مسؤولية الكلمة..‎


بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ 24 تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ25 وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار 26 يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ27﴾ ( سورة إبراهيم)


أولا ً: أهمية الكلمة ودورها :

لا شك أن الكلام هو وسيلة الاتصال الأهم بين البشر, والكلمة هي مجموعة الأحرف المركبة التي توصل المعاني وتؤدي المقاصد, وتقرب البعيد وتعرّف المجهول, ولقد عانى الإنسان قبل اكتشاف الحرف من صعوبة التواصل مع أبناء جنسه, وتدرج في ابتكار وسائل وأساليب يحدثنا عنها تاريخ الحضارات, كالرسم والنحت والكتابة المسمارية وغيرها من الرموز التي لا تخلو من إيهام وتعقيد, حتى اهتدى أخيراً إلى استعمال الكلام واللغات التي تنوعت وتعددت, وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك النعمة بقوله تعالى :" ﴿ وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالاْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت لِّلْعَـلَمِينَ 22 الروم﴾.

ثانيا : الكلمة بوجهيها الإيجابي والسلبي :

تحدثت الآيات الكريمات من سورة إبراهيم عن وجهين للكلمة الوجه الأول هو الوجه الطيب الذي شبه بالشجرة الطيبة دائمة الأُكُل أي المثمرة على الدوام تعطي الخير وتقدّم النفع دون انقطاع ولا تبخل بثمارها الطيبة الجنية, وما أروع هذا التشبيه الذي يكون فيه وجه الشبه بين الكلمة الحسنة والشجرة المثمرة هو العطاء الذ ينفع الناس وينتج الخير والسعادة, ثم تأتي الآية التالية لتصور لنا الكلمة السيئة المؤذية والتي شببها القرآن الكريم بالشجرة الميتة اليابسة التي لا يرجى منها خير ولا ثمر وقد اقتلعت ورميت في طريق الناس لتعيق حركتهم وتعطل مسيرتهم مسيرة العطاء والعمل والخير.

من خلال هذه الصورة الرائعة التي يقدّمها القرآن الكريم لنا ندرك أهمية الكلمة في تنوّعها وفي آثارها ونتائجها.

ثالثا : مسؤولية الكلمة :

بالنظر إلى أهمية الكلمة وآثارها, وما يترتب عليها من عواقب ونتائج, فقد أكد القرآن الكريم على أنّ الإنسان محاسب على كل ما يتفوّه به من كلام, وكل كلمة محسوبة عليه, يقول تعالى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ18 ق﴾ لذا فلا بدّ من التفكّر والتدبّر قبل إطلاق العنان للّسان بالكلام, لأن كثيراً من الكلام أورث صاحبه الندامة والحسرة, وربما أودى به إلى الهلكات.

قال رسول الله (ص) لمعاذ بن جبل عندما سأله : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم ؟ "وهل يَكبُّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم."

قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: "يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح فيقول أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً فيقال له خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام, وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرج الحرام وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من جوارحك".

رابعا: نماذج الكلمة الطيبة :

١ - القول الحسن :فالإنسان الذي يحسن منطقه, يحلو معشره, وترتاح له النفوس وتطمئن القلوب,لأن أثر الكلمة الحسنة كالماء الذي ينبت الزرع, وقد أكد الإسلام على أهمية الكلمة الحسنة في الدعوة إلى الله وهداية الناس قال تعالى : ﴿ وقولوا للناس حسنا واقيموا الصلاة واتوا الزكاة البقرة 83﴾ .

٢- القول السديد : وهو قول الحق الذي يثبت الحق ويبطل الباطل, ويحاسب الظالم وينصف المظلوم, وبالتالي يكون صارماً كالسيف لا يماري, ولا يجامل, ولا يداهن على حساب الصدق والحقيقة, قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً الاحزاب 70﴾.

3- القول النافع : وهو الذي يعود بالفائدة على مستمعيه وينفعهم في دنياهم ولآخرتهم, وما أكثر القول النافع في أمور العلم والتربية والثقافة والدين والتاريخ, ما أكثر القول الذي إذا جرى على لسان قائله عاد بالنفع والخير على فقير, أو يتيم, أو جاهل, أو معوز, ما أكثر القول النافع الذي إذا قيل حرّر أمماً من الجهل, والتخلف, والوثنية, وغلبة الأطماع والمصالح, والأنانيات, قال تعالى : " ﴿ لا خير في كثيرٍ من نجواهم، إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس 114 النساء ﴾ .

٤- الحوار الجامع مع الأديان والملل الأخرى : الكلمة السواء التي تحدث عنها القرآن الكريم التي تجمع ولا تفرّق وتبني جسوراً مشتركة مع من تشترك معهم في الإنسانية وربما تختلف معهم في الدين , أو السياسة, أو العرق, أو الجغرافيا, أو اللغة, لهذه الكلمة أثرها العجيب في تقريب القلوب والعقول المتنافرة, ولها سحرها الخاص في إطفاء فتيل الشر والحرب والفتن, فلكم حفل التاريخ بأحداث شعوب أحرقتها نيران حروب وأهلكت الحرث والنسل, ولم يكن ينقص هذه الشعوب إلا الاحتكام لمنطق الحوار والكلمة السواء, قال تعالى : ﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا 64 آل عمران﴾ .

خامسا : نماذج الكلمة الخبيثة :

1- الغيبة : وهي من مساوئ الصفات وأقبحها لما فيها من أذية للناس والتشهير بهم وكشف عيوبهم, ولما تنتجه من كراهية, وعداوة, وبغضاء بين الناس, وقد نهى عنها القرآن الكريم أشد النهي, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ 12الحجرات ﴾.

2- الفتنة : وهي من نماذج القول الضار الذي يؤدي إلى الخلاف وإثارة المشاكل, وربما كان سبباً في اندلاع الحروب, واشتعال الفتن التي تكون نتائجها خراباً للعمران, وسفكاً للدماء, ونهباً للأموال, وهتكاً للأعراض. قال تعالى : ﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ 48 التوبة ﴾.

3- السخرية والإستهزاء : من مصاديق الكلام السيئ الخبيث ما يتعرض به الإنسان لأخيه الإنسان من كلام جارح يسيئ إليه ويجرح مشاعره, ويدلل على عيوبه وعاهاته الخَلقية والخُلقية, وهذا السلوك مرفوض عقلا ومنطقاً وشرعاً, لأنه لا يحق لأحد أن يسخر من أحد خصوصاً وأن موازين التفاضل تختلف من شخص لآخر, فلربما كان الشخص الذي تسخر منه لعيب في جسمه هو أفضل منك علماً وفهما, وأكثر قرباً وخوفاً وطاعة لله. قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11 الحجرات﴾ .

4- الكذب على الله ورسوله : وهو من الكلام المفترى على الله وعلى أنبيائه ونسبة ما ليس من الدين إلى الدين, وتدخل تحت هذا العنوان الفتوى بغير العلم وما ينتج عنها من تحليل للحرام أو تحريم للحرام وهذا عمل تشريعي لا ينبغي لأحد من البشر, وهو جرأة على الله وتعد لحدوده. قال تعالى : ﴿ولا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون النحل116﴾.

5- الإساءة للوالدين : اعتبر القرآن الكريم أن أصغر الكلمات التي ممكن أن تؤذي الوالدين او تكسر خاطرهما محرّمة وممنوعة, وقد دعا إلى الإحسان إليهما بالكلام والفعال لما لهما من فضل على أولادهما , ولهذا فقد اعتبرت كلمة أف المؤلفة من حرفين كلمة كبيرة وخطيئة جسيمة عند الله لما لها من أثر سلبي كبير على شعور الوالدين وكرامتهما. قال تعالى : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا الإسراء 23﴾.

سادساً : فضول الكلام :

كما أمر الإسلام بالكلمة الطيبة ونهى عن الكلمة الخبيثة فقد حذّر أيضاً من الخوض في فضول الكلام ولغوه, وقد نهى الإنسان المسلم عن الخوض فيما لا يعنيه من الكلام لإنّ هذا الفعل يسبب له الملامة ويجلب له المشاكل. وقد دعا الإسلام إلى التزام الصمت لأن فيه الهيبة والوقار وذلك في المواضع التي يكون فيه الصمت أفضل وأبلغ من الكلام, إما حينما يتعلق الأمر بإثبات حق أو نكران باطل فيكون الكلام جهاداً ويكون السكوت ظلماً وشراكة في الخطيئة .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لرجل يتكلم بفضول الكلام :" يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك, فتكلم بما يعنيك, ودع ما لا يعنيك ."

وقد ورد أيضا :" من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه ."

إعداد : الشيخ محمد قانصو

تعليقات: