بيروت تكبت فرحتها برمضان.. ولا تلبس زينتها


يطل شهر رمضان هذا العام بعد أيام قليلة على خروج البلد من معركة نهر البارد على وقع انتصار الجيش اللبناني. هذا الإنتصار الذي حمل الكثير من الحزن أيضا بسبب سقوط عدد من الشهداء العسكريين فانعكس على مشهد الشوارع البيروتية التي خلت إلا من زينة قليلة متفرقة لا تشبه "البهرجة" الإحتفالية المعتادة في الأيام الرمضانية. في الكثير من المناطق حلت أعلام الجيش والاعلام اللبنانية مكان "الفوانيس السحرية" و"الأقمار البدرية المتلألئة" وكأن الشوارع لم تنته بعد من احتفالاتها بهذا الإنتصار وهي ما زالت غارقة في ذكرى من ناضلوا لإجلها.

بيروت هذا العام كما في العام السابق لا تشبه تلك الحاضرة دائما لإستقبال شهر مميز من بين شهورالسنة كلها. فشوارع المدينة لم تتزين بعد بحلة العروس التي درجت على ارتدائها متباهية احتفالا باقبال شهر رمضان حين كان البلد فيما مضى يعيش يومياته بسلام وطمأنينة .فعند اللبنانيين يتمتع شهر رمضان بقيمة مميزة وهو له نكهة خاصة إذ يحمل في طياته الكثير من العادات والتقاليد التي تكسر الروتين اليومي وتجعل الصغار والكبار ينتظرونه بفارغ الصبر من كل عام. ففيه يلتم شمل العائلة والأحباء والأصدقاء الذين يتجمعون حول موائده الغنية. فيه يحلو السمر حتى طلوع الفجر في الخيم الرمضانية،وفيه يأخذ البلد وناسه استراحة من المشاكسات السياسية التي تطبل آذاننا وأعصابنا، فنستلذ بسماع "مدفع الإفطار" والأناشيد الرمضانية التي تهدىء أنفاسنا المتسارعة على وقع "علّوا البيارق علّوها، وزينوا الشوارع وخلوها تغني للعيد".

شوارع المدينة الحزينة هذه السنة تشبه بحزنها المشهد البيروتي في السنة الماضية حين أطل رمضان فيما لم يكن البلد قد لملم جراح حرب تموز بعد.

يرتسم في السماء هلال رمضاني يشع بريقا أبيضا، فيما على الأرض ينعكس سواد الوضعين الأمني والإقتصادي بؤسا على حياة اللبنانيين فتبدو معهما الزينة الرمضانية والتي كانت تحول المدينة إلى عرس امرا غير أساسي في يوميات الناس. هذه اليوميات التي ستحمل في المستقبل القريب استحقاقان اولهما رئاسة الجمهورية وثانيهما بدء العام الدراسي الجديد فتطغى هموم الناس على هاجس تنسيق جمالية شكل المدينة في هذا الشهر الفضيل.

الخيمات الرمضانية التي كانت تنتشر في المناطق البيروتية وتبدأ بتهيئة نشاطها قبل ايام من بدء شهر رمضان تبدو غائبة الآن، وكأنها لا تحضّر نفسها لإحياء ليالي السمر الطويلة ربما خوفا مما قد تحمله الأيام التي تسبق الإستحقاق الرئاسي أو ربما لأن منظميها أدركوا أن جيوب اللبنانيين فارغة بسبب الوضع الإقتصادي المتردي الذي اجتاح لبنان بعد العام 2005.

المدينة تبدو تعبة ومنهكة وكأن شوارعها خوى جهدها لإستقبال الشهر الفضيل. تتسارع الأحداث على الساحة البيروتية فتأخذ من وقت المدينة للتفكير بثوب جميل تلبسه، فتستبدله بصور الزعماء والقادة واللافتات السياسية التي تنشر كلاما من نوع "يا ويلنا من بعدك" متوجهة بذلك لأحد السياسيين، و"إنت رافع رؤوسنا" و"قائد أعز أمة" التي حلت مكان الشعارات الرمضانية.

في خضم ذلك كله، تبدو عبارة "رمضان كريم" وكأنها باتت حكرا على الميداليات التابعة للجمعيات الخيرية التي تضع صورا لأطفال يتامى على ملصقاتها المنتشرة في بيروت والمناطق مترافقة مع رقم الحساب أو مراكز التبرع. وتبدو صور الأطفال وابتسامتهم البريئة هي مبعث الفرح والبهجة الوحيد في المشهد بكامله. وتظهر الملصقات صورا لأطفال من ذوي الإحتياجات الخاصة مع أطفال آخرين وكانها تشدد على مبدأ الدمج، وحق الأطفال في عيش حياة كريمة مهما كانت احتياجتهم.

شعار "مرحبا يا رمضان" احتل أيضا بعض الملصقات التابعة لهذه الجمعيات من دون ان يكون شعارا عاما يترافق مع الزينة الرمضانية. أما الشوارع التجارية مثل شارع الحمرا ومار الياس وفردان فلا زينة وأضواء فيها تميز محلا تجاريا عن آخر. محال الحلويات لم تضع خارجا بعد عربات قلي الكلاج والسوبرماركت لم تجر أي حسومات أو عروضات خاصة بمناسبة شهر الصيام.

وتبدو مجسمات الجزر الوسطية التابعة لدار الأيتام الإسلامية والتي اتخذت من عشرة ساحات في بيروت مكانا لها لعرض للحقب التاريخية التي مرت على المدينة تحت شعار "بيروت سيدة العواصم" ،الميزة الوحيدة التي تبث البهجة والفرح وتشير إلى قرب شهر رمضان. تتعدد المجسمات في أشكالها الفنية وقد يكون أبرزها مجسم المنارة القديمة المنتصب في شارع فردان.المنارة تبدو حقيقية تماما كالمنارة القديمة التي ما زالت قابعة في منطقة المنارة بلونيها الأسود والأبيض وحجرها العتيق . وعلى أحد الجزر الوسطية في منطقة الكولا تتمركز قلعة أثرية تبدو وكأنها صنعت من حجر صخري يضفي بعض القدم على المشهد وسفينة خشبية مع أشرعة متعددة لبنانية حفظت كل تفاصيلها فباتت بحاجة فقط الى بعض من الماء يساعدها على الإبحار. أما اعمدة بعلبك الشامخة فتبدو وكانها نقلت من مقرها الأصلي لتقبع مقابل حديقة الصنائع رمزا لصمود لبنان كعمر صمود هذه الأعمدة. والفينيقيون أجداد اللبنانيين الأول كان لهم حصة أيضا في منطقة وطى المصيطبة،بلباسهم التقليدي الأزرق والذهبي وكأنهم خرجوا من سفينتهم الفينيقة للتو وأمواج البحر تحيط بهم في منطقة وطى المصيطبة. وفي مناطق أخرى وضعت مجسمات تمثل قببا لجوامع وقلاع قديمة وأشكالا أخرى تدل على دقة التصميم وجمالية القطعة الفنية.

وما يزيد على بهجة هذه المجسمات العروض الجوالة التابعة لموكب "مرحبا يا رمضان" الذي نظمته مؤسسة دار الأيتام الإسلامية والمؤلف من مجموعة من العربات المصممة كمجسمات تمثل لبنان بما فيه من تنوع وجمال،ويدخل ضمنها عدد من الباصات التي تحمل الفرق الموسيقية والاطفال بملابس فولكلورية.هذا الموكب الذي جال لمدة خمسة أيام في مختلف المناطق اللبنانية باعثا" الفرح والخير والسلام في أجوائها.

يطل شهر رمضان هذا العام وشمس أيلول ما زالت حادة تبعث الكثير من الحرارة في الأجواء، فتأتي أيامه المباركة لتبرد قلوب اللبنانيين وتجمل مدينة أرهقها الروتين اليومي الساخن باستحقاقات قديمة وجديدة.


تعليقات: