كلمة «أمكَ، أمكَ، أمكَ ثم أبوكَ»


وأخيراً فتحت الأم فخذيها ومن بينهما خرج توفيق إلى الدنيا. في لحظات صمت ضربه الجرّاح بلطف على دبره، ومن تلك الضربة أعلن توفيق وصوله إلى عالم الدنيا. بدأ صراخه، تبسّمت أمه، وضحك أهله وبارك من عرف أباه بتوفيق وصوله.

تسعة أشهر من الحنان والرفق والعناية عاش توفيق في رحم مظلم. يؤنسه دقات قلب أمه وحنان روحها. علمه بأنه قربها هدّأ من روعته. خصوصاً، علمه أن حياته موصولة بحياتها. ليس عليه خوف ولا جزع. نام مطمئناً ساجداً إذا إنه على وجوده أم حامية.

عانت الأم عائدة من حمل إبنها توفيق. إنه إبنها الثالث. لقد أسقطت بأختيه من قبل. الحمدلله، لقد خرج للدنيا سالماً.

منذ نعومة أضفاره، عائدة كانت لإبنها الحامي والمحامي. حمته من عطش النهار وظلمة الليل. وحمته من أقرب الأقربين. إنها أمه وأباه. وأباه ما زال موجوداً. إنه آبنها. إنه حلمها. منه تنفست الصعداء. منه رأت الدنيا. ومن خلال عيونه لامست ما رغبت به وإليه، حلم الأمومة.

كبر توفيق بين حضن أمه وأبيه. تنعّم بخيرهما. لم يعمل. درس وتخرّج وتوفّق بدعاء أمه وتعبها وتعب أبيه.

مع كبر توفيق كبر أهله. رغبتهما كانت أن يجد إبنة حلال يقترن بها، ومنها يأتي بالبنات والبنين. سمع الله دعوتهما. لقد لهف قلب توفيق لهيام. وشاء لهما أن يتزوجا.

هيام جميلة ولطيفة. إنها من أقاربه. دخلت هيام عائلة توفيق بكل توفيق. حنان عائدة رفق بهما ولفهما برعيته الطيبة. خصوصاً، أن حال زوجها الصحية يوماً بعد يوم تتأثر وأصبح الخوف من فقدانه هجاسها. لم يتأخر نداء الموت. لقد توفي زوجها في صباح اليوم التالي. ها هي عائدة سبعينية وتعيش وحيدة. توفيق وزوجته يعيشان على بعد مسافة قريبة منها.

مرّت الأيام وكبرت عائدة، وكبرت وكبرت. لقد أصبحت عجوز ضعيفة. لم يعد يزورها أحد. حتى توفيق قاطعها. أخر ما سمعت أنه يريد لعائلته حياة رغيدة وسعيدة. وعلمت أن أم زوجه تسكن معهما من فترة بعيدة. أمنيتها أن تسمع صوته. أن تشّم رائحته. لقد إشتاقت لأبنها. لقد إشتاقت لوحيدها.

على عكزتها مشت، ومشت، ومشت إلى أن وصلت بيت توفيقها. مع طرقها للباب سمعت قهقهة عالية أتية من خلف باب إبنها. فتحت الخادمة الباب، لقد رأتهما، هيام وأمها يشربن الكولا ويفصفصن البزر والفستق على بالكون بيتها. نعم، عندما تزوج توفيق رفقاً به أمه عائدة تركت له البيت ولهيام لكي يبنيا حياتهما معاً.

عند رؤيتها أسرعت هيام وأستقبلتها وهمّت بإدخالها. على إستعجال من الخلفِ جهر الصوت عالياً، "ماذا تفعلين هنا؟" إنها أم هيام توبّخ عائدة.

آه، ما للعجوز أن تجاوب. رجعت بخطاها. كرامتها لا تسمح لها بسماع الإهانة من حَماة ضناها (إبنها).

عادت عائدة حزينة مكسور خاطرها وببطئ تتلكئ على عصاها. وما أنت وصلت إلى باب دارها، صوت طفولي من على شرفة منزل أبنها يناديها، تاتا تاتا. أنا هنا تاتا، بحبك تاتا. إنه حاتم إبن توفيقها.

إنه حاتم إبن توفيقها.

أمكَ، أمكَ، أمكَ، ثم أبوكَ.

وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

إبراهيم.

--------- --------- ----------

صفحات موقع "خيام دوت كوم" ستبقى مفتوحة دوماً للجميع، منبراً حراً لنشر أدبياتهم وآرائهم واعلاناتهم وكتاباتهم وصورهم، ضمن حدود اللياقة والأصول، خدمة لأبناء منطقتنا العزيزة.

والآراء المنشورة تحمل رأي كتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "الموقع" أو توجهاته.

يمكن التواصل معنا، عبر بريدنا الألكتروني: info@khiyam.com

تعليقات: