الأستاذ حسين أشمر.. هجَر تعليم الأجيال لصنع برادع الحمير

الأستاذ حسين أشمر.. جليلاتي على سنّ ورمح (تصوير: علي شريم)
الأستاذ حسين أشمر.. جليلاتي على سنّ ورمح (تصوير: علي شريم)


هذا هو حال ابن العديسة، الأستاذ حسين أشمر، حين أدار ظهره لمهنة التعليم بعدما أمضى فيها نصف عمره، وتخرّج على يديه كثير من وجهاء منطقة قضاء مرجعيون وجبل عامل، وقرّر بعد تفكير وتمحيص ودراسة الجدوى الاقتصادية أن يعيش في جلباب أبيه، ولو كان ذلك مخالفاً لرغبة الأب واستشرافاته المستقبلية.

كان يوسف الأشمر، والد حسين، حريصاً أن يحظى أولاده بقسط وافر من التعليم ليكونوا من أبناء المستقبل لا الماضي، وليكتسبوا وسيلة لائقة للعيش الكريم، غير صنع الجلالات للحمير والبغال، وليكون لهم شأنهم في المجتمع، يُشار إليهم في لبنان، فيُقال: هذا هو الأستاذ فلان... وليس «الجليلاتي» أو «إبن الجليلاتي»! ولو أوتي ذلك الأب المتنوِّر العِلمَ ببعض الغيب، لترك المقادير تجري في أعنّتها، ولما أضاع ابنه حسين نصف عمره يدور في فلك التعليم مرواحاً في المكان ذاته لا يبرحه، مثل حصان الغرّاف، وليكتشف الإبن بعد فوات الأوان، أن الراتب الشهري للمعلّم، الذي يجب أن يقوموا له ويوفّوه التبجيل، لا يوازي ثمن جلالَيْ حمار أو بغلٍ من الطبقة الكادحة، يستغرق صنعهما أسبوعين.

لذا قرّر حسين أشمر أن يخالف والده الرأي، ومعه نور الشريف أيضاً، ويعيش في جلباب أبيه، ويشجع أولاده على حمل راية هذه المهنة الآيلة إلى انقراض، فذلك خيرٌ لهم وأبقى. وهي حكاية تُروى للعبرة والتاريخ، وعجائب العيش في بلد العجائب ومهد الأبجديّة.

لا يمكنك أن تبرع في مهنة ما إذا لم يكن لديك شغفٌ بها. هذا الشغف لم يكن ينقص حسين أشمر بالحرفة التي ورثها عن والده، الذي التقيناه في محترفه الحجري الواسع في قرية العديسة الملاصقة للخط الفاصل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة في الجليل الأصلي. هناك وعلى مقربة من بوابة فاطمة، راح يروي بفخر واعتزاز، حكاية غالباً ما يتهيَّب منها أبناء الريف إذا أوتوا نصيباً من العلم أو تبوأوا وظيفةً في ما الدولة، وحصلوا على لقب «أستاذ«!

»كنت أساعد والدي في مهنة صنع الجلالات في فترة الدراسة، خصوصاً في الصيف، إلى أن أصبحت موظفاً في ملاك التعليم الأساسي عام 1965، ما اضطرني إلى الإقلاع نهائياً عن مزاولة هذه المهنة حتى بداية الحرب الأهلية عام 1975. عند ذاك وجدتها ملاذاً آمناً لجأت إليه هرباً من أجواء الحرب، وكانت باباً لكسب رزق إضافي، خصوصاً وأن الراتب الشهري لم يكن كافياً لإعالة أسرتي، وكانت الجلال تدر عليّ دخلاً يتجاوز راتبي بمقدار أربعة أضعاف. كان وقتها أربعمائة ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل ثمن جلالين في أسبوع واحد».


اقتصاد التهريب

باحتلال العدو الإسرائيلي بلدة العديسة عام 1977، نشطت عمليات تهريب البضائع من الخارج. كانت تصل إلى الناقورة بواخر تحمل الحديد والدخان، فازداد الطلب بكثرة على صنع جلال الحمير والبغال في تلك المناطق الجبلية الوعرة التي يعتمد فيها التهريب على هذا النوع من الحيوانات. أكثر الطلبات كان منطقة شبعا على سفح جبل الشيخ، القريبة من الحدود مع فلسطين المحتلّة والأراضي السورية، حيث تشكل قمم مرتفعات جبل الشيخ الحدود الفاصلة بين البلدين. وكان أهل شبعا ينقلون البضائع المهربة إلى سوريا، فازدهر الطلب على الجلال، وكان سعر الجلال الواحد 250 ألف ليرة لبنانية.

ولم يوفّر حسين أشمر هذه الفرصة من دون أن يضع بصمته المهنية على مصنوعاته، فكان يُثبّت «كبسوناً» نقشت عليه شجرة الأرز، على كل جلال، ما جعل أهالي بلدة شبعا يخلعون عليه لقب «أبو أرزة».

ورغم كثرة طلبهم على صنع الجلالات للبغال خاصة، لم يكن أهل شبعا الجبليون هم زبائن «أبو أرزة» الوحيدون، بل طارت شهرته في الآفاق اللبنانية كافة، فكان الزبائن، من مكاريين وفلاحين ومهربين بصورة خاصة، يأتون إلى العديسة، حيث مصنع جلالي الأستاذ حسين، من الشمال والبقاع والمناطق الأخرى.


جليلاتي على سنّ ورمح

حتى عام 1993 كان اشتغال الأستاذ حسين أشمر بصنع جلالات الحمير والبغال، مهنة العائلة التي أحبّها وعمل على إبقاء شعلتها حيّة، ويعتبر نوعاً من «النقل خارج الملاك»، كما يُقال في مصطلحات الإدارة الرسمية. وبعد ذلك التاريخ كان قد استقال من مهنة التعليم، التي أعطاها الكثير وأخذ منها القليل مادياً. وبمعنى ما، كانت استقالته نوعاً من أبغض الحلال بسبب الظروف المادية القاهرة خصوصاً زمن الحرب اللبنانية. يقول بشيء من الزهوّ والرضى عن النفس: «خرّجتُ عدداً كبيراً من وجهاء المنطقة. وكنت محبوباً من أبناء بلدتي الذين انتخبوني في ما بعد، فصرت عضواً في مجلس البلدية من عام 2001 إلى عام 2010». وكان، بالزهو نفسه، يفتخر بعمله الموازي. فعندما يُسأل عن اختصاصه ممن لا يعرفه كان يقول «جليلاتي» ولا يقول «أستاذ»، وكأنّه يقول في تقديم سيرته الذاتية: جليلاتي متفرّغ، سبق أن عمل أستاذاً في سلك التعليم الرسمي مدة 28 عاماً.

وإذا كانت وسائل المواصلات الحديثة، خصوصاً السيارات، قد انتشرت مع الثورة الصناعية، وتسارعت في قفزات كبيرة، وغطّت على مهنٍ كثيرة، ومنها صُنع السروج للخيل، والجلالات والبرادع للبغال والحمير، فإن من الحماقة اعتبار مثل هذه المهن تحمل معانٍ سلبية أو مدعاة للشعور بالحرج. فقبل السيارة، كانت وسائل النقل والانتقال والسفر، ما عدا البحر، الدواب على أنواعها. وفي القرآن الكريم «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون». وكان الناس يكنّون بأسماء المهن التي يعملون فيها، أو المدن والمناطق التي يعيشون فيها: جليلاتي، سراج، قباقيبي، إسكافي، بيطار، فاكهاني، حلواني، معصراني، طحّان، زبّال، مكاري... إلى آخر ما هنالك من مهن.


التحرير شمل الحمار أيضا!

بعد عام 2000، وهو عام التحرير الذي جلت فيه القوّات الإسرائيلية عن الأراضي المحتلة في جنوب لبنان، توقفت أعمال التهريب عبر الحدود، وكان من نتائج ذلك أيضاً أن مُنع قطع الأشجار من الأحراج، ما أوقف نقل الحطب على ظهور البغال. ناهيك عن انتشار وسائل النقل الآلية وأدوات الحراثة، فحلّت السيارات والجرارات مكان الحمير والبغال. فكان أن تضاءل الطلب على «اكسسوارات» الحمير والبغال من الجلالات والبرادع، ومن جهة ثانية كانت هناك مزاحمة سورية في هذا المجال


لا أشجّع أولادي

يعترف الأشمر أن ربحه من هذه المهنة تضاءل إلى أدنى حدوده. ولكنه ما يزال يمارسها لأنها هوايته الذي أحبّها، وللحفاظ على صحته، كما ذكر لنا «فجسمي تعوّد العمل، وأنا مصاب بأمراض عدة، فيساهم عملي في التخفيف منها. لكنني أصبحت أعمل ببطء فأصنع ما تيسّر، وأبيع لتاجر جملة من بلدة حولا وتاجرين آخرين من مدينة جبيل وبلدة جبّ جنّين ولزبائن آخرين هم الهواة الذين يحبون اقتناء الأدوات القديمة لتزيين منازلهم. هؤلاء يطلبون جلالي صغيرة الحجم، لا تصلح إلا للزينة». وردّاً على سؤال إن كان حسين الأشمر يشجّع أولاده على امتهان حرفة صناعة «جلال الحمار»، فقد نفى بالقول: «كيف أشجعهم على مهنة ستنقرض بعد وفاتي ووفاة أخي نجيب الأشمر الذي يصنع الجلال في مشغرة، حتى أن نجيب قال مرّة لأهل مشغرة، ماذا ستفعلون من بعدي إن عدتم إلى زمن البغال؟».


الحمار عارض أزياء!

ويختم الأشمر: «صار الحمار «فنغرة»، أي للتنزّه والتقاط الصور، وسأقوم بصنع هيكل خشبي على شكل «حمار» لأعرض عليه ما استطيع صناعته وعرضه، ولكي يبقى هذا التراث بعد وفاتي، إذ أريد من أولادي أن يقولوا أن أبانا هو «جليلاتي»

الأستاذ حسين أشمر.. هجَر تعليم الأجيال لصنع برادع الحمير  (تصوير: علي شريم)
الأستاذ حسين أشمر.. هجَر تعليم الأجيال لصنع برادع الحمير (تصوير: علي شريم)


يزداد الطلب بكثرة على صنع جلال الحمير والبغال في المناطق الجبلية الوعرة  (تصوير: علي شريم)
يزداد الطلب بكثرة على صنع جلال الحمير والبغال في المناطق الجبلية الوعرة (تصوير: علي شريم)


يزداد الطلب بكثرة على صنع جلال الحمير والبغال في المناطق الجبلية الوعرة  (تصوير: علي شريم)
يزداد الطلب بكثرة على صنع جلال الحمير والبغال في المناطق الجبلية الوعرة (تصوير: علي شريم)


ينتظر كسوته (تصوير: علي شريم)
ينتظر كسوته (تصوير: علي شريم)


تعليقات: