على احتماله اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. جميع الأطراف المعنية بهذه القضايا والملفات لديها تصورات وبدائل أو خيارات عدّة من التسويات السياسية المتوازنة إلى الضغط باتجاه التفكيك والفرز وتعزيز مواقع النفوذ وتظهير قوتها وهويتها. فهل يسرّع الانقلاب العراقي في فهم وقراءة موازين القوى المعقدة والمتداخلة والمبادرات إلى الحلول السياسية، أم هو لحظة التأسيس لحروب أهلية طائفية مديدة تتسع أكثر لتشمل دولاً مجاورة لا مناعة لديها أمام هذه العاصفة الهوجاء؟

تعليقات: