البناء العشوائي يجتاح المنطقة المحررة ..والخيام تمدّدت في كلّ الاتجاهات

الخيام تمدّدت في كلّ الاتجاهات (كامل جابر)
الخيام تمدّدت في كلّ الاتجاهات (كامل جابر)


لهفة ما بعدها لهفة، جعلت الجنوبيين يتركون سنوات التهجير التي تخطت عند بعضهم ربع قرن، ويعودون منذ الساعات الأولى للتحرير إلى بلداتهم وقراهم، وسط أعراس من الفرح في اندحار العدو وعودة القرى والأرض إلى حضن الوطن، سارع خلالها كثيرون من العائدين إلى توسيع بيوت العائلة عرضاً وارتفاعاً أو بناء بيوت لم تكن أصلاً قائمة، أو كان العدو قد دمرها خلال فترة احتلاله للمنطقة، مستفيدين من غضّ نظر الدولة وأجهزتها آنذاك، تشجيعاً للعودة، وغياب البلديات، في تلك المنطقة الممتدة من حاصبيا إلى مرجعيون، فبنت جبيل وصولاً إلى الناقورة وشرق مدينة صور.

عرفت البلديات التي أعيد انتخابها بعد سنة من التحرير، ثم تباعاً كل ست سنوات، تلك المرحلة من حركة البناء التي تمت سريعاً بالمرحلة العشوائية، وأمل العديد منهم بعد تسلم البلديات زمام الأمور والقوانين في أن تتوقف الفوضى وأن تنتظم الأمور بسياقها الطبيعي مما يحد من المخالفات، وبالتالي من صعوبات التسويات وما يترتب عليها من ضرائب مضاعفة، والحدّ مما نتج عن هذه العملية من مشاكل جمّة.

مئات البيوت نتأت وانتشرت واجتاحت العديد من القرى والبلدات، مثلما اجتاحت المشاعات والمناطق الحرجية وحدود الطرق العامة والداخلية، حتى أن بعض الأبنية الاستثمارية والتجارية لم تلتزم بالتراجع القانوني الذي يفرض ابتعادها مسافات محددة بالقانون عن الطرق العامة، ومنها بعض الأبنية التي قامت في كفركلا والعديسة ومركبا وحولا والخيام.

إن بقاء بعض المعايير القانونية في البناء هنا وهناك، لا سيما في البلدات ذات الطابع المدني، على نحو النبطية والخيام وحاصبيا وبنت جبيل، جاء عدوان 2006، الذي دمّر ما يتراوح بين 50 بالمئة و70 بالمئة في الخيام وبنت جبيل وعيتا الشعب وعيناثا، أو بنسبب متفاوتة في كثير من القرى والبلدات الجنوبية، ليطيح المعايير، وعاد المجد مجدداً لبدعة السماح البلدي في البناء، بما عرف برخصة 120 متراً، ليفرض حركة بناء عشوائية ناشطة.

الخيام نموذجاً

لم تعد الخيام مجرد بلدة كان العدو الإسرائيلي قد دمرها أكثر من مرة، بل هي، اليوم، أكبر من مدينة إذا نظرت إليها من بعيد. بيوت البلدة الوادعة دمرها العدو في شباط 1977 عن بكرة أبيها، ثم تبدلت عما كانت عليه، عندما عاد أبناؤها بعد اجتياح العام 1982، غير أن نشوء ما عرف بعد العام 1985 بمنطقة الحزام الأمني أعاد تهجير أبناء الخيام وبقيت البلدة على ما هي عليه حتى العام 2000، حيث انطلقت فيها حركة بناء عشوائية خلقت مشاكل قانونية وخدماتية وبيئية ظلت «تحت السيطرة» نوعاً ما، إلى أن جاء عدوان تموز وآب 2006. وجاءت قطر بسخائها المالي لتعوض على الخيام على نحو ما عوضته على بنت جبيل وعيناثا وعيتا الشعب، فصار بيت العائلة فيها على عدد الفروع، يعني من له ولدان تلقى تعويضاً عن ثلاثة بيوت، له ولولديه، ومن له ثلاثة أبناء تلقى تعويضاً عن أربعة، ودواليك، حتى نشأت أبنية من عدة طوابق، من أربع شقق وستة، أقل أو أكثر، من دون النظر إلى ما تحتاجه من خدمات مائية وكهربائية وصحية وغيرها، هي غير متوافرة أصلاً، ويحصى اليوم في الخيام وجود نحو 4000 وحدة سكنية مختلفة المساحات والأحجام والارتفاع.

هذا الاتساع العمراني في الخيام الباعث في ذوات أبنائها فرحة الاصرار على بنائها كلما تهدمت، والعودة إليها بزخم عال، متجاوزين مرارة التهجير أو العدوان والتدمير، على الرغم من امتلاكهم أو استئجارهم بيوتاً وشققاً في العاصمة بيوت، البعيدة 90 كيلومتراً عن الخيام الأم، لا يمكن للمهندسين المعمارين أو المدنيين توصيف نمطه. فقد اختلطت البيوت الفاخرة والقصور التي بدأت تظهر بشكل لافت في الخيام، بعد عدوان 2006، ولمّا يزل انتشارها في تصاعد مستمر، مع أبنية عديمة الهندسة والشكل أو بيوت لم تستكمل، فبقيت من دون تلييس أو طلاء، أو تجمعات سكنية «مبهمة» التصميم والتوزيع.

ويعزو المهندس جهاد الشيخ علي، وهو عضو مجلس بلدية الخيام «الفوضى العمرانية إلى أن تعويضات حرب تموز منحت من ليس عنده منزل في الخيام إمكانية بناء منزل، لكن مساحة الأرض التي كانت تستوعب البناء المدمر هي ضيقة أصلا، لا قدرة لها على استيعاب مساحة البناء الجديد، لذلك استُنفذ عامل الاستثمار وتمّ تجاوزه إلى الضعفين والثلاثة، ما بدد المساحات الخضراء أو مساحات «التنفس» كالحقول والجنائن، وراحت البيوت تتصاعد بشكل عمودي وتتلاصق فأضحت في بعض الأماكن، أشدّ شبهاً بالمخيمات».

ويحصي الشيخ علي مجموعة نتائج سلبية لحركة البناء العشوائية في الخيام، بدأت تظهر انعكاساتها على البنى التحتية «فهذه التجمعات السكنية تحتاج إلى تطوير البنى التحتية، من مياه وكهرباء ومجار صحية لكي تستوعب حجمها واتساعها، وبالمقابل فإن مصادر المياه في الخيام لم تتطور أو تزيد، وثمة مشروع ضخم للصرف الصحي يحتاج إلى تكلفة عالية لم ينفذ بعد، ناهيك عن عدم كفاية الكهرباء، وإطاحة الأبنية بالطرق والممرات التي جعلت بعضها أزقة ضيقة، مثلما أطاحت بالمخطط التوجيهي وتصنيف البناء (زونغ)، ونحن اليوم أمام مشكلات كبيرة تقول: من سيرخص أو «يقونن» هذه البيوت؟! أما المشكلة الأكبر فتكمن في جواب السؤال الآتي: ماذا لو عاد أهالي الخيام كلهم إليها؟».

في النظر إلى الوجهة القانونية لما قام من أبنية عشوائية أو بتراخيص بلدية في المنطقة الحدودية، يلفت رئيس مكتب نقابة المهندسين في محافظ النبطية المهندس حاتم غبريس إلى أن تصاريح البلديات السامحة ببناء 120 متراً، «والذي لم يُلتزم به أصلاً مساحة وارتفاعاً، لا يعدّ رخصة بناء، ونحن الآن قادمون على فوضى جديدة سمح فيها وزير الداخلية للبلديات بإعطاء تصاريح بناء بمساحة 150 متراً، مكررة، شرط ألا يتجاوز الارتفاع سبعة أمتار ونصف المتر، ما يعني أن للبلدية يداً في السماح ببناء بيت كبير أو دارة (فيللا) بمساحة 300 متر مربع، من دون العودة إلى التنظيم المدني أو نقابة المهندسين، وهذا الأمر لن يعفي صاحب البناء من أن بناءه غير مرخص وأنه في حال عودته إلى الترخيص سيدفع الرسم مرتين، وسيكون الكشف الفني مضاعفاً ثلاث مرات. إنه مطب قانوني وفخ ستكون له مضاعفات على مختلف المستويات، خصوصاً أن نقابة المهندسين لم توافق على هذه الفوضى أو أن تكون شريكاً مراقباً، وبالتالي فإن البلديات عاجزة عن إيجاد جهاز فني يرعى ويراقب وينظم».

يمكن لعقارات الشيوع أو المعدومة الطرق أو المختلطة الورثة أن تستفيد من هذا السماح، بعد موافقة 75 بالمئة من الشركاء أو امتلاك صاحب العقار هذه النسبة، حتى لو كانت مساحة الأرض المملوكة لا تسمح بهذه النسبة من البناء الممنوحة من البلدية بموافقة وزير الداخلية «لكننا مقبلون على فوضى كبيرة، خصوصاً أن حجم البناء في المناطق التي تعرضت للتدمير في عدوان سنة 2006 وقبلها، بعد التحرير للمناطق المحررة، أظهرت غوغائية لافتة في هذا الخصوص، فما آلت إليه الحركة العمرانية في بلدة الخيام مثلاً لم تنم عن حركة ترخيص توازي هذا الانتشار العمراني ولو بنسبة معقولة، والأمر عينه في بنت جبيل وحاصبيا وكذلك في مناطق الجنوب كافة».

ويستغرب غبريس كيف يمكن لمالكي العقارات القانونية (2400 سهم) التهرب من الرخصة واللجوء إلى الفوضى أو تصاريح البلديات، مع العلم أن عقاراتهم تؤهلهم لرخص قانونية سريعة تمنع عنهم المخالفات وأمر التسويات التي ستكلفهم ضعفين أو ثلاثة. إننا نعتبر ما يجري فوضى فوق العادة تجعل معظم هذه الأبنية والعمارات لا تمر على نقابة المهندسين أو التنظيم المدني، في وقت تفتقد فيه البلديات لأجهزة الرقابة أو لمهندسين متخصصين.

«هي حركة بناء مختلطة وعشوائية، وعلى حسب المناطق الحدودية، فمنطقة جنوب صور مثلاً، لم تكن حركة البناء فيها ناشطة بعد التحرير، ومنها مثلا: طير حرفا، الجبين وشمع» يقول المهندس نصر شرف الدين، ويرى أن عملية البناء في القرى المنتشرة بمواجهة الشريط الحدودي، «لم تكن ناشطة كما في غيرها من المناطق، نظراً لارتباط أهلها بعد سنوات من التهجير، بالسكن أو العمل في مدينة صور وحولها، ولأن المسافة ليست بعيدة، ومنها مثلاً المسافة بين مدينة صور والناقورة التي لا تتجاوز 18 كيلومتراً. ولأن القاطن في صور كأنه يسكن في الناقورة، حتى لو أنه أقام مصلحة جديدة بعد التحرير في الناقورة، فهو يذهب صباحاً إليها ويعود مساء من دون احساسه بالضرورة إلى بناء بيت جديد هناك».

ويجد شرف الدين أن البيوت والمصالح «تركزت في أماكن محددة أكثر من غيرها، إنما ظلّ الشريط الأساسي، من الناقورة وحتى عيتا الشعب، شبه خال من العمران. لكن المناطق التي تعرضت للهدم في عدوان سنة 2006، كانت حركة العمران فيها عالية المنسوب، على نحو عيتا الشعب، عيناثا، الخيام ومدينة بنت جبيل. يضاف إليها مثلاً المنصوري ومجدل زون في منطقة صور، وكانت الحركة العمرانية فيهما ناشطة جداً. في قضاء مرجعيون، والقطاع الشرقي تركزت حركة البناء الناشطة في بلدة الخيام عينها، وجعلها أكبر من مدينة، هذا الأمر لم يكن عينه في الخيام بعد سنة التحرير في العام 2000، مع أنه كانت هناك حركة عمرانية لا بأس بها، بل بلغ أوج هذا النشاط العمراني بعد عدوان 2006».

تتركز الحركة العمرانية وتتكثف في المناطق المحورية، على نحو مدينة صور ومحيطها، ما يعرف بصور الكبرى، فقد نشطت حركة البناء فيها بعد العام 2000 ثم تطورت بشكل لافت بعد 2006، وأضحى ما يحيط بمدينة صور مكوّن مدينة مستقل بحد ذاته عن المدينة الأم صور؛ على نحو البرج الشمالي وعين بعال والعباسية.

الحركة العمرانية كانت تتجه إلى المنطق السكني أكثر منه إلى أبنية المصالح، ولا يتجاوز الأخير العشرين بالمئة مقابل 80 بالمئة للبناء السكني، هذا الـ80 بالمئة هو لا يبعد أصلاً عن المصالح ويصب في خانة الاستثمار العقاري. ويرى شرف الدين أن حركة البناء في بعض المناطق «المدنية» خاضعة للقوانين والرخص أكثر من غيرها في القرى النائية أو البلدات البعيدة عن مراكز القضاء والمحافظات في الجنوب، لكن بالنهاية، إن هذه الفوضى العمرانية تشبه مثيلتها في الشمال أو في البقاع أو غيرها».

تعليقات: