اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة


اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(1)

أسلاكٌ شائكة، وجدرانٌ اسمنتية، وتلالٌ رملية، وكتلٌ حجرية، وحواجزٌ عسكرية، ونقاط تفتيشٍ وتدقيق، وكاميرات مراقبة ومتابعة، وجنودٌ وعيونٌ، ومباحثٌ ورجال مخابرات، وأجهزة لاسلكي ومعدات اتصال، وسياراتٌ عسكرية وعرباتٌ ودبابات، وبنادقٌ ومدافعٌ ورشاشات، وقيودٌ حديدية، وسلاسل معدنية، وفي الجوار جثث وبقايا أشلاء، ودماءٌ وآثارُ تعذيبٍ وقتل، على أبواب كل المخيمات الفلسطينية، وعلى مداخل تجمعاتهم السكنية، في سوريا ولبنان، وفي الأردن وفلسطين، لا فرق بينها، ولا اختلاف في أشكالها، وكأن سكانها مجرمون قتلة، وهاربون مردة، أو مهربون فسدة.

كأنه قدر الفلسطينيين في كل زمانٍ ومكان، أن يحاصروا ويضيق عليهم، وأن تغلق في وجوههم الأبواب، وتسد أمامهم المسالك، ويمنعوا من الدخول والخروج، ويحرموا من العيش الحر الكريم، فلا يسمح لهم بالخروج للعمل، أو العلاج والسفر، أو الدراسة والصلاة، أو البيع والشراء، ومن غامر فإنه يقنص ويقتل، أو يحبس ويشبح، ويعذب ويسحل، حتى يموت أو يقتل، والكل في الأمر سواء، فلا فرق بين شيخٍ عجوزٍ وشابٍ جلدٍ، ولا بين طفلٍ صغيرٍ ولا صبيٍ يافع، ولا بين فتاةٍ وامرأة، ولا بين أمٍ مرضعٍ أو حامل، فكلهم هدفٌ وحالة، ينبغي التعامل معها بقسوةٍ وشدة، فلا نجاة لمغامر، ولا سلامة لمضطر، ولا تفهم لحاجةٍ أو مرض، ولا رحمة لطفلٍ أو شيخ، ولا شهامة مع امرأةٍ أو بنت.

قد يتفهم الفلسطينيون هذا الحال في مخيمات قطاع غزة قديماً، أو في مخيمات الضفة الغربية، التي تعيش تحت الاحتلال، وتعاني من صلفه وظلمه، ومن اعتداءاته وانتهاكاته، ومن غدره وغيه، فهذه طبيتعه، وهي جبلته، فلا غرابة في تصرفاته، ولا تعجب من سياساته، ولا استنكار لممارساته، فالأصل فيه وعنده البطش والقمع، والتنكيل والاعتقال والقتل، والمنع والحصار والتشديد والعزل، والتجويع والحرمان والقهر، وعندما يكون حراس المخيمات جنودٌ إسرائيليون، وهم مدججون بكل أنواع السلاح، ومتأهبون لإطلاق النار على كل الناس دون تمييزٍ لأحد، فيقتلون أو يعتقلون، ويمنعون أو يحتجزون، ويضربون ويجرحون، ويؤخرون ويعطلون، فهذا أمرٌ طبيعي لا غرابة فيه ولا استنكار.

ولكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي اعتادت أن تحاصر مخيماتنا ومدننا، وأن تفرض عليها حظر التجوال لأيامٍ طويلة، وتمنع حركة الناس، وتحول دون انتقالهم، وتمنعهم من الخروج إلى العمل أو المدارس والجامعات، وتفرض عليهم البقاء في بيوتهم فلا يخرجون إلى الشوارع أو المساجد، فإنها كانت تخصص لهم كل يومٍ ساعتين أو أكثر من النهار، تسمح للمواطنين خلالها بالخروج من بيوتهم، للتسوق وشراء احتياجاتهم، وقضاء حاجاتهم، وكانت تمتنع خلالها عن إطلاق النار على الناس، بل إنها كانت تغيب من الشوارع والطرقات، وتنسحب من الأماكن العامة، وتعود إلى مواقعها أو ثكناتها، أو تتجمع في مراكزها ومعسكراتها، فما كان الناس في المخيمات والمدن الفلسطينية المحاصرة، يموتون جوعاً، أو يهلكون عطشاً، وما كانوا يعانون انقطاعاً للتيار الكهربائي، أو فصلاً للهاتف وحجباً للخدمات الأخرى.

وكانت الأسواق تغص بالباعة والمشترين، وفيها كل ما يحتاجه الناس ويلزمهم، فلا خبز مفقود، ولا سلع نادرة، ولا وقود شحيح، ولا عجز في المحلات والدكاكين، ولا استغلال للظروف والأوضاع، ولا احتكار للبضائع والأغذية، ولا رفع للأسعار، ولا تخزين للمواد، بل كانت سياراتٌ وقوافل، ومساعداتٌ ومعونات، تصل إلى المناطق المحاصرة، تفرغ حمولتها، وتوزع معونتها، وتعود أدراجها، فلا يعترض طريقها أحدٌ عند دخولها أو خروجها، وهي قوافلٌ مدنية، وأخرى شعبيةٌ وأهلية، وغيرها تابعة للهلال أو الصليب الأحمر، أو للأنروا ومؤسسات الأمم المتحدة، وبعضها قادمٌ من أهلنا في الخط الأخضر.

وكانت سلطات الاحتلال تسمح لسيارات الإسعاف بالدخول إلى المخيمات، تنقل الجرحى والمصابين، وتدخل الدواء ومختلف أنواع العلاج، وتحمل معها الأطباء والمختصين والممرضين، ويسهل الحصول منها على موافقاتٍ أمنية خاصة لنقل المرضى خارج المخيمات إلى المستشفيات والمصحات، لتلقي العلاج، أو تسكين المرض، كما تسمح للنساء الحوامل بالذهاب إلى المستشفيات أو العيادات، فلا ينتظرن على الحواجز إلا قليلاً، ولا يتأخرن في الحصول على الإذن أو الموافقة، من ضباط الحواجز، أو من قادة الأجهزة الأمنية، وقلَ من النساء من يتعطلن على الحواجز، أو يمنعن من العبور، أو يحال بينهن وبين المستشفى، وإن كانت حالاتٌ مؤلمة، فهي قليلةٌ ومحدودة، ولعل العدو الإسرائيلي يتحسب من هذه الحوادث، ويخاف منها، ويبذل وسعه لئلا تقع، مخافة الرأي العام، وانتفاض الناس وغضبهم.

وخلال الحصار، وأثناء حالات منع التجوال، وفي ظل الانتفاضة الأولى وما قبلها، كان الفلسطينيون يحيون أفراحهم، ويعقدون زفافهم، ويزفون عرسانهم، ويخرجون من مخيماتهم إلى أخرى لنقل العروس إلى بيت زوجها، بعد أن يحصلوا على موافقةٍ أمنية، بعدد السيارات وعدد الركاب، وعنوان العروس والعريس، وساعة الخروج والمدة المطلوبة لإنتهاء العرس، وكنتُ أحد الذين تزوجوا خلال فترات منع التجوال، وانتقلت زوجتي من بيت أهلها إلى بيتها الجديد في ظل منع التجوال، وبعد أخذ موافقةٍ أمنية، وإن كنتُ قبلها قد قيدتُ في الشارع إلى عمودٍ كهربائي لساعاتٍ طويلة، إلا أن الاحتلال ما كان يقوى على منع زفافٍ، أو توقيف عروس، أو تفتيش موكبها.

إنه العدو الصهيوني، المحتل الغاصب، القاتل السفاح، الدموي السفاك، الخبيث القذر، الظالم المعتدي، الغادر الغاشم، لا نمدحه ولا نشيد بأخلاقه، ولا نعدد مآثره، فكل ما فيه مخازي، ولا يأتي منه إلا المآسي، لكنه لا يقوى على الحصار، ولا يستطيع المنع، ويخاف من التجويع، ويخشى من القتل والقنص والترويع، ولا نعيب عليه إن قتل، ولا نستغرب منه إن حاصر، ولا نستهجن سلوكه إن جوعَ وأرهب وبطش، فهو عدونا، غاصبٌ لحقوقنا، ومحتلٌ لأرضنا، لكن الغرابة والاستهجان هو مما يصيب شعبنا، ويلحق بأهلنا، في بلادنا وعلى أيدي إخواننا وأشقائنا، وممن هم من بني جلدتنا، فما الذي يجري ويقع، وماذا أصاب أهلنا وحل بمخيماتنا؟ ...

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(2)

اليرموك اسمٌ عريقٌ يحمل دلالةً عظيمة، ومعاني مجيدة، تهتز لذكره المشاعر، وتفيض معه الأحاسيس، وتتوارد به الأفكار، وتقفز إلى الذاكرة منه سيولٌ من الأحداث والذكريات، فهو أرضُ معركة، وساحةُ قتال، صال فيها خالدٌ، ومار فيها أبو عبيدة، ومشى فوق ترابها خيرةُ صحابة رسول الله، ودفن في جوفها رجالٌ خاضوا فيها أعظم معركةٍ صنعت للأمة مجداً، ورفعت للدين راية، وأدخلت الإسلام إلى الشام، فرفعت به شأن العرب، وصنعت منهم أمة، لتكون من بعده دمشق عاصمةً للدنيا، وحاضرةً للعالم، منارةً للهدى، وعلماً للإسلام، وسيفاً يدافع عنه، ويرفع رايته، نصرةً وجهاداً، ورباطاً وثباتاً.

مخيم اليرموك أكبر المخيمات الفلسطينية مساحةً، وأكثرها سكاناً، وأفضلها تنظيماً، وأجملها بناءً، وأكثرها خدماتٍ، وأحسنها موقعاً، إنه صنو مخيمي جباليا بقطاع غزة، وعين الحلوة في مدينة صيدا بجنوب لبنان، لجهة المساحة وعدد السكان، يعتز به الفلسطينيون، ويحرص على الإقامة فيه كثيرٌ من السوريين، إنه عاصمة المخيمات الفلسطينية في سوريا، وعنوانها الأبرز، ولعله أحد أهم عواصم الشتات واللجوء الفلسطيني، كان منذ أن نشأ في بداية خمسينيات القرن الماضي، معقلاً للرجال، ومنبعاً للأبطال، ومدرسةً للثوار، تخرج منه آلاف المقاتلين، ومئات القادة وكبار الضباط، ومنه خرج المدد المقاتل، والزحف الكبير إلى لبنان، ليشارك في الدفاع عن أرضه، والذوذ عن حياضه، نصرةً للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وفيه سقط آلاف الشهداء دفاعاً عن أرض العرب في لبنان، أو استشهدوا في عملياتٍ جهادية داخل فلسطين المحتلة، وغيرهم كثير من الأسرى والمعتقلين الذين قضوا سنواتٍ طويلة من عمرهم في سجون العدو الصهيوني ومعتقلاته.

لا يقوى أحدٌ على تجاوز مخيم اليرموك أو إهماله، فيخطئ في حقه ويضل في تصنيفه، وينكر أثره، أو يغمطه حقه، أو يخفي دوره، متجاهلاً معالمه، ومتجاوزاً مكانته وموقعه، فهو يتصدر المخيمات الفلسطينية، ويتقدم على كل التجمعات السكانية في الوطن والشتات، ولعله أحد الحواضر المدنية الفلسطينية الكبيرة، ففيه مدارسٌ ومعاهد، ومساجدٌ ومؤسسات، ومستشفياتٌ ومصحات، وأسواقٌ ومتاجر، وملاعبٌ ونوادي، وساحاتٌ وميادين، ومحكمةٌ وبلدية، ومراكز حكومية وأخرى أممية، وفيه كل التخصصات الطبية والمختبرات الفنية، ومكاتب الهندسة والعمران، ومكاتب المحامين وكتاب العدل، وغيرهم كثير ممن تزدهر بهم المدن وتتميز.

لا فلسطيني غريبٌ في مخيم اليرموك، ولا احساس فيه بالوحدة أو الغربة، ولا معاناة بين أهله، ولا ضيق أو تبرم بين سكانه، فالألفة والمودة تجمع أهله، وتنظم العلاقة بين ساكنيه، في نسيجٍ فلسطيني وطنيٍ حميم، لا يعرف الكراهية، ولا يستجيب لمعاني البغض، ولا يقيم وزناً لمفاهيم التمييز والفرقة، بل يتساوى سكانه، ويتعاون أهله، ويتكافئ شعبه، ويتضامنون فيما بينهم، فلا شكوى من جوع، ولا ضائقة من فقر، ولا احساس بالظلم أو الضيم، في تركيبةٍ سكانية فريدة، جمعت شمال فلسطين إلى جنوبها، مع أهل غزة وسكان الضفة الغربية، فضلاً عن المقدسيين وبدو النقب، وغيرهم كثير ممن فضل الإقامة فيه، والسكن بين شارعيه الكبيرين، اليرموك وفلسطين.

ما كان أحدٌ يظن أن هذا التجمع السكاني العمراني الكبير، الذي يسمى اليرموك، إنما هو مخيمٌ فلسطيني، يضم بين جنباته مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، ممن أكرهوا على الهجرة، وأجبروا على النزوح، فقد كان مدينةً زاهرة، وحاضرةً عامرة، ومباني عالية، وشوارع واسعة، وسوقاً نشطاً، لا يفتر ولا يهدأ، ولا يتعب ولا يمل، ولا ينام أهله، ولا تطفأ أنواره، ولا تتوقف فيه الحياة، ولا تسكن فيه حركة السيارات، ولا يشكو أهله من نقصٍ أو حاجة، ولا يعتذر سكانه عن إكرامِ ضيفٍ أو استقبال غريبٍ، لفقرٍ أو حاجة، فكل ما تشتهيه النفس موجودٌ، وما يحتاج إليه الناس متوفرٌ، بأسعارٍ زهيدة، وبكمياتٍ وفيرة.

والناس فيه آمنةٌ مطمئنة، ساكنةٌ راضيةٌ وادعة، لا يخافون من شئ، ولا يقلقون على شئ، ولا يفزعون من خطر، ولا يشكون من شر، فلا سرقاتٍ تؤرقهم، ولا جرائم تقلقهم، ولا أحداث تروعهم، أطفالهم يذهبون إلى مدارسهم، ويعودون إلى بيوتهم بسلامةٍ وأمان، وبناتهم يذهبن إلى وظائفهن والجامعات، فلا يخفن على أنفسهن، ولا يقلق عليهن ذووهن، ويعدن إلى بيوتهن ولو أظلمت الدنيا، وأرخى الليل على الكون سدوله، فلا يعتدي عليهن أحد، ولا يتحرش بهن شاذ، ويهب في حال تعرضهن للخطر كل الناس لنجدتهن ونصرتهن، ورد الخطر عنهن، وملاحقة ومعاقبة من حاول المساس بهن.

يعيش الفلسطينيون في اليرموك وفي كل المخيمات الفلسطينية على الحياد، يعرفون أنهم ضيوفٌ لاجئون، وسكانٌ مؤقتون، فلا يتدخلون في الشؤون العامة والخاصة للدولة السورية، ولا يقحمون أنفسهم في خصوصياتهم، وفيما هو حقٌ لهم وحدهم، رغم أنهم لا يشكون من سياسات الدولة تجاههم، فهي تحسن معاملتهم، وتسخى عليهم، ولا تفرق بينهم وبين السوريين في العطاء والخدمات، وفي الوظائف والفرص، وفي البعثات والهيئات، بل تمنحهم ما تمنح مواطنيها، وتعطيهم مما لديها.

أصاب اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك وفي عموم سوريا حزنٌ شديد، وألمٌ كبير، لما أصاب السوريين ولحق بهم، فقد دمرت بلادهم، وقتل عشرات الآلاف من أبنائهم، وشرد شعبهم، وضاع مستقبل أجيالهم، ونزلت بهم محنٌ وكوارث، لا يتصورها السوريون، ولا يتوقعونها في يوم، وظن الفلسطينيون أنهم بحيادهم ولجوئهم بمنأى عن الأحداث، وأن نار الحرب لن تطالهم، ولعنة الموت لن تصيبهم، وفوضى القذائف لن تصل إليهم، فما الذي أصاب مخيم اليرموك وأهله، وما الذي حل به، ومن الذي أقحمه في حمأة الأحداث السورية، وزج به في أتون الحرب، ونار الفتنة، فخرب عمرانه ودمر بنيانه، وشرد أهله، وجعله جزءاً من المعركة، وطرفاً في المعادلة، وأداةً في الحرب؟ ...

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(3)

أين ذهب سكان مخيم اليرموك وأهله، الذين كانوا يسكنونه ويعمرونه، ماذا حل بهم، وماذا أصابهم، أين ذهبت حيويته وازدحام الحياة فيه، وهو الذي كان يتيه على غيره ويفخر بمن فيه، يوم أن لم يكن فيه متسعٌ لقدمٍ، ولا لمزيدٍ من السكان، وما كان فيه بيتٌ شاغر، أو آخر غير مشغولٍ، ولا شبر من الأرض لا يعلوه بنيان، أو يعمره سكان.

اليوم قد باتوا جميعاً بين جريحٍ ومقتول، ونازحٍ ومشرد، ولاجئ ومهجر، ومحاصرٍ وممنوعٍ من الدخول أو المغادرة، وجائعٍ وهزيل، وضعيفٍ ومريض، وشبحٍ وبقايا هيكل، ومعتقلٍ وهارب، ومقاتلٍ ومحارب، وحامل سلاحٍ أو خائف منه، رغم أن الباقين فيه لا يتجاوزون الآلاف، بعد أن كان يسكنه مئات الآلاف.

ما هي الجريرة التي ارتكبها سكان مخيم اليرموك حتى يصيبه ما قد أصابه، ويلحق به هذا الحجم المهول من الدمار والخراب، ويمنى أهله بمئات القتلى وآلاف الجرحى، ويشرد الباقون منهم في الأرض، هرباً ونزوحاً وهجرة ولجوءاً، ويضطر كثيرٌ منهم للمغامرة فيموتون غرقاً، أو تمزق أجسادهم نيران خفر السواحل العربية، أو يجبرون على العودة إلى مناطق الخطر.

أما كان ينبغي أن يبقى المخيم وسكانه على الحياد، فلا يقحمون في الأحداث، ولا يجبرون أن يكونوا فيها طرفاً، ولا يجرون من الطرفين إلى المعادلة السورية الداخلية، علماً أن مخيماتٍ فلسطينية أخرى، في اللاذقية ودرعا وحلب، قد سبقت مخيم اليرموك، وتم زجها بالقوة في حمأة الأحداث، بعد أن قصفت بالطائرات والدبابات، وأقيم على مداخلها حواجزٌ أمنية، ونقاطُ تفتيشٍ خاصة، ما أدى إلى اعتقال بعض الفلسطينيين، وغياب آخرين أو قتلهم، فضلاً عن الاشتباكات اليومية في المخيمات أو على أطرافها.

لا يوجدُ مكانٌ في مخيم اليرموك إلا وطاله القصف، ووصلته القذائف، وحل به الخراب، إذ إنهارت الكثير من بناياته، ودمرت منازله، وقصفت حاراته وشوارعه، واستهدفت فيه بكثرة المستشفيات والعيادات والمخابر والصيدليات، وكل ما يتعلق بالإستشفاء والعلاج، كما طال القصف أغلب المساجد، وأسقطت المآذن، وحرقت المكتبات والمصاحف، وامتد الخراب إلى المدارس والمعاهد والمخابز والأسواق وكل المحال التجارية، وضاعت معالم شوارع المخيم، وقد قصفت بيوتٌ ومحال في شوارعه العتيدة، في القدس وصفد ولوبية والنقب، وفي حطين وعين جالوت، وحيفا وعكا والجاعونة وطبريا، وفي نابلس والجليل والناصرة.

ألا يحق لنا أن نتسائل عن الجهات التي ورطت المخيمات الفلسطينية، وأقحمتها عنوةً في الأحداث، سواءً مخيم اليرموك أو غيره، دون أن يكون المخيم مبادراً أو مشاركاً، وقبل أن يتورط وينغمس، ويجر ويوجه، هل كان من العقل والمنطق قصف المخيمات بالصواريخ وقذائف الدبابات من معسكراتٍ ومنصاتٍ بعيدة، تقتل وتدمر وتخرب بصورةٍ عشوائية، وتصيب كيف تشاء دون تحديدٍ أو تصويب، وكيف يمكننا تفسير قصف مخيم اليرموك بطائرات الميغ الحربية المقاتلة، التي هزت أرض المخيم، ودمرت بيوته ومساجده، ومزقت الأجساد وبعثرت الأشلاء.

من الذي يحاصر المخيم، ويمنع إدخال المواد الغذائية والطبية لسكانه، ومن الذي يمنع أهله من الدخول إليه أو مغادرته، وهل أن حصار آلاف المدنيين في المخيم، سيجبر مجموعةً من المسلحين أو المقاتلين على إلقاء السلاح، وتسليم أنفسهم، والتوقف عن مقاتلة الجيش النظامي للدولة، وهل يجوز حصار شعبٍ إلى درجة الموت جوعاً، وتركه ينزف حتى الموت، من أجل إرغام مجموعةٍ صغيرة من المقاتلين على تسليم أنفسهم، أفلا ترون أن هذا هو العقاب الجماعي بعينه، إذ يعاقبون أبرياء بجريرة آخرين، ويقتلون أطفالاً وصغاراً ونساءً لا ذنب لهم، ولا جريمة اقترفوها سوى أنهم كانوا من سكان هذا المخيم.

ولماذا سمحت قيادة الجيش السوري الحر لعصاباتٍ من منطقة الحجر الأسود، تدعي أنها منه، وتقاتل باسمه، وتنتمي إليه، وتمول منه، وتتلقى الأوامر من قيادته، باجتياح المخيم واستباحاته، وسرقة بيوته ومتاجره، وتخريب مساكنه ومحلاته ومعامله، واطلاق النار على سكانه وأهله، والقيام بأعمال قتلٍ وخطفٍ، وحرقٍ وتدميرٍ ونسف، وكأن بينها وبين سكان المخيم ثأرٌ قديم، ومعركة لم تنتهِ، وقد آن أوانها، واستحق زمانها، فعاثوا في المخيم خراباً وفساداً، وتدميراً وحرقاً ونهباً، حيث لم يبقَ في المخيم بيتٌ إلا وسرق، ونقل متاعه وأثاثه، ونهب مخزونه ومدخراته، وبيع ما فيها من أجهزةٍ ومعدات، وما الذي استفادته المجموعات العسكرية التي تمترست في المخيم، عندما سمحت بتدميره ونهبه، وتسببت في طرد أهله وتهجير سكانه.

ولماذا سكتت القوى والتنظيمات الفلسطينية على ما يجري في المخيم، ولماذا قبل بعضها أن يكون طرفاً في الأزمة مع فريقٍ ضد آخر، فحملت السلاح وقاتلت، وأطلقت بعضها النيران من داخله، وقصفت أخرى مواقعه من خارجه، وقد كان بإمكانهم تحصين المخيم، وحماية أهله، والنأي بهم جميعاً عن الأزمة، وعدم الإنخراط في المعركة، فلا يكون المخيم مرتعاً آمناً لفريقٍ ضد آخر، وقد كان في المخيم قوىً فلسطينية قوية ومؤثرة، وصاحبة نفوذٍ ومالكة قرار، ولديها منتسبون وأتباع، وعناصرٌ ومكاتبٌ ومقرات.

لكنهما كلاهما قد أخطئا القرار، وارتكبا معصيةً كبيرة، فأما أحدهما فقد تحزب وقاتل، وحمل السلاح، وانتظم في مجموعاتٍ ضد الدولة، ومارس العنف على أشده، ونصب من نفسه حاكماً وآمراً، وقاضياً وسجاناً وجلاداً، ومنفذاً للأحكام التي يصدر ومطبقاً لها، وأما الآخر فكان سيف الدولة المسلط، وسلطانها القاهر، فقاتل إلى جانبها، وقتل باسمها، ومارس البطش والإرهاب، والتضييق والتجويع والحصار أكثر منها، مغتراً بقوته، ومباهياً بما لديه من سلاحٍ وعتاد، وخبرةٍ وتجربةٍ ودراية، فكان المخيم ومن فيه هو الخاسر الأكبر، والمتضرر الأشد، تقتله الأطراف المتحاربة كلها، ولا تبالي بمصيبته، ولا تهب إلى نجدته، ولا تسمح لغيرها بغوثه وإنقاذه، ومساعدته وعلاجه.

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(4)

كأنه قدر الشعب الفلسطيني في كل زمانٍ ومكان أن يبقى هو الضحية، وأن تتسلط عليه دوماً قوى وأنظمة وأحزاب، تفتك به وتنال منه، تحاصره وتدمره، وتقتل رجاله ونساءه وتمثل بهم، وتجوع أهله وأطفاله وتضيق عليهم، فلا يجدون ما يأكلونه غير حشائش الأرض، وأوراق الشجر، قبل أن يحلوا لأنفسهم أكل لحم القطط والكلاب وزواحف الأرض وحشراتها.

أهذا هو جزاء من يصمد على أرضه، ويثبت في مخيمه، ويتمسك بحقه، ويرفض تذويب الهوية، والتنازل عن الوطن والقضية، أيكون مصيره الموت قتلاً أو قنصاً أو قصفاً أو جوعاً وقهراً، وبدلاً من نشيد بصمودهم في مخيماتهم، فإننا نزيد في معاناتهم، أو نتخلى عنهم، أو نجبن عن نصرتهم ومساعدتهم.

ألا ترون أن هذا الحال يتكرر كل وقتٍ وحين، ضد أهلنا وشعبنا، في المخيمات والبلدات والمدن والقرى، فرأيناه مراتٍ كثيرة في فلسطين المحتلة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي لا تأتي بجديد، ولا تقوم بغريب، ولا تمارس بدعاً من الإنتهاك، ولا جديداً في الممارسة، فهذا فعل قوى الاستعمار، وجحافل العتاة الغاصبين، والمحتلين المستغلين منذ قديم الأزل.

ولعلنا نذكر حصاره لمخيم جنين، وتجويعه لأهلنا فيه، وقطع الكهرباء والماء عن سكانه، وتدمير مساكنه، وتهبيط مبانيه، واختراق بيوته ومنازله، غير مبالٍ بموت سكانه جوعاً أو قصفاً أو خنقاً أو تحت الردم وبين الركام، وكذا حصاره للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات داخل المقاطعة في مدينة رام الله، وتدمير كل شئٍ حوله، وقطع التيار الكهربائي والماء عنه، بغية الاستسلام، والخضوع والخنوع، قبل أن تقتله بفعل السم الذي سكن جسده، وتمكن منه بهدوءٍ وصمتٍ وطول أناة.

وفي لبنان دمرت مخيماتٌ كثيرة، وطرد منها سكانها، وسويت من بعدهم بالتراب، بأيدي قوى وأحزابٍ ونظامٍ، تآمرت على الشعب الفلسطيني، ونفذت في حقه مذابح ومجازر عز على العدو الصهيوني أن يرتكب مثلها، أو أن يقوى على أقل منها، وهو الذي وقف مشدوهاً بجزاره وسفاحه الدموي شارون، أمام مجزرة صبرا وشاتيلاً، مصدوماً لهولها، غير مصدقٍ لها، وإن كان قد لعب دوراً في تغطية وحماية مرتكبيها، فيسر جريمتهم، وسهل دخولهم إلى المخيمات، وفرض طوقاً أمنياً ومعلوماتياً شديداً حتى أنهت الكتائب فعلها، ونفذت حتى الرمق الأخير جريمتها.

وتلاها حصارٌ أليمٌ لمخيماتٍ فلسطينية أخرى في لبنان، جُوَّعَ أهلها، وقتل أبناؤها، وضُيِّق على كل من ينتسب إليها، حتى استباح الناس لفرط الجوع، وشدة الحصار، ولؤم القتال، ومرارة العداء، لحم القطط والكلاب، فأكلوها أمام سمع العالم وبصره، الذي وقف مكتوف اليدين تجاه ما يجري، وكأنه يبارك الجرائم، ويوافق على المذابح، ويقبل بكل ما يجري، ويعجز عن فعلِ أي شئ لنجدتهم أو نصرتهم، أو مساعدتهم ووقف أعمال القتل والحصار ضدهم.

وغير بعيدٍ من اليوم يدمر مخيمٌ بأسره، ويحاصر أهله، وتدمر بيوته ومساكنه، ويقصف بما فيه ومن فيه من السكان من البر والجو والبحر، لأيامٍ طويلة، في الليل والنهار، من أجل مجموعةٍ يشتبه فيمن صنعها، ويتهم من زرعها، إذ لم تكن فلسطينية الانتماء ولا الهوية، ولم يكن وجودها لفلسطين ولا للقضية، بل كانت نبتاً غريباً زرعوه، وجسماً مشبوهاً وضعوه لأغراضهم، تنفيذاً لسياساتٍ وأهدافٍ وضعها من يخطط ويدبر، ويعرف مآلات الأمور ومسارات الأحداث، وعناوين الأشخاص وهويات حملة البنادق، وولاءات المقاتلين واتجاهات المتحاربين، وفي نهاية المطاف، دمر المخيم الذي كان حاضرة البحر، وسوق الفلسطينيين، ومتجر اللاجئين واللبنانيين، وما زال إلى اليوم ركاماً لا بناء فيه، وعراءً لا مساكن فيه، وإن كانت فهي معلباتٌ صغيرة، ومساكن حقيرة، لا تصلح للحيوانات فضلاً عن أن تكون لآدميين وبشر.

ما الذي يجري وما هو المخطط، أصبحنا لا ندري ولا نفهم، مخيماتٌ تشطب، فلا يبقى منها اسمٌ ولا أثر، وشعبٌ يظلم ويقهر، ويحاصر ويجوع ويضطهد، ثم يقتل بعضه ويهرب الباقون منهم هجرةً ولجوءاً، وبحثاً عن أملٍ ومستقبلٍ ومكان، وعيشٍ كريم ورزقٍ وطيب حياة.

ألا يحق لنا أن نتسائل لماذا شطب مخيم تل الزعتر، ومن الذي شطبه وتآمر عليه، ومن الذي خربه ودمره، ومن الذي هجر أهله وسوى مساكنهم بالتراب، ومن الذي جعله أثراً بعد عين، منهياً وجودهم، وملغياً حقوقهم، ومن الذي استفاد من الشطب والإلغاء، وما هو الهدف الذي تحقق لمن كان يحكم يومها وينهى، ويأمر ويطاع.

ومن قبل أدى الفلسطينيون في الأردن ضريبةً قاسية، ودفعوا أثماناً لمسلكياتٍ وتصرفاتٍ غير مسؤولة، فقادتهم إلى شتاتٍ جديدٍ، وضياعٍ آخر، وفرقة فلسطينية، وتجاذبٍ عربي غير شريف، وتكررت أزمة الفلسطينيين بمرارةٍ إبان محنة الكويت، عندما اجتاحتها القوات العراقية، فدفع الفلسطيني في الكويت ثمن الاجتياح، وفاتورة السلوك العراقي.

وفي العراق الجديد كان الفلسطيني هدفاً وعنواناً، اتحدت عليه الجهود والطاقات، واتفقت ضده القوى والأحزاب، فإما أن يقتل وينهب، أو يسبى ويهجر ويرحل، وهكذا بات العراق بلا فلسطينيين، وخلت التجمعات الفلسطينية في بغداد والبصرة وعموم العراق منهم.

ألا ترون أن الأحداث تتكرر، على نفس النسق والمنوال، في الأرض نفسها أو في مكانٍ آخر، وأن مادتها واحدة، وأن المستهدف منها واحد، وقد يكون مرتكبها ومنفذها دوماً واحد، رغم أن المستفيد منها في الغالب واحد، ومع ذلك تعمى بصائرنا، ويطمس على عيوننا، ويختم على قلوبنا، فلا نعود نعي أو نفهم، ولا نعقل ولا نتدبر، ونقبل أن نكون أدواتٍ تنفذ وتلتزم، وتطبق برامج الآخرين، وتحقق لهم أهدافهم، وتصل بنا إلى الغايات التي يريدون ويتطلعون للوصول إليها.

فما الفرق اليوم بين اليرموك وجنين، وبين ضبية وجسر الباشا، وبين نهر البارد واليرموك، وبين تل الزعتر ودرعا، وبين الرمل وصبرا، وبين شاتيلا وبلاطة، كلها مخيماتٌ فلسطينية، يسكنها الاجئون الفلسطينيون، الذين يتطلعون إلى العودة إلى وطنهم، والعيش في بلادهم، فيهددون بحقهم في العودة إلى الوطن عدوهم ومن يقف وراءه مسانداً ومناصراً، ألا ترون أن استهداف المخيمات وتشريد أهلها لا يخدم سوى العدو، ولا ينفع غير إسرائيل، وأن المتضرر منها إنما هو الشعب الفلسطيني وقضيته، وأن الذي سيعاني منها هو هذا الجيل ومن سيأتي بعده.

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(5)

بأي ذنبٍ يقتل الفلسطينيون في غير وطنهم، وعلى أيدي غير عدوهم، أهم قتلةٌ أم إرهابيون، أم هم لصوصٌ وقطاع طرق، أم هم جهلة وهمجيون، وسوقةٌ وغوغائيون، أم أنهم غدروا وخانوا، وفرطوا وانقلبوا، فاستحقوا القتل عقاباً، ألا يكفي لجوؤهم ومعاناتهم، فهم في أكثر من مكانٍ يحرمون من العمل، ويطاردون في الرزق، ويضيق عليهم في العيش، ويجردون من الحقوق، ولا يساوون بالبشر، ويكدسون في بيوتٍ أشبه بالعلب المتراكبة، وأحياناً تفوق عليها الحظائر والاصطبلات نظافةً وترتيباً واهتماماً.

ألا ترون أن هذه المعاملة تيئسهم، وتدفعهم نحو القنوط، والبحث عن مخارجٍ وحلول، تخلصهم مما هم فيه من ذلٍ وهوان، وتنقذهم من بؤس حالهم، وسوء ظروفهم، ولو كان الحل والمنجاة، في هجرةٍ جديدةٍ، ولجوءٍ آخر، قد يبعدهم عن الوطن، ويحول بينهم وبين الحلم بالعودة، أو التفكير في الوطن، كما أنها تدفع بعضهم للتطرف والتشدد، وتجبرهم على تبني العنف وحمل السلاح، والقيام بكل ما من شأنه استعادة حقوقهم، أو الإنتقام ممن ظلمهم وأذلهم، وممن أساء إليهم ونال منهم، علماً أن العديد من السلطات العربية تستعدي الفلسطينيين، وتنظر إليهم بخوفٍ وريبة، وشكٍ وقلق، وتسبقها إليهم عيونٌ مليئة بالكره والحقد والإزدراء.

ولو فكر الفلسطينيون في الهجرة والفرار، والسفر واللجوء، فإنهم لا يستطيعون مغادرة مربعاتهم الأمنية المحروقة، ولا تستقبلهم سفاراتُ الدول الأجنبية، ولا ترحب بهم مؤسسات الأمم المتحدة، ولا مكاتب وكالة الأنروا التي تأسست من أجلهم، وأنشأت لخدمتهم وإغاثتهم، ومساعدتهم وتقديم الخدمات لهم، بل إن الوكالة الدولية ماضية في تقليص خدماتها، وتتراجع في مهامها، وتعلن كل يوم عن تقليص جديدٍ في ميزانياتها، وتخرج من دائرة اهتماماتها قطاعاتٍ واسعة من الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تقف فيه عاجزة عن حماية مقراتها وهيئاتها، والمدارس والعيادات والمراكز التموينية التابعة لها، إذ تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة بالإعتداء عليها، وقصفها وتدميرها، وهو ذات المصير الذي تتعرض له اليوم في سوريا، إذ لم تعد مقرات الأمم المتحدة ملاجئ آمنة، ولا مقراتٍ محمية، ولا هيئاتٍ دولية يمنع الإعتداء عليها، بل طالتها القذائف، ونالت منها الصواريخ، وأخيراً سقطت عليها براميل البارود المتفجرة، فقتلت وأصابت كل من لجأ إليها طالباً الحماية والأمان.

هل كُتب على الفلسطينيين أن يكونوا ألم مخاض الأمةِ في كل مكان، وفي كل زمان، ففي لبنان كان الفلسطيني وقوداً لحربٍ دموية قاسية، أتت فيه على الأخضر واليابس، وتركت آثارها الأليمة على اللاجئين الفلسطينيين في كل المخيمات الفلسطينية في لبنان، وفي الأردن كانوا حطباً لنارٍ عظيمة، ووقوداً لسياسةٍ مرسومة، وغاياتٍ معروفة، شارك في التخطيط والإعداد لها كثيرون، بغية طرد الفلسطيني وتشتيته، وإبعاده عن حدود بلاده، ليأمن العدو، ويستقر حكم الأخ والشقيق.

وفي الكويت كان الفلسطينيون خشبة الخلاص، وجسر العبور، وطود النجاة لشعب الكويت، الذي انتقم ممن عمر بلادهم، وعلَّم أجيالهم، وعاش معهم وبينهم سنين طويلة، فطردهم خارج حدود بلاده، ليرفع بترحيلهم عماد دولته، ويعلي راية إمارته، فكان تشريدهم الأشد والأقصى، والأسوأ والأنكى، بعد النكبة والنكسة.

أما تدمير مخيم تل الزعتر فكان خدمةً لفريقٍ على حساب آخر، لا علاقة له بالقومية، ولا شأن له بالمصالح الوطنية، بل إنه أضر بثوابت الأمة، وغير موازين المعركة بإتجاهاتٍ خاطئة، فحتى يقوى تيارٌ لبناني على آخرٍ وطني، كان لا بد من توجيه ضربةٍ للمقاومة الفلسطينية، ولو كانت الضحية شعبٌ يشرد، وأطفالٌ يُيتمون، وأحلافٌ معادية تتشكل، وعدوٌ متربصٌ يجد الفرصة للدخول وأخذ حيزٍ ومكان.

وفي العراق كان لا بد من ضرب أجنحة الطائفة السنية تمكيناً للطائفة الشيعية، وتعزيزاً لقوتها ونفوذها الصاعد، ولو كان ثمن ذلك قتل الفلسطينيين أو إخراجهم من العراق، فهم وفق التصنيف الطائفي المقيت البشع سنة، وبحساب السلطات الحاكمة، فإنهم يحسبون على الطائفة السنية، ويزيدون في عددهم، وقد يضاعفون في قوتهم، وحجتهم في ذلك أن الفلسطينيين أقوياءٌ أشداءٌ، وأنهم يشكلون قوة لكل من ينحازون إليهم، ويقفون معهم، ويكونون من صفهم.

ويكأن الفلسطيني في شتاته وترحاله، وفي مخيماته وتجمعاته، هو جسر عبور الثورات، وبقاء السلطات، ودوام الأنظمة والحكومات، فبدمائه تتجذر الحرية، وتنتصب للحقوق رايات، وبإزهاق روحه تطول الأعمار، وتتحرر البلاد، وتنعتق الأوطان، وما علموا أن الفلسطيني لعنةً على قاتليه، ولعنةً على المتآمرين عليه والمتاجرين بقضيته، وأن دماءه إن سفكت فهي تعجل في رحيل من سفكها، وتكون سبباً في نهاية ملك من تهاون فيها، وسهُلَ عليه التضحية بها أو التفريط فيها.

ويلٌ لمن يخطط وينفذ، ويتعهد القيام بهذه المهام القذرة المشبوهة، فلا نية سليمة لدى كل من يعتدي على الفلسطينيين ويشتت جمعهم، ويفرق صفهم، ويستهدفهم في بيوتهم ومخيماتهم، إنه بهذا ينفذ مخططاتِ غيره، ويخضع لتعليمات من سواه، بغية تشتيت هذا الشعب، وإبعاده عن جوار أرضه، أو إشغاله بغير قضيته ووطنه، وإقصائه عن هدفه وحلمه بالعودة.

إن من يضيق على هذا الشعب ويزيد في آلامه، يضر بالأمة كلها، ويخدم العدو ومن والاه، وإن من كان مع فلسطين القضية، فهو معها وطناً وأرضاً وشعباً، فمن يمزق الشعب كمن يمزق الوطن، ومن يشتت الشعب والأهل، كمن يقبل بتشتيت الأرض، وتقسيم الوطن، ذلك أن فلسطين قبل أن تكون أرضاً ومقدساتٍ، فهي شعبٌ وسكان، عمروا فلسطين وسكنوا فيها، وإليها انتموا وعلى أرضها نشأوا، وفيها يعيشون وإليها وإلى العودة يتطلعون، فمن يقتل الشعب، فإنه يغتال الوطن.

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

(6/6)

مخطئ من يظن أن الفلسطينيين لا يؤيدون الحقوق الشعبية والوطنية للشعب السوري، وأنهم يؤيدون النظام في ممارساته ضد الشعب، ويقبلون بالقصف والقتل، والتدمير والتهجير والتخريب، وأنهم ينحازون إليه في منهجه العنيف، ولغته الدموية، وأسلوبه في التعامل مع الأزمة ومطالب الشعب، بل إنهم يرون أن من حق الشعب السوري أن يتمتع بحقوقه، وأن تحفظ كرامته، وأن تصان أعراضه، فلا يقتل ولا يسجن، ولا يعتقل ولا يمتهن، ولا يهان ولا يذل، ولا يحرم ولا يقصى، ولا يطرد ولا يهجر، ولا يضام ولا يظلم.

وإنهم بهذا لا يفرقون بين الدم السوري والفلسطيني، فحياة السوريين وقيمتها هي بذات قدر وقيمة حياة الفلسطينيين وغيرهم، ولكنهم يحرصون على أن ينأوا بأنفسهم عن الأحداث العربية، وألا يكونوا طرفاً فيها، وألا يحسبوا على فريقٍ دون آخر.

ألا أيها القائمون على الأمر، المتقاتلون في الميدان، والمتناحرون على الأرض، نناشدكم أن تنأوا بنا عما يجري، فلسنا طرفاً مع أحد ضد آخر، ولا نقبل أن نكون بندقيةً مع فريقٍ ضد آخر، فنحن نحفظ فضل هذه البلاد وخيراتها، ونكن لشعوبها التي آوتنا ونصرتنا، والتي أعطتنا وأغدقت علينا، كل تقديرٍ وحبٍ واحترام، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع ولا نقبل أن نكون طرفاً، فنحن لسنا إلا جنوداً نتهيأ لمعركةٍ أخرى، وننتظر مواجهةً من نوعٍ آخر، فذاك هو عدونا لا غير، الذي اغتصب أرضنا، وشرد أهلنا، وقتل رجالنا، فلا نريد أن نقاتل غيره، ولا نقبل أن تكون بندقيتنا موجهةً إلى غير صدره، تبغي قتله ونحره، جزاءً بما فعل وارتكب.

فيا أيها المسؤولون من الطرفين، ارفعوا أيديكم عن مخيماتنا، ولا تتعاملوا معنا وكأننا طرفٌ في الأزمة، وشريكٌ في المعركة، فعلى الحكومة السورية أن تعجل برفع الحصار عن مخيم اليرموك، وإزالة الحواجز ونقاط التفتيش، ولتسمح لقوافل الإغاثة، وهيئات الغوث والمساعدة، الأهلية منها والدولية، بالدخول إلى المخيم، وتقديم المساعدات لأهله، فقد زاد الأمر عن حده، وضاق الخناق على أهله، ولم يعد في المستطاع مزيدٌ من الصبر، فالناس فيه يموتون جوعاً، ويهلكون عطشاً ومرضاً، وقد رأيناهم هياكل وبقايا عظام، لا يقوون على الحديث أو السير، ولا يستطيعون الثبات أو الوقوف، قد يبست شفاههم، وجفت حلوقهم، وبرزت عظامهم، ووهنت قوتهم، وانهارت عزيمتهم، ولم تعد فيهم قوة، وقد دنا مصيرهم، واقتربت نهايتهم، وأيقن أكثرهم بالموت جوعاً، والفناء مسغبةً، فهل تقبلون للآلاف أن يموتوا جوعاً وحصاراً، فلا طعام ولا شراب ولا دواء، وأنتم الذين تملكون المفاتيح، وتحوزون على القرار.

أما أنتم يا قادة الفصائل والقوى الفلسطينية، ويا أهل السلطة وزعماء المنظمة، متى تكونون على القدر الواجب والمسؤولية، ومتى تلبون نداء شعبكم، وتستجيبون إلى طلباته، وتحققون حاجاته، وترفعون إلى العالم طلباته، وتسلطون الضوء على معاناته، متى تكونون نصرةً وسنداً له، تحمونه وتدافعون عنه، وتؤازرونه وتساعدونه، وتكونون له في المصائب وعند الملمات قادةً ورواداً، حكماء وعقلاء، واعلموا أن هذا الوقت، وهذا الظرف غير مناسبٍ للعتاب، ولا يجوز فيه السعي لتسجيل المواقف، وكسب النقاط، فشعبنا لا يحتمل، ولم تعد لديه القدرة على الصمود والصبر، وتحمل المزيد من الملمات والتحديات، فلا تخطئوا الحساب، ولا تضلوا الطريق، ولا تتعاملوا بانتهازية مقيتة، وبمصلحية سيئة، وترفعوا عن الكسب القذر، وعن النفع المخادع الممزوج بدم الشعب ومعاناته.

واعلموا أن ترحيل الفلسطينيين من دول الجوار، وإخراجهم من دول المواجهة، يضر بالقضية الفلسطينية، ويفقدها ورقة من أهم أوراقها التاريخية، إذ لطالما كانت مخيمات اللجوء في دول المواجهة المجاورة لفلسطين، هي وقود الثورة، ورجال المقاومة، وقد استطاعوا لسنواتٍ طويلة حماية القضية الفلسطينية، والدفاع عنها، والحفاظ عليها حاضرةً وبارزة في كل المراحل التاريخية، وهم الذين قدموا خيرة رجالهم وشبابهم دفاعاً عن فلسطين، وفيهم ومنهم نشأت كل التنظيمات الفلسطينية، وهم يحلمون أكثر من غيرهم بالعودة إلى فلسطين، واستعادة أرضهم، والعيش في ديارهم، فإن شتاتهم الجديد، وإعادة توزيعهم بعيداً عن الوطن في شمال أوروبا أو كندا وأستراليا، يخدم العدو الصهيوني، ويضر بالمصالح العليا للشعب والقضية الفلسطينية، ويضعف ارتباطهم بالوطن، وتعلقهم به، وحنينهم إليه.

واعلموا أن شعبنا الفلسطيني لم يعد يحتمل المزيد من الأذى والعنت، فقد أصبح مثخناً بالجراح، مسكوناً بالآلام، يائساً من قيادته، غير متأملٍ في مرجعيته، وقد نالت منه السهام كثيراً، فأوجعته وأضنته، ولم تترك منه مكاناً دون إصابةٍ أو كدمةٍ أو ندبة، كما لم يعد يرحب به أحد، أو تستقبله دوله، حتى أنه في لجوئه الأخير من سوريا، تختلف معاملته، ولا يرحب به ولا يبش في وجه، ولا تستقبله الدول، ولا تفتح له أبواب السفارات، ولا يسمح له بالنزول أو المرور في المطارات، فعجلوا في إنقاذه، وكونوا له سنداً وعوناً، وخففوا من معاناته، ولا تكونوا له سبباً في مزيدٍ من الرهق، والكثير من العنت، ولا تضيقوا عليه الضيق، وتقسموا له المقسم، فما عاد عنده شئ، وما بقي له شئ، فارحموه وأعينوه.

رحماك يا مخيم اليرموك، أما من ناصرٍ لك، أما من حرٍ عربيٍ كريم يهب لنجدتك، فهل ماتت المروءة، أم قتلت الشهامة، أم غابت الشهامة وعز الأحرار، إلامَ تحاصر أيها المخيم العلم، ولماذا تدك وتخرب، ألا يريدون لك أن تكون هويةً وجامعاً، تؤوي في جنباتك من بقي يحلم بالعودة، ويتمسك بالوطن، ويقتل من أجله، ويستشهد في سبيله ودفاعاً عنه، أم وجودوا فيك وفرة، وبين أهلك كثرة، فأرادوا أن يشتتوك في الأرض، ويوزعوك على الأمم، لتزيد في مساحة اللجوء، وتضاعف عمق المأساة، فقد أصبحنا اليوم في كل أرض، وعلى امتداد الكون، وخلف كل البحار، وفي كل القارات، ونحمل كل البطاقات، ونرفع كل الرايات، ونحتمي تحت مختلف الأعلام، فمن ذا الذي سيجمعنا، ومن ذاك الذي سيقوى على إعادة وحدتنا، وجمع شملنا، ورأب صدعنا.

---------------- ---------------- ----------------

اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة


اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة


اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة


اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة



تعليقات: