يوسف غزاوي: كبرت آلامنا وشاخت وآن لها أن ترتاح

الدكتور يوسف غزاوي في أحد معارضه الفنية التشكيلية
الدكتور يوسف غزاوي في أحد معارضه الفنية التشكيلية


كتابه الجديد غرنيكا الخيام يدعو إلى السلام والأمل

في كتابه الصادر في بيروت من دار الأنوار تحت عنوان غرنيكا الخيام: جدارية الوطن المشاغب، يرسم الفنان التشكيلي والناقد الدكتور يوسف غزاوي، سيرة الأمكنة انطلاقاً من ذاته ومن تجاربه ما بين بلدته الخيام ومدينة بيروت وباريس مروراً بمدينة القنيطرة المدمرة، مؤكداً أن تجارب الشعوب والأفراد هي ملك للانسانية جمعاء، وأهمية تسجيل هذه التجارب السيرة الذاتية ربما تشبه النصح الالهي لهذا الكائن الوجودي.

ان نص غرنيكا الخيام: جدارية الوطن المشاغب جزء من هذه التجارب البانورامية الدرامية لحياة فرد يمثل جيلاً من اللبنانيين، جيل الحرب كما جرت التسمية، مقاتل من صنف آخر وعلى جبهات أخرى، أسلحته تختلف عن أسلحة المقاتلين الذين رووا الحرب وأهوالها وقتلاها وعبثها، حكايته لا تشبه الحكايات الأخرى، بل تتميز عنها وتنفرد بملامحها وتفاصيلها وتوجهاتها، تجري أحداثها بين أمكنة ثلاثة مسقط رأس المؤلف الخيام ثم بيروت وباريس، والتفاصيل في هذا الحوار مع المؤلف:

تجربة حياة

كتابك هذا سلك وجهة مخالفة لكتاباتك الفنية ورسوماتك التي اندثرت في حرب تموز، كيف ترى ذلك؟

- خلافاً لكتابينا السابقين المختصين بالفن التشكيلي، الأول وعنوانه قراءات في فن التصوير الحديث والثاني رؤى تشكيلية حديثة ومعاصرة، وقد غلبت عليهما الدراسة التحليلية العلمية كمرجعية فنية للدارسين والمهتمين بمجال الفنون، فان كتابي غرنيكا الخيام سلك طريقاً آخر ووجهة مخالفة لسابقيه من حيث المنهج والاشكاليات والمقاربة والهدف. وان حمل عنواناً تشكيلياً آخر غرنيكا، فهو يهدف بشكلٍ مقتضب جداً الى نقل تجربة حياة انسانية بسيطة ومعقدة في آن، منذ تفتحها على نور العالم، مروراً بعمر الحب والمراهقة التي سلبتنا اياها القذائف والحروب، للوقوف على بعض معانيها ودلالاتها الانسانية والوجودية، وفيه أيضاً محطات تشكيلية على علاقة وثيقة بالنص العام الذي يتناول سيرة ذاتية ضمن ثالوث الحرب - الدراسة - الفن والكامخ بينهما.

فصول مأسوية

هل الدافع لكتابة الغرنيكا محاولة لعرض سيرة حياة؟

- لا ليس ذلك، بكل بساطة محاولة لنقل تجربة عاشها انسان فرد ما كان يجدر به أن يعيش بعض فصولها المأسوية أو أن يمر بدهاليزها، فالخطورة تكمن في إمكان تكرارها في أي زمان من أزمنة وطننا المستقبلية. هي أشبه بطريق الجلجلة، فنص بانوراما الحروب هو دعوة للسلام وادانة للحروب وصانعيها، ووجود النصوص الأخرى يحمل البعد الغشتالي والطباقي لهذه الثنائية اللازمة لتقدير السلام وأهميته من خلال تجارب الشعوب الأخرى فرنسا، جنيف، ايطاليا على سبيل المثال، من جهة أخرى خامرتنا الحيرة بخصوص العنوان غرنيكا الخيام مستوى من لوحة بيكاسو الفذة الشهيرة الغرنيكا 1937 التي جسد فيها الفنان اسم قريته الأسبانية الباسكية غرنيكا وخلد ضحاياها، الذين سقطوا نتيجة القصف الذي تعرضت له تلك القرية من قبل النازية الألمانية وقوات فرانكو المتحالفة معها.

غرنيكا بيكاسو وغزاوي

اذاً هناك قواسم مشتركة بين غرنيكا بيكاسو، وغرنيكا غزاوي؟

- هناك قواسم مشتركة بين بلدتي الخيام وقرية بيكاسو مع الغلبة للأولى، التي فاقت أحداثها أكثر زوايا العالم المعاصر مأساة ودماراً.

انطباعات مشحونة بالأحداث

كأن نصك يتمحور حول السيرة الذاتية، أليس من المبكر كتابة السيرة؟

- رب معترض أو قائل ان الوقت لم يحن بعد لكتابة ونشر المذكرات، فنحن لم نبلغ من العمر عتياً بما يسمح لنا بكتابة سيرة حياتنا، فنجيب بأن هذه الصفحات، اذا لم تكن سيرة حياة بالمعنى المتعارف عليه لنقص بعض الجوانب في السرد كالحياة العاطفية مثلاً، فلنسمِّها انطباعات وتجربة حياة في بعض النواحي، مشحونة بالأحداث والدلالات. ثم ان من يعش في هذا الوطن لبنان يحس بنهاية تاريخه الوجودي الشخصي والجسدي لانسداد أفق الطموحات والأحلام ولانسداد شرايين الحياة المعاشة، يحس بأنه قد أدى قسطه للعلى، وأسلم روح الثقافة والطموح، ولم يعد أمامه سوى سرد ما عاشه وعايشه ان كان يستحق ذكراً. صحيح أننا استعملنا ضمير المتكلم في السرد، لكن هذا الضمير لا يلبث أن يتحول الى ضمير الغائب في غفلة من الايقاع الزمني والسردي، حكايتنا أو - سيرتنا أو انطباعاتنا - فيها السلام، وفيها ما فاقها من وجع الحرب، انها ادانة لكل واحدٍ منا، كل واحد منا هو مشروع حرب، كما هو مشروع سلام وعبقرية، انها ثنائية غريبة مؤلمة وقاتلة. اللبناني جوكر الشعوب والحضارات، المبدع والخلاق، في الحرب كما في السلام، انه الضحية والجلاد في آن، ضحية نفسه وضحية الآخرين، مضى أكثر من ثلاثين عاماً على هذه الحرب وها نحن نحس دائماً أننا على عتباتها، هل هي هدنة لاستراحة المحارب - هذا ما لا نرجوه بالطبع.

أبعاد نفسية واجتماعية

ما الاشكاليات التي اعترضتكم أو طرحتموها في الغرنيكا؟

- لابد من اشكاليات تحضر في أي كتابة تحمل مواضيع وتوجهات، فهذا الخليط من كل شيء في الكتاب، قد يبعث على تساؤلات شتى، حول كيفية مقاربة الهدف العام المنشود، ناهيك بالأزمنة والأمكنة المتعددة، دون الاتيان بسيرة حياة أو تجربة مكتملة المعالم، ان نصوص بروفانس وملتقى الخيام التشكيلي، وجنيف امتداد لطفولتنا في الخيام، هي أبعاد نفسية وحياتية واجتماعية وجمالية لانسان مواطن يحيا على هذه الأرض، ويشارك الآخرين همومهم دون أن يبادلوه ذلك، ان للانسانية حقاً علينا في كشف مكامن الوجع في الجسم وتشخيص الداء بغية اعطاء الدواء الناجع الشافي، اذا ما أمكننا الى ذلك سبيلاً. أما خلاف ذلك فيعد جريمة نكراء بحق تلك الانسانية، هنا يكمن سبب كتابتنا لهذه النصوص الصرخة الصادقة دون مبالغات تُذكر ودون ادعاءات باطلة، ان ما طرحناه لا يعدو كونه ضمن محطات قليلة من تفاصيل كثيرة في حياتنا لم نأتِ على ذكرها لعدم حاجة النص اليها.

كأنك هنا تدخل ذاكرة القارئ من باب الوعظ والحكمة؟

- الوعظ ليس مرادنا، لقد كبرت آلامنا وشاخت، وآن لها أن ترتاح كما يرتاح الانسان الهرم بعد تعب وعمر. لقد كبر الانسان في داخلنا، انها محاولة لملمة بعض الشتات، شتات ذاكرتنا وحضورنا، فهل نستطيع ذلك - انها استحالة عبّر عنها الأديب الكبير ميخائيل نعيمة في كتابه سبعون حين قال: انك مخادع ومخدوع كلما حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك، لأنك لن تحكي منها الا بعض بعضها.

وطن الجمال

ما أوجه الشبه بين كونك رسام حالة حداثوية وكاتب سيرة أمكنة وسيرة حرب؟

- الكتاب لم يقتصر على الحرب والوجع فقط معاذ الله، فوطننا وطن الجمال، كما هو وطن الحرب والخلافات والشرذمة. حكايتنا حكاية الفن كما هي حكاية الحرب. ثنائية ما بعد الحداثة المستمرة منذ تأسيس هذا الوطن. أي أن ما بعد حداثتنا هي سابقة لما بعد حداثة الغرب بعقود، الانسان يحمل دائماً نقيضه بداخله، وأبناء الوطن متعددو الاتجاهات والمواهب. فكما الحرب هناك أيضاً الفن، الفن شيء مقدس لا يمكن للانسان أن يحيا من دونه، رسالتنا هي رسالة الفن والسلام والمقدس.

الزمن الدرامي

تتحدث في معظم كتاباتك عن الأزمنة، وفي جديدك تنطلق من هذه الأزمنة لتأبيد الأمكنة لطرق أبوابها، كيف ترى الى الزمن؟

- الزمن تلك المفردة الوجودية التي تختصر الانسان في كل ثنائياته الغارقة في مغزى الفكر والحياة والموت، كان دائماً المحور والمحرك لعطاء الانسان بكل أبعاده وارهاصاته. الزمن يقهر الانسان بامتداده الأزلي، فيرد الانسان التحدي عبر الابداع، فكانت فكرة الخلود من خلال الأعمال الفكرية التي يشكل الفن أبرز ركائزها، حيث الأمثلة كثيرة ومتعددة عبر هذا الوجود الانساني منذ مرحلة المغارات والكهوف، مروراً بالحضارة الفرعونية وصولاً الى عصرنا الحاضر، وقد تختلف المحاولات عبر الأزمنة والعصور، الا أنها لا شك تندرج جميعها ضمن ذلك المفهوم بنسب متفاوتة القصد، فقد شكل الزمن تحدياً كبيراً لهذا الانسان، فنتج عن ذلك عطاءات الفنانين والفلاسفة والأدباء والعلماء، لقد أثبت الأدباء والفنانون في أعمالهم مقدرة كبيرة لا تتبدد باستدعاء الماضي لاستشراف المستقبل، فهم يبثون الحياة في الزمن الماضي والمستقبل ليصبح جزءاً من واقعهم. انهم يصنعون زمنهم الذي لا يخضع لمنطق تاريخي موحد متسلسل، بل للزمن المبتكر غير الخاضع للقياس الطولي المحسوب، أما الفن التشكيلي فقد أعطى للزمان أهميته، لكنه زمن مزدوج حسب عالم الجمال الفرنسي اتيين سوريو أي زمن للتأمل من ناحية وزمن كامن في العمل الفني من ناحية أخرى، فيرى أن ثمة ضرباً من التفاعل - يتميز بالتوافق والنشاز - يوجد بين هذا الزمن وذاك، ان زمننا هنا ليس الزمن الروائي الكامن في العمل الفني، وليس الزمن الذي تتطلبه قراءة العمل الفني، أو على سبيل المثال، زمن كاندنسكي الذي يشكل المحور المركزي لكتاباته زمن البحث عن المعنى ولا زمن المستقبليين الذي يكمن في البعد الرابع، بل هو الزمن الدرامي حسب تعبير سوريو، ان استعمال الوحدات يخضع لايقاع شاعرية البناء الزمني، يقول سوريو: ان الانسان يمارس سلطانه في مجال الفن من أجل السيطرة على الزمان، والعمل على صياغته وتشكيله وتنويعه من حيث الكيف وتوليده بوسائل تشهد عليها تحف الفن التشكيلي. فالزمان هو المادة الواضحة التي تصاغ منها الأعمال التشكيلية، لقد قمت باستعارة بعض المفردات من صلب التاريخ الفني الماضي وأدخلتها ضمن صياغة جديدة خاصة بي، فلم يعد لتلك المفردة معناها الذي وضع لها بالأصل أو من أجلها، بل دخلت هذه المفردة التشكيلية في سياق آخر جديد أو ضمن تركيب مختلف، تماماً كما يحصل الأمر مع عملية اللغة المكتوبة، الأحرف الأبجدية والمفردات هي ملك لأي مؤلف يضعها في لعبته البنائية الصياغية لتتولد الدلالات المختلفة الجديدة والمغايرة لغيرها من الصياغات.

الفن الشهيد

ماذا عن أعمالك الفنية التي اندثرت في حرب تموز وأكلتها النيران؟

-لقد أصابت الصواريخ الذكية مني مقتلاً في حرب تموز 2006، حين أصابت المبنى الذي أسكن فيه مع محترفي في حارة حريك. وذهبت كل أعمالي وثروتي الفنية هباء. أعمالي الفنية ومكتبتي الغنية جنى عمري وأبحاثي ووثائقي وأوراقي على مدى ثلاثين عاماً، وكذلك الأمر مع أعمال زوجتي الفنانة التشكيلية سوزان شكرون. وقد عرفت مدى وجع الفنان سعيد أ.عقل، عندما فقد أعماله في بلدته الدامور أثناء الحرب الداخلية القاتلة. وفيها عرفت لماذا اغتالت اسرائيل بيتنا المتواضع في الخيام وخسرت أعمالي الطفولية فيه. واغتالت بيتي وأعمالي في حارة حريك، تركنا للريح والنوائب. خسرنا محترفنا وأعمالنا، نحتمي من موت نشم رائحته ونراه قادماً نختبئ في أمكنة تختبئ بدورها من الموت المستعجلة خطواته كهارب من موته. لم تعد الأمكنة سوى حطام ودمار نفسي، نجترعه كحبة دواء لا تشفي من مرض وألم. نستيقظ صبيحة كل يوم، نتحسس أجسادنا علها لم تصب بشظايا من شظايا الوطن المكسور على وقع الانفجارات المتنقلة، نقف أمام المرآة ننظر لنتأكد أننا مازلنا أحياء نتنفس هواءً وطنياً. يكبر فينا الوطن ونلتقي تحت راية الفن الشهيد، الناس تراكم عبثها وحياتها المفترضة ونحن نراكم همنا الثقافي وفرحنا، أنا واحد من مجموع حالم وطموح. آلمتني الحرب كثيراً، الزمن يتغير والذين يتغيرون معه ينجون. يتغير الأشخاص وتتغير أعمارنا، فنكبر مع هذا الزمن العابر بلا استئذان وعلى غفلة منا. والخيام صورة مصغرة عن وطني. الخيام ترسم غرنيكاها على وقع الحروب والآلام. الحروب مستمرة. والجدارية قائمة على زغل، وفي الظلام. غرنيكا بيكاسو تغطي جدار الأمم المتحدة، السياسة تغطي جدار العالم، ووحدها الخيام تعرفنا ونعرف غرنيكاها...

تعليقات: