البيئة في مهبّ البرامج الرئاسية


قد يكون لون البشرة وفئة الدم والوزن وطول القامة عوامل اكثر اهمية في اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية من البرنامج البيئ للمرشح. ولكن على رغم ذلك، فقد خصص جميع الذين اعلنوا ترشحهم فقرات عن البيئة في برامجهم. وفي حين اقتصر موضوع البيئة عند البعض على جمال الطبيعية وفولكلور "مرقد العنزة"، فقد عرض البعض الآخر افكارا متطورة ربطت البيئة بالاقتصاد وادارة الموارد والمفهوم الاوسع للتنمية المستدامة. هذا التوجه يعكس نقلة نوعية في الحياة السياسية، ليس في لبنان فقط بل في المنطقة العربية عموما حيث لم يكن للبيئة من قبل اي مكان في عملية التنافس الديموقراطي، اذا وُجد اصلا.

النائب بطرس حرب، اول من اعلن الترشح ببرنامج رئاسي، تحدث عن الانعكاسات الحية للتدهور البيئي الذي "يهدد طبيعة لبنان الجميلة ويلوث مياهه وبحره". وقال ان "الفساد والتقصير يحميان الاعتداء على البيئة... وحالة الضياع لانعدام الرؤيا البيئية دفعت السلطة الى ارتجال تدابير بحجة الدفاع عن البيئة ادت الى الاضرار باللبنانيين من دون ان تساهم في الحل". واعطى مثلين على هذا هما منع السيارات العاملة على المازوت وفوضى التدابير المتعلقة بتنظيم عمل المقالع، من دون ان يحدد من المتضرر ومن المستفيد. يكاد الاستاذ حرب يحصر المسألة البيئية في آثار التلوث على الصحة وجمال الطبيعية، مع غياب كامل للشأن الاقتصادي وادارة الموارد وعلاقة البيئة بالتنمية. لكنه في ختام الفقرة البيئية لبرنامجه يحاول تعويض هذا بتأكيد ضرورة "ايلاء الشأن البيئي الاولوية والاهمية القصوى، ووضع سياسة بيئية واضحة وخطة طويلة الامد تهدف اولا الى وقف الانهيار وتؤسس لمعالجة الاخطار". انه وعد جميل، يتطلب تنفيذه توسيعا لمفهوم الادارة البيئية الحديثة وكثيرا من التفاصيل.

وفي حين لم ينشر النائب العماد ميشال عون برنامجا رئاسيا، الا ان للبيئة حيزا مهما في برامج التيار الذي يرئسه، كما في احاديث كثيرة له. ففي حديث صحافي قال عون ان لديه برنامجا "يتناول كل قطاعات البيئة... اولا سنتطرق الى التنظيم المدني الهمجي، والتلوث الذي يشمل الهواء والماء والارض... وازالة التلوث عن الشواطىء... ومعالجة النفايات المنزلية، وتحريج الغابات". وعن تنظيم العمل البيئي، دعا عون الى "التكامل وتحويل قضية البيئة ورشة شعبية، لأن هذا العمل يهم الكل وليس الدولة فقط، بل ايضا المؤسسات غير الحكومية والمتطوعين". ووصف وزارة البيئة بأنها "وزارة بامتياز، لكنهم اذلوها واستضعفوها"، مطالبا بالزام وسائل الاعلام المرئية تخصيص ساعات محددة للثقافة البيئية، ومركزا على "النظافة والصحة واستخدامات المياه". ودعا البرنامج السياسي الذي اصدره التيار الوطني الحر عام 2005 الى "خطة شمولية لحماية البيئية، تتقاطع مع الوزارات المعنية المختلفة". ويلفت في برنامج عون وضعه التنظيم المدني وتحديد استعمالات الاراضي في طليعة الاهتمامات البيئية، واعتباره وزارة البيئة "وزارة بامتياز". وبهذا يؤسس لمنطلق صحيح في التصدي لمشاكل البيئة اللبنانية.

النائب روبير غانم، الذي يستمر في الترشح بناء على برنامج وضعه عام 2004، يتحدث تحت عنوان "ثقافة التربية البيئية" بعبارات مختصرة، اذ يطالب بوضع "الآليات اللازمة من خلال التشريعات للحفاظ على جمال الطبيعة والحد من التلوث واضرار النفايات". وبعد ان يؤكد على اهمية ادارة الوارد المائية، يدعو الى تشجيع "استخدامات الطاقة البديلة". كلها مواضيع مهمة، بلا شك، لكنها تبقى في نطاق الجزئيات. فالمطلوب من برنامج رئاسي ان يحدد الاستراتيجيات والخطط والعناوين الكبرى بمنهجية علمية، لا اختيار بعض العبارات اللماعة على نحو انتقائي.

الاستاذ الجامعي الدكتور شبلي ملاط ضمّن برنامجه الرئاسي الكثير من الافكار الاكاديمية لفلسفة البيئة. لكنه على المستوى العملي دعا الى "ادخال البيئة كمؤشر أساسي في المعادلة الاقتصادية"، واقترح تشكيل "كتيبة خضراء" من عناصر الجيش والقوى الامنية للقيام "بحملات بيئية تحقق تغييرا نوعيا في مناظرنا الطبيعية". وهنا عود على بدء، فمع ان ملاط يستفيض في عرض الخلفيات الفلسفية ونظريات رعاية البيئة، ويعدد عناوين مشاكل بيئية، الا انه يعود دائما الى النمط الشائع في مناجاة جمال الطبيعة. لكن افكاره البيئية تبقى الأشمل من الناحية النظرية، مع جمعه مقترحات من تقارير نشرت خلال السنوات الاخيرة.

لعل برنامج النائب السابق نسيب لحود الرئاسي هو الوحيد الذي يعرض بشمول ووضوح لقضية البيئة في مفهومها الحديث. وفيه أن "البعد البيئي يشكل التحدي الاكبر للتنمية المستدامة... وهو يضاهي أهمية الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصا في بلد صغير ومزدحم سكانياً مثل لبنان، حيث تعتبر طبيعته ومواردها الرئيسية، من ماء وهواء وتربة ومساحات خضراء، بمثابة رأس مال حقيقي يفترض حمايته وادارته واستثماره لحفظ ديمومته للأجيال الآتية ايضا".

ويعدد نسيب لحود بعض الاولويات البيئية: "ان تشجيع استخدام الطاقة المتجددة والزراعة البيولوجية وحماية الثروة المائية ونوعية المياه والسياحة البيئية الاجتماعية غير التقليدية والنقل المستدام وتأمين الامن الغذائي وحماية المستهلك وحسن ادارة الغابات ومعالجة المخلفات والنفايات الصلبة والسائلة، قد تكون من أهم الميادين التي يمكن لبنان ان يبني فيها ميزات تفاضلية وتنافسية، نظرا الى مقوماته الطبيعية. فالشروع في سياسات تزاوج البيئة مع المفهوم التجاري الحديث يضع لبنان في موقع ريادي في المنطقة قد يصعب عليه ربما استرجاعه في بعض القطاعات الكلاسيكية. بالاضافة الى ضرورة وضع استراتيجية للتنمية المستدامة واصدار المراسيم التطبيقية والتنظيمية لقانون البيئة، واقرار المخطط التوجيهي الشامل لترتيب الاراضي اللبنانية وخطة وطنية لاستصلاح الاراضي والتخطيط العمراني، وتطبيق مرسوم دراسة الاثر البيئي للمشاريع وتقويمه قبل اطلاق أي مشروع، وتقديم حوافز للمؤسسات التي تدخل العنصر البيئي في صلب عملية الانتاج".

نحن هنا أمام رؤية واضحة للأولويات ومفهوم الادارة البيئية، وعلاقتها بالتنمية، والابعاد الاقتصادية، وأدوات التطبيق، تصلح مقدمة فصل البيئة في البيان الوزاري لحكومة العهد الجديد الموعود، مع اضافة بعض التفاصيل.

المهم ان جميع المرشحين الذين أعلنوا برامج رئاسية تحدثوا عن البيئة، وأجمعوا على ضرورة وضعها في أولويات اهتمامات الحكومة. وما قاله أي من المرشحين يكفي منطلقا لعمل بيئي جدي. كما أن ما أعلنوه يصلح لأن يكون مادة مساءلة في المستقبل، يستطيع البيئيون الاستناد اليها لمحاسبة أي منهم اذا أصبح رئيسا للجمهورية. لكن لون البشرة وفئة الدم وطول القامة، كما قلنا، قد تكون أهم في اختيار الرئيس من البرنامج البيئي. واذا كان بين النواب الناخبين من يقرأ البرامج الرئاسية، فقد يكون الوعد بتشريع استفادة الازلام والعائلة والحاشية من المقالع والكسارات ولو على رؤوس كل الجبال، والسماح ببناء ناطحات سحاب خلافا للقانون فوق كل السطوح، وفتح الشواطىء العامة للنهب الخاص، أكثر اغراء من وعود رعاية البيئة.

على رغم هذا كله، يبقى ادخال البيئة عنصرا رئيسيا في برامج جميع المرشحين المعلنين ظاهرة صحية فريدة في المنطقة العربية، وقد تكون أكثر ما يدعو الى التفاؤل في هذا الزمن الرديء.

أما على أرض الواقع، فنأمل من أطراف المعركة، اذا اختلفوا غدا على نصاب او مرشح، او لم يعجبهم رئيس منتخب، ألا ينسوا وعودهم البيئية، فيمنعوا أنصارهم من الاحتجاج الهمجي باقفال الطرق وتلويث الهواء بسموم الاطارات المحروقة... ناهيك باطلاق المتفجرات والمفرقعات اذا فرحوا بالنتيجة.

تعليقات: