سلام الراسي.. هل حقّاً أنت غائب؟ + Pix

إميلي نصرالله 17\6\2014 موقع خيامكم

ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي

كيف يغيب من ترسّخ في الوعي؟

ها قد جئنا،

لا لنحيي ذكراك، فهي حيّة في النفوس وفي القلوب،

بل لنقول لك: "إننا على العهد باقون"...

وها إن مواطنيك الذين أحببت، ومن ينابيعهم نهلت، يتحلّقون حول اسمك للتحيّة والإكرام،

ولردّ بعض ما أعطيتهم، يا من نفختَ الحياة في العظام الرميم... وقبلَكَ، كان ذلك التراث غافياً، وربما مدفوناً في أعماق الذاكرة، ومنتظراً أن تمتدّ إليه يدٌ، تحييه من موات.

وجاءت يدُك، بكل المحبة والشغف وبُعد الرؤية،

جاءت لتكشح الظلمة، وتنفخ نفساً من الحياة جديداً، في ما تراكم عبر السنين من تراث.

أيها الصديق الكبير،

يا سلام: كنت برداً وسلاماً لكل من عرفك، وتفيّأ وارفَ ظلالك، وكنت تجمع فيما أنت تطوف في ديارك... كنت تجمع في راحتيك ذلك السحر الذي لا يوصف، ولا يثمّن بمال، ويصعب تحديده في كلمات.

أيها الحفل الكريم،

يا أصدقاء سلام ومحبيه ومريديه، هذه ليست أول وقفة لي فوق منبر القول،لأعدّد محاسن سلام الراسي، وأهمية حضوره في حياتنا الأدبية الثقافية والتراثية...

لكن، وكلما أقدمت على محاولة أجدُني أكتشف في بئره العميقة وحياً جديداً وعلامات تميّزه وتميّز أعماله... وسوف أستعيد معكم،أنتم،بني قومه،من أحبّ،وبادلوه المحبّة والإحترام...سوف أستعيد بعض تلك الملامح السنيّة، وقد دفع بها عطاءً ميّزه عن كل من سبقه، وأسمح لنفسي بالقول: ومن يلحقه.

وأتوقّف أولاً عند شخصية سلام، إبن إبل السقي، نقطة الوسط بين منطقتين عريقتين: وادي التيم وجبل عامل.

مهمّ جداً تحديد المكان، وتأثيره في مسارنا الأدبي إذ لا فروع بلا جذور وقد تبقى الجذور غافية أزمنة مديدة، تحت التراب، ولا تتوفر لها الأيدي العارفة الواعية، لتلامسها بشغف العاطفة وإدراك العقل...

وهذا ما وعاه باكراً سلام الراسي، وانتظر توفّر الفرصة أي سنّ التقاعد من مهمَات الوظيفة، لينهض بهمّة لا تعرف الكلل، يبحث وينفض عنها غبار الزمن، ويجلوها، مضيفاً إليها نكهة خاصة من إبداع خياله وخصب قريحته ونكهة الفكاهة التي ميّزت كتابته وروايته...

بقي تراثنا الشعبي من أمثال وحكايات وأحاديث وعِبر... بقي غافياً كالجمر تحت الرماد إلى أن هبّت عليه تلك الأنفاس المنعشة، فإذا هو يتفتّح وينهض ثم ينمو وينتظم في صفات الكتب وقد تجاوز عددها ستّة عشرَ كتاباً مباركاً...

وكان تراثنا الشعبي يروى مشافهة، وحدّثَ فلان عن فلان قال...إلى أن جاء من يدرك حقيقة التحولات في حياة الأمم.وقد حدث ذلك قبل عصر العولمة وإرساء النظام العالمي الجديد...

نعم، لم يكن الغزو الحضاري قد إحتشد مثلما تحتشد الجيوش "الحضارية" في أوطاننا، عندما باشر سلام كتابه التراث.

أوَكان ذلك إنذاراً مبكراً خصّته به العناية الإلهية؟!...

في وسعه رَصد منابع الوحي والإبداع؟...

بفضل جهده، أصبح ذلك التراث اليوم كلاماً مكتوباً وحكايات ممتعة تجذب إليها الصغار والكبار فيتدارسونها ويتناقلونها ويحفظون ما كاد يندثر من معتّقات الذاكرة الجماعية.

ومثلما قُدّر لسلام أن يوجد في نقطة وسط بين المناطق وأهلها، كذلك هو من جيل مخضرم، جاء قبل الحداثة ولم يوصد دونها الباب عندما دقّت على بابه...

وكانت بالنسبة إليه المنبَه ويقظة الضمير، فحثّت خطاه على السعي لحفظ أصالة التراث.فراح يطوف بين القرى والمزارع ويتواصل مع الناس، شيبهم وشبابهم، لا يترك فرصة تفوته، لئلا تضيع تلك الكنوز المكنونة وقد إحتضنها بشغف الصائغ الحريص على جواهره واعتنقها مثلما يعتنق المؤمن طقوس عبادته.

وقد أُعطيت فرصة مرافقته في عدّة مناسبات، كان جُلّها من أجل تكريمه، وكانت كلماتي فيه لا تتوسّل المديح بقدر ما تحاول شرح ما يفعله في عمق المشهد الثقافي الحضاري في وطننا...وفي يوم، طلب إليّ أن أكتب مقدّمة لمختارات من أدبه خصّ بها الشباب.وإنّي إذ ما أراجع معكم ما سجّلت من أفكار يأخذني العجب وتسيطر عليّ الدهشة لوعي الرجل أهميّة نهوضه الباكر لجمع تلك الثروة التراثية وحفظها ذخراً للأجيال الصاعدة.

لقد وعى سلام تمام الوعي أنّ العلاقات الإنسانية والإجتماعية وقد ظلّت على حالها مدى قرون، باتت تواجه اليوم خلخلة في أسسها، وتحولات خطيرة في مستقبل بقائها لأن طفل هذا العصر لم يعد ينشأ بين أحضان الجدود ويرضع مع اللبن،القصص والحكايات الموروثة...

فهو إبن عصرٍ مختلف أو "غير شكل" كما كان يعبّر عنه سلام.

أمّا لماذا يجب التركيز على أهمية التواصل الثقافي مع الأجيال الناشئة؟

فلذلك أكثر من سبب: منها المحافظة على صحة أولادنا النفسية والعقلية وخلق توازن بين التراث والحداثة لحفظ توازن آخر في النموّ الفكري والأمان النفسي ولكي لا تجرفهم رياح التجديد جرفاً يضيّعون معه هويّتهم وإنتمائهم التاريخي.

بالطبع، كان سلام يعي ذلك كلّه وهو يبحث ويكتب ويروي مستنداً إلى روح الدعابة التي تميّز روايته وتجعلها بطعم الفاكهة الصيفية في بساتين "إبل السقي"...

وكان من الصعب أن يتأتّى له ذلك كلّه، لولا فهمه المحبّ لمنشأِ الحكاية ومعرفته الواعية للناس وأحوالهم كما لا يفوتني حِسّ ساخر في ما يكتب وما يروي، يبقى في معظم الأحيان مكتوماً أو يرشحُ بعفويّة من خلال السرد ليرسم بسمة العافية في كيان المتلقّي قارئاً كان أم مستمعاً.

بجمعه تلك الثروة من تراثنا الشعبي، حاول سلام الراسي أن يؤكّد لنا أولاً وقبل كل شيء أصالة الذاكرة الشعبية وعمقها وقوتها على الإحتفاظ بالجوهر...كما يؤكّد قدرة تلك الذاكرة على الإختزال والتكيّف،إن في المثل الشعبي أو النادرة والحكاية...

وكونها مرآة تعكس سلوك الناس،إلى جانب دورها في التعليم والوعظ أو التسلية، كما تشكّل في بعض الحالات مهرباً أو قناعاً يتستّر به الراوي تجنّباً للحرج.وفي هذه الحالات جميعها، تثبّت عمق تأثيرها وقدرتها على التطبّع والتكيّف.

أما إبن الشعب، في حكايات سلام الراسي، فهو ليس ذلك الإنسان البسيط أو المعزول عن الكون ومدارات أفلاكه، بل هو خلاصة حضارات وأجيال سالفة ولغات إندثرت إلا ما غرفه ليطوّعه ويختزله بعفويّة ليفي بالغرض ويلبّي الحاجة.

ويا أستاذنا سلام، يا من رحلتَ بالجسد لتتعمّق في الذاكرة وفي الوجدان: إنها وقفتي الأولى للكلام عنك، في غيابك...فهل حقّاً أنت غائب؟...

وكيف يغيب من ترسّخ في وعينا وثقافتنا؟

وهل يغيب عن الديار من أحبّها بذلك السطوع والبهاء؟

أكاد أسمع ردّك يأتيني مغلّفاً بنكهة سخريتك المحجّبة ويهتف فينا صوتك مدوّياً: "يا لطيف!"...

ثم يقترب منا ذلك الصوت، يقترب ليتحوّل همساً وكأنه الهمس الآتي من العماق ليبلغنا أن الأحبّاء عندما يرحلون يقتربون منّا أكثر فأكثر... يتدثّرون جدران قلوبنا ثم يغورون حتى أعماق الكيان...

* كلمة الأديبة إميلي نصرالله والتي ألقاها الأستاذ محمد حيدر‎ في ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي

ألبوم صور ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي

ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي