أول أيار: أعباء تتزايد ومطالب تبتعد

يأتي الاول من ايار هذه السنة مكللاً بأسوأ الظروف الاجتماعية والاقتصادية والمالية نتيجة تراكمات الخلافات السياسية والتطورات المحلية والاقليمية التي غيبت كلياً مجرد الحديث عن الهموم المعيشية لعشرات آلاف العائلات التي تضررت مباشرة في الارزاق والارواح ومصادر الرزق. هي السنة الاساسية والمفصلية التي قربت هموم العمال من هموم أصحاب العمل ووحدتهم حول الهجرة والخسارة والجمود وسط غياب شبه تام للحد الادنى من الحوارات الاقتصادية بين العمال واصحاب العمل.

السنة الاسوأ على العمال والمؤسسات جعلت الفقراء يقفون الى جانب الاغنياء في نداءات المطالبة بالهدنة والاستقرار للمحافظة على ما تبقى من القدرة على الاستمرار والاحتفاظ بفتات المكاسب.

لقد غيبت التطورات السياسية والامنية على مدى السنتين الاخيرتين بل السنوات العشر الماضية ملامح البرنامج المطلبي وسط غياب الحركة النقابية وتشرذمها والالتهاء بالولاءات السياسية والمصالح الشخصية للمرجعيات السياسية والطائفية على حساب الاهتمام بمصلحة العمال ومطالبهم والسعي لمحاربة معطلي التقديمات وتعطيل مصالح البلاد والعباد.

طبيعي إزاء هذه الصورة من الاداء النقابي والوضع المعيشي المأزوم بتأزم الوضع السياسي أن تغيب الانجازات والمكاسب العمالية احتراماً لتقديم المكاسب السياسية وتحسين مواقع بعض القيادات ولو جاء ذلك على حساب العمال والوطن وأهله.

بين الاول من ايار من العام 1965 تاريخ إنشاء فرع نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والاول من ايار من العام 2007 عيد العمال في هذا العام محطات من النضالات العمالية الفاعلة والناجحة في ذلك الوقت، والمخيبة خلال السنوات العشر الاخيرة وصولاً الى الاسوأ في هذا العام على الصعد المختلفة.

لقد حقق إنشاء الضمان الاجتماعي ونظام تعويض نهاية الخدمة بالنسبة للطبقة العاملة، نقلة نوعية في العام ,1965 وكانت نقلة متقدمة على سابقة «نظام تعويض الصرف من الخدمة» الذي كان ينص عليه قانون العمل اللبناني منذ العام .1946 فقد أدى هذا النظام الجديد في ذلك الوقت الى التخلص من مجموعة السلبيات التي كانت متفشية في النظام السابق والتي كانت تجعل التعويضات أقرب الى الخيال منها الى الواقع بفعل ممارسات وسيطرة أصحاب العمل على الحقوق العمالية. وتشير الوقائع الى انه قلما كانت التعويضات تحصل من دون اللجوء الى القضاء.

لقد جاء هذا الانجاز المؤقت، وهو الفرع الاول من فروع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، نتيجة نضالات الطبقة العاملة ونداءات المفكرين والمهتمين بالشأن الاجتماعي، وهو الانجاز الابرز وبعده الضمان الصحي والتعويضات العائلية التي شكلت بدورها المكسب شبه الوحيد للعمال والمستخدمين في القطاع الخاص. بعد هذه المكاسب الثابتة وتصحيحات الاجور المتقطعة خلال السنوات السابقة للعام 1995 و1996 آخر تصحيح للأجور في القطاعين العام والخاص. بعد هذه المكاسب الخجولة، توقف نمو الحركة المطلبية، وتوقفت التقديمات الاجتماعية منذ أكثر من 15سنة، ولم تستطع الحركة النقابية ومجالس الضمان المتلاحقة من تحقيق خطوة واحدة الى الامام بسبب عوامل عدة أبرزها الاستزلام السياسي والطائفي للسلطات القائمة، مما أدى الى تشرذم الحركة النقابية، وحتى الطلابية التي كانت رافداً أساسيا لكل حركة مطلبية.

حتى الهيئات الاكثر تمثيلاً والهيئات الاقتصادية والصناعي تحديداً ضاعت عن توجهاتها فغاب الحوار الاقتصادي ـ الاجتماعي.

حتى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي نص عليه الدستور، والذي تم تشكيله من كل فئات المجتمع الاهلي وممثلي الدولة فقد عطلته الممارسات السياسية لأهل السلطة بسبب الصراع على تكريس الولاءات، وقد ساهم في ذلك غياب الحركات العمالية والهيئات الاقتصادية عن التحرك بقوة لتعزيز الحوار الاجتماعي والاقتصادي، لأن المجلس الذي حرم من مقومات العناصر البشرية وبالتالي المقومات المالية حاول التحرك بقدراته الشخصية من رئيسه روجيه نسناس خصوصاً وبعض أعضائه وهيئة مكتبه بشكل عام. وقد أنجز رئيس المجلس دراسات وقام بنشاطات فردية آخرها كتاب مسودة الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وفيه توجهات وتوصيفات واقتراحات حلول للخروج من الازمات العامة في لبنان، والذي يشكل أرضية جيدة تساعد الدولة على الخاص. وكان يفترض بالدولة والحكومة أن تعيد إحياء المجلس وتكرسه المكان الوحيد للحوار الاجتماعي والاقتصادي، بسبب شمولية تركيبته. وهذا أمر يطرح الشك بأن الدولة تسر لرؤيته في زمن التبعيات الشخصية والمباشرة لأهل السلطة من قبل العديد من الهيئات المعنية بالحوار الاقتصادي والعقد الاجتماعي. والسؤال البديهي هنا لماذا اذاً هذا التعطيل القسري للمجلس بوقف الحوار الاقتصادي والاجتماعي؟ كذلك ايضا يمكن السؤال عن غياب الحوار بين العمال وأصحاب العمل عن سبل حماية القطاعات الانتاجية ومشاركة العمال في الدفاع عن استمرارية عمل المؤسسات لأن فيها حماية استمرارية عمل العمال والحد من الهجرة والبطالة التي فاقت نسبها الـ20 في المئة، 60 في المئة منها تعود لبطالة الشباب والخريجين الذين يهاجرون بالجملة والمفرق.

لا شك في ان السبب الاقتصادي هو الاساس بالنسبة لهجرة الشباب والعائلات اللبنانية نتيجة الضيق المعيشي وضيق فرص العمل وغياب القدرة على تلبية الحد الادنى من الاعباء المعيشية بفعل الظروف السياسية والامنية، لا سيما بعد حرب تموز. ولا بد هنا من شرح بعض الاسباب التي فاقمت الازمة.

1ـ فالسبب الاقتصادي يعود الى تاريخ الحرب اللبنانية، وتحديداً الى ربع القرن الاخير، ومرده الى تراجع حجم الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي بمعنى الصناعة والزراعة والمهن الاساسية، إضافة الى التزايد في الركود الاقتصادي. وحتى التوظيفات أو الرساميل الواردة الى لبنان خلال سنوات ما بعد الحرب كانت موجهة الى الاستثمار في سندات الخزينة حيث المردود المرتفع من اية أعباء ضريبية أو أكلاف تجهيز لمؤسسات، وهي أموال دخلت للاستفادة من الريوع المرتفعة وشكلت في بعض الاوقات عبئاً على الاقتصاد وعلى الخزينة. وهذه الربحية السهلة لأصحاب الاموال أضعفت فرص العمل كثيراً.

2ـ ان عجز الموازنة وبالتالي عجز الخزينة المستمر منذ سنوات ما بعد الحرب اللبنانية في العام 1975 وصولاً الى الازمات السياسية الحاصلة بعد الحرب التدميرية للعدو الاسرائيلي في تموز من العام ,2006 والتي أقعدت بعض القطاعات الاقتصادية وزادت من تقليص قدرات القطاعين العام والخاص.

هذا مع العلم ان القطاع الخاص هو أساس التوظيف وخلق فرص العمل، باعتبار ان الدولة عاجزة عن استيعاب ولو جزءا بسيطا من الخارجين الى سوق العمل. ناهيك عن ارتفاع كلفة الانتاج وأسعار الخدمات التي قلصت القدرات التنافسية للمؤسسات اللبنانية. وهذا أمر جعل الطبقة العاملة تواجه صعوبة تحسين مداخيل الاسرة التي تآكلت قدراتها الشرائية بفعل التضخم وانهيار سعر العملة الوطنية وصولاً الى الاعباء الضريبية وأسعار الخدمات من كهرباء وصحة وتعليم وسكن وغير ذلك.

3ـ السبب الثالث الاكثر تأثيراً في السنوات الاخيرة كان لحجم البطالة ومن ثم البحث عن الهجرة في عمليات الصرف الجماعي والتعسفي من مؤسسات القطاع الخاص حيث بلغ المعدل السنوي للمصروفين من العمل ما بين 20 و30 الف عامل في العام 2006 و2007 بحسب الاحصاءات الاولية للوساطات التي تقوم بها وزارة العمل ومعالجات النقابات وصندوق الضمان الاجتماعي. وقد أكدت هذه الاحصاءات ورقة الحكومة الى باريس ـ3 التي تحدثت عن الموضوع الاجتماعي وضرورة تعزيز مساعداته من قبل الدول المانحة، مشيرة الى ان 30 مستخدماً فقدوا عملهم. مع الاشارة هنا الى ان مساعي الادارات المعنية وتحديداً وزارة العمل ليست لإعادة المستخدمين الى عملهم، وانما لتحسين تعويضات الصرف لآلاف الأجراء. أما أسباب الصرف فهي سياسية اقتصادية بحجة الخسائر أو الاقفال أو تقليص النشاط وهذا أمر واضح من خلال كل القطاعات الصناعية والسياحية والزراعية وحتى التجارية. ويمكن القول ان بعض هذه المؤسسات يأخذ من الوضع الاقتصادي ذريعة للقيام بعمليات صرف واسعة.

ويمكن هنا التوقف عند ظاهرة بسيطة وهي الترك المبكر الذي يشهده الضمان الاجتماعي، أي التصفية المبكرة لتعويضات نهاية الخدمة قبل بلوغ السن أو قبل إكمال 20 سنة خدمة. فالاحصات الموثقة تشير الى أن 57٪ في المئة من الذين يصفون تعويضاتهم من الضمان يقومون بذلك بداعي ترك العمل إما بسبب الصرف وإما بسبب الهجرة، وإما بدواع اجتماعية لتسديد متوجبات ملحة بسبب الضائقة المالية، إشارة الى أن عدد الذين صفوا تعويضاتهم خلال العام 2003 بلغ حوالى 8,17 الف أجير، منهم حوالى 12 الفا و200 مضمون بداعي ترك العمل قبل استحقاق التعويضات. وهؤلاء يخسرون ما بين 15 و50 في المئة من قيمة تعويضاتهم الفعلية بسبب الترك المبكر الذي يحصل حالياً، إما بسبب عمليات الصرف الجماعي والفردي بسبب الركود الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، وإما بسبب الاوضاع والحاجة الاجتماعية بسبب تراجع القدرات الشرائية للأسرة، أو لأن المضمون قرر الهجرة سعياً وراء الفرصة الافضل لعدم قدرته على تأمين معيشته في الخارج. كل هذه الامور مجتمعة تعيشها الطبقة العاملة اللبنانية التي لم يعد هناك ما يضمن لها فرصة العمل واستمراريتها في حال توافرت هذه الفرصة. في المحصلة ان عيد العمال في الاول من أيار من العام 2007 يحتاج وقفة ضميرية مما تبقى من «روبة» الحركة النقابية، كما تتطلب مواقف جدية وتكرار الدعوة الى عنصر الشباب العامل لاقتحام العمل النقابي لإعطائه حيزاً من النشاط المستقل عن كل المؤثرات والانتماءات الطائفية والسياسية لتغليب الهم المعيشي على الولاء السياسي المقود لكل الحركات المطلبية.

لم يعد من الجائز منذ الآن ان تبقى الحركة النقابية والاتحادات العمالية تتحرك وتجمد بمشيئة المصالح السياسية والطائفية والمرجعيات والمحسوبيات بينما العامل يبحث عن مرجعيته لتدافع عن استمرارية عمله وتقديماته المهددة من الضمان الى التعويضات الى حقوق حتى الصرف من الخدمة وهو يدفع ثمن التضخم والغلاء وارتفاع اسعار الخدمات وترديها. «ان مجتمعا لا يمكن أن يستقر وينتج وعامله غير مستقر».

تعليقات: