أيهما أهم: تمويل «السلسلة» أم جمعيات زوجات المسؤولين؟


ما يزال ملف «سلسلة الرتب والرواتب» على النار. حتى الآن كل المؤشرات تشي بأن لا أحد ضد إقرارها. الكل يتنافس على إعلان حب «السلسلة»، بعيداً عن النوايا. تم تكبير حجر تأثيرها على الاقتصاد، حتى كاد أصحابها يصدقون أن حصولهم على حقهم لا يستوي إلا بتدمير الاقتصاد. مع ذلك، فإن «هيئة التنسيق» ما تزال صامدة على موقفها، بالرغم من كل محاولات ضربها: لا علاقة لنا بكيفية تأمين الموارد.

أمس، أعطى رئيس مجلس النواب نبيه بري جرعة أمل إضافية إلى الموظفين القلقين. حوّل تأييده لـ«السلسلة» خلال الجلسات التشريعية إلى أمر واقع. قال لـ«السفير»: «إذا لم تنه اللجان المشتركة دراسة المشروع في جلستها الصباحية اليوم، فإنه، من الآن، سأدعو إلى جلسة مسائية لاستكمال النقاش. وإذا لم تنجزها في الجلسة المسائية، فإن النواب مدعوون لجلسة جديدة تعقد يوم غد الثلاثاء». وأشار إلى أنه طلب من نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري تأجيل سفره، الذي كان مقرراً إلى فرنسا، من أجل متابعة ترؤس اللجان، معلناً أنه إذا صدق المشروع في اللجان اليوم أو غداً فيضعه على جدول أعمال الجلسة العامة المقررة يومي الأربعاء والخميس.

ولأن احتمال التأخر في تصديق اللجان للمشروع يبقى قائماً، فقد أشار بري إلى أن ذلك لن يكون نهاية العالم. مؤكّداً أنه سيدعو إلى اجتماع آخر للجان، جازماً أنه حتى لو انتخب رئيس جمهورية، فهو سيدعو إلى جلسة عامة بعد جلسة الانتخاب بساعات لإقرار «السلسلة».

وزير المال علي حسن خليل يتعامل مع المشروع على أنه سيقر قريباً. بالنسبة له ثمة ثلاث ثوابت: «السلسلة» التزام سياسي ووطني، تأمين الإيرادات ليس مشكلة أصحاب الحق، المطلوب تأمين إيرادات إضافية للخزينة، بغض النظر عن مسألة «السلسلة». في النقطة الأخيرة فتح خليل باباً ظل مغلقاً منذ استقالة الوزير شربل نحاس. أعلن، في اجتماع مع هيئة التنسيق، أن زيادة الضرائب التقليدية ليس هو الحل، إنما حان وقت البحث في الضرائب غير التقليدية، ولاسيما ما يتعلق بالمصارف والعقارات. هذا يعني أولاً إبعاد الكأس المرة للضرائب والرسوم عن المواطنين بشكل عام وتوجيهها لتطال بعض الذين يمعنون في استغلال غياب العدالة الضريبية لمراكمة الثروات.

الإيرادات غير التقليدية

الأكيد أن هؤلاء صاروا على يقين أن منع الانهيار الذي سيكونون أول المتأثرين بعواقبه، يحتم عليهم التخلي طوعاً عن بعض امتيازاتهم. الأفكار المتداولة كثيرة في هذا السياق، علماً أن وزارة المالية لا تبدو بعيدة عنها. ثمة من يجزم أنه فور الانتهاء من دراسة بنود الإيرادات الواردة في تعديلات اللجان الفرعية، فإن خليل سيخرج من جيبه ورقة الإيرادات «غير التقليدية».

ينكب معظم الاقتصاديين والخبراء الماليين هذه الأيام على فكفكة رموز «السلسلة». كل منهم ينطلق من رؤيته لوظيفة الدولة، ليبني أفكاره حول كيفية المواءمة بين حقوق الناس وبين تأثير كلفتها التي قدرت بـ2765 مليار ليرة على الاقتصاد، إن لناحية زيادة معدل التضخم أو لناحية التأثير على الليرة، إضافة إلى احتمال انخفاض تصنيف لبنان الائتماني، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع خدمة الدين.

لا تضخم من الهدر!

ثمة من يدعو إلى النظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، زاوية لا تحمّل الموظفين مسؤولية التضخم المحتمل، فيما هم لا يطالبون إلا بحقوقهم. وجهة النظر هذه تعود إلى أصل المشكلة. وتطرح سؤلاً: كيف يكثر الحديث عن التضخم الناتج عن زيادة الرواتب، فيما لا أحد يتحدث عن التضخم الذي ينتج عن عدم ضبط الهدر والإنفاق غير المجدي؟

ليس النقاش متعلقاً بأصل الهدر، إنما بتأثيره على الاقتصاد فقط:

- ألا يؤثر المبلغ الذي يخصص لجمعيات تديرها زوجات مسؤولين في الدولة، ويصل إلى ألف مليار ليرة، أي أكثر من ثلث قيمة «السلسلة»، على التضخم؟ علماً أن الجميع يعرف أن معظمها جمعيات وهمية أو لا عمل لها، خاصة إذا عرفنا أن إحداها، على سبيل المثال، وتديرها زوجة وزير حالي، تعنى بحماية نسل الخيل العربي في لبنان!

- ألا يوجد أثر تضخمي لما يصرفه «مجلس الإنماء والإعمار» من أموال على مشاريع لا أحد يعرف إن كانت ستنتهي أم لا، والتي لا يتردد في ذكرها في «تقارير تقدم العمل» التي يصدرها، مبيناً الفوارق المالية بين ما يُنجز أو ما هو قيد الإنجاز!؟

- الكل يعرف أن عجز الكهرباء وصل إلى حدود منهكة للاقتصاد، فهل يحتمل هذا القطاع المزيد من الهدر، حتى لو كان بمئات آلاف الدولارات؟ أبسط الأمور تنظيم وصول بواخر الفيول، بدل أن ترسو لأشهر في الموانئ اللبنانية بانتظار إفراغها في الخزانات، علماً أن «بدل الأرضيات» عن كل يوم تبلغ 24 ألف دولار. ثم ألا يمكن توفير نحو 300 مليار ليرة بمجرد العودة إلى الالتزام بالعقود الموقعة مع الكويت والجزائر لاستيراد الفيول، بدل دفع مبالغ كبيرة للوسطاء؟

- ألا يوجد أثر تضخمي للمبالغ التي تهدر في الجمارك، والذي تتراجع عائداته كلما زادت الواردات؟

باختصار، إذا كان ما سبق مجرد عيّنة عن الإيرادات التي تضيع على الدولة، ويتوقع البعض أن تكون معالجتها ضمن اهتمامات «المالية»، فهو أيضاً عيّنة عما يمكن للحكومة، بقليل من الجهد والإرادة، أن تقوم به لتعزيز موارد الخزينة، من دون الحاجة إلى فرض أي ضرائب جديدة، والأهم من دون تعريض الاقتصاد للاخطار التي يكثر الحديث عن أن «السلسلة» ستتحمل مسؤوليتها.

من يريد إغماض عينيه عن مسارب الهدر بالحديث عن المبالغات تارة وعن غياب الدولة تارة أخرى، مفضلاً رؤية الضرائب كحل لكل المشكلات، عليه أيضاً أن لا يرى بعين واحدة. وكما توجد ضرائب مباشرة لا تميز في الغالب بين فقير وغني، ثمة ضرائب أكثر عدالة وتطال المكلفين كل بحسب قدراته. فالمصرف الذي يحقق أرباحاً صافية تصل إلى مئات ملايين الدولارات سنوياً لن يتأثر إذا ما تراجعت هذه الأرباح خمسة بالمئة على سبيل المثال. والشركات العقارية التي تراكم الأرباح الطائلة لن تتأثر إذا ما تخلت طوعاً عن الجزء اليسير من أرباحها على البيوعات التي تجريها. كذلك من يكدس الشقق الفارغة أو العقارات الكبيرة..

بين إقفال مسارب الهدر وتعزيز مصادر التمويل العادلة للخزينة، يمكن لمن يدّعي الخوف على الاقتصاد أن يجد ضالته. وإذا كان طرح «السلسلة» يتم في أسوأ فترة يمر بها البلد، بحسب البعض، فإن ذلك يعتبر بالنسبة للبعض الآخر من الأسباب الموجبة لطرح الإصلاحات التي طال انتظارها والتي يمكنها أن تمول «السلسلة» وتريح الخزينة في آن واحد.

«1400 مليار في السنة الأولى»

مع ذلك، فإن رأياً آخر، يتبناه خبراء ونواب، بدأ يأخذ موقعه في كواليس «السلسلة». يتخذ هؤلاء من «التوفيق بين حقوق العمال وإمكانيات الدولة» عنواناً للحل الذي يرونه الأجدى والأكثر عملية. بالنسبة لهم فإن تقسيط «السلسلة» يشكل أفضل الحلول التي تضمن استيعاب تداعياتها، إن كان على الوضعين المالي والنقدي أو على القدرة الشرائية للمواطنين. أما التقسيط المطروح فيقصد منه الجزء المتعلق بتعديلات سلاسل الرتب والرواتب فقط، من دون شمول زيادة غلاء المعيشة الذي تدفع منذ سنتين (أي أن التقسيط سيطال 1900 مليار ليرة، وهو الفارق بين كلفة «السلسلة» الإجمالية وكلفة غلاء المعيشة المقدر بـ850 ملياراً). هذا يعني أن التقسيط أو التجزئة على سنوات أربع، على سبيل المثال، سيعني أن الكلفة ستكون أقل من 1400 مليار في السنة الأولى بدلاً من 2765 ملياراً، وبالتالي «فيمكن تأمين مواردها بدون تداعيات على الاقتصاد». من يسوّق لهذا الحل، المرفوض تماماً من قبل «هيئة التنسيق النقابية،» يبني توقعاته على افتراض تحسن الوضع الأمني والاقتصادي في السنوات المقبلة، على أن يبدأ العمل على وقف الهدر وتطبيق الإصلاحات لتبدأ بإعطاء مفاعيلها في المؤشرات الاقتصادية ووكالات التصنيف الدولية خلال السنة المقبلة.

تعليقات: