كيلو جرائد..

كيلو جرائد..
كيلو جرائد..


رحم الله أمي .. أذكر أنّها كانت تطلب مني الذهاب إلى الدكان لشراء " كيلو جرايد". لم تكن حينها بوارد إعداد أرشيف سياسي للأحداث المحلية والإقليمية، ولم تكن شغوفة بقراءة الافتتاحيات والمقالات البائتة، ولم تكن تهوى حلّ الكلمات المتقاطعة، ولم تغريها أبراج الحظ ، كلّ ما في الأمر أنّها كانت تريد مسح الغبار!. بقي عالقاً في مخيلتي كيلو الجرائد هذا، صورة أستعيدها من حَمَأة الجرائد والأخبار، وأستعيد كفّ أمي القابضة على سطور من وهم، وأخرى من فراغ..

لا تسيئوا فهمي يا أصدقائي، فإني لا أظنّ بالجريدة بالمطلق ظنّ السوء، ولا أساوي بين النور والظلمة، وبين التنوير والتضليل، ولا أصدر أحكاماً مبرمة على صفحات لا شك أنّها صديقة الشمس ..

على صفحات الجريدة تتعرّى الحقيقة أمام العيون الناهمة، وينتفض الخوف على نفسه، ويستبسل القلم في معركة الموقف، وإذا ما جفّ حبره يكمل بدّم!. على صفحات الجريدة يُستفزّ العقل، وتتحوّل علامات الاستفهام إلى حراب تبعثر المتراكم، وتزيل الصدأ عن أبواب المعرفة .

على صفحات الجريدة أبطال حقيقيون منهم من قضى، ومنهم من ينتظر رصاصاً يغتال الكلمات، ويخنق الصوت في الحناجر، ويطفئ النور في المحاجر ..

ولكن يا أحبائي ألا ترون أنّ رائحة الباطل تفوح من بعض الجرائد، وللباطل كما تعلمون روائح نفّاذة ؟!.

ألم تنهركم الرعدة الغاضبة من نفاق واضح، ورياء طافح، وتحسين للمساوئ وتجميل للقبائح؟

أوليس في كثير من المقالات المدفوعة سلفاً تضليلاً للنفوس، واستخفافاً بالعقول، وعزفاً على أوتار الغرائز؟

وجوه كثيرة تطلّ عليك من بين طيّات الجريدة، تستبشر ببعضها خيراً، وفي كثير منها تستطلع الخيبات. وتلاحقك هذي الوجوه أنّى حاولت الهروب، كأنّها قدر يوميّ تتجرّع علقمه مع قهوتك المرّة كلّ صباح، ثم يقودك السخط لدفنها مجدداً بعيداً عن ناظريك الملتهبين باللوم والحنق ..

جريمة مشهودة تتكرّر كلّ يوم، قتل متعمدّ للوعي تمارسه بعض الجرائد، تسويق لِلمَع، و تكفير للضد، عراضة إعلانيّة دائمة للجهات المانحة بأسعار تشجيعية ..

مؤسف أن لا تكون الجريدة حرّة مستقلة ، فهي إن فقدت حريّتها تصبح بوقاً ينفخ فيه الطبّالون، ويبدع فيه النّحاسون مسح الجوخ وتبييض الوجوه، ويصبح المال المبذول عليها كأجر الغواني ..

رحم الله أمي .. كانت أميّة لا تعرف القراءة والكتابة، ولكنّها أدركت بوعيها المتوقّد أنّ بعض الجرائد لا تُباع إلا بالكيلو، وأنّ بعضها لا يصلح إلا لمسح الغبار !..

* الشيخ محمد أسعد قانصو

تعليقات: