لبنان، وجهة نظر


إن فهم الواقع الحقيقي لأي مجتمع أو دولة إنما تعكسه الإحصاءات والمؤشرات الإحصائية التي تبنى على أسس علمية ومنهجية لا تحتمل الخطأ ولا تقبل التقديرات الإرتجالية، بحيث يتم جمع هذه البيانات عبر منهجية ومعايير علمية وموضوعية ثابتة، ومن قبل أجهزة ومؤسسات متخصصة، وفي هامش ضيق جداً من الخطأ لا يمكن أن يتجاوز ال 1 % في أسوأ الأحوال.

في لبنان، الأرقام والإحصاءات وجهة نظر، ويبرع المسياسيون والمسؤولون في إطلاقها عبر تصريحاتهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية دون التثبت من صحتها أو دقتها، وهو أمر تعودنا عليه ولم نعد نتوقف عنده. لكن أن تكون الارقام والإحصاءات مجرد وجهة نظر لدى أجهزة الدولة الرسمية والمسؤولين عنها، وفي مسائل مصيرية تتعلق بالمواطنين وأمنهم الإقتصادي والإجتماعي والتربوي والصحي، فهذا أمر خطير وغير مسبوق لدى الدول، وهو من شأنه أن يساهم في خراب الدولة وتفككها.

ومسألة غياب الأرقام والإحصاءات الرسمية في لبنان ليس بجديد، بل هو سياسة قائمة بذاتها، بدأت منذ ما قبل فجر الإستقلال ولم تزل مستمرة لغاية اليوم. وتغييب الإحصاءات لا يطال بعض القطاعات دون غيرها، بل هو يطال حتى حجم مساحته وعدد سكانه وعدد الولادات والوفيات فيه (آخر إحصاء رسمي عن عدد سكان لبنان يعود إلى العام (1932) ومن غير المستبعد أن نحتفل بمئوية المناسبة قبل إجراء إحصاء آخر)، ويطال كذلك حجم الدخل القومي العام وأرقام الموازنة العامة، وقيمة الدين العام ونسبته، وعدد الأجراء في القطاعين العام والخاص، وعدد الشغور في الوظائف العامة، وقيمة الجباية والضرائب ونسبتها، وعدد التلامذة في التعليمين الرسمي والخاص، وعدد المهاجرين اللبنانيين وحجم تحويلاتهم المالية، وحجم الإنتاج الزراعي والصناعي، وسعر البطاطا والبندورة والذهب والفضة، وحجم الثروة المفترضة من الغاز والبترول، وكلفة الفساد المنظم في مؤسسات ومرافق الدولة، وعدد النازحين السوريين الذين يستوطنون لبنان وكلفة هذا النزوح على البنية التحتية للدولة اللبنانية وعلى إقتصادها ومدارسها ومستشفياتها...ألخ

وبدل أن تكون السياسات الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والصحية للدولة مبنية على قاعدة معلومات وطنية متينة تطال مختلف القطاعات وتشكل مرجعاً ضرورياً لكل أصحاب القرار في الدولة ولكل باحث إقتصادي أو إجتماعي، غدت الأرقام من وجهة نظر المسؤولين اللبنانيين نقمة وتهديد لأمن واستقرار البلاد، وأصبحت سلاحاً يستعمله المتخاصمين فيما بينهم وبطريقة كيفية واستنسابية لتبرير وإثبات صحة تحليلاتهم ومواقفهم، أو للتأكيد على دحض أفكار وخطاب الآخر.

فهل من المعقول أن لا يتورع وزراء مسؤولين من الخروج إلى الناس واستسهال التحدث في أرقام تختلف نسبتها بين وزير وآخر وبما يتجاوز أل 25 وال 50 % في أحيان كثيرة؟ وهل من المعقول أن يتحدث نائب أو وزير أو أي مسؤول آخر عن حجم الدين العام وكلفته على الشعب اللبناني وكأنه يتحدث في مسألة ترفية لا علاقة جوهرية لها بمعاناة اللبنانيين ومصير أبنائهم؟ وهل من المعقول أن تكون إدارة الإحصاء المركزي إدارة ثانوية مهمشة لا يعود المسؤولين إلى بياناتها ولا يأخذون عملها بعين الإعتبار؟

إن ما نستسهل التعاطي معه حول هذا الموضوع هو جريمة موصوفة بحق أبنائنا، وبحق ماضي وحاضر ومستقبل هذا الوطن، فهل من المقبول أن يصبح عدد السكان وجهة نظر، وأن يصبح حجم الدين العام وجهة نظر، وأرقام الموازنة العامة وجهة نظر، وعدد المستفيدين من المؤسسات الصحية والإستشفائية وجهة نظر؟!... وهل يصح أن تصبح مؤسساتنا الدستورية التشريعية والتنفيذية ممدداً لها بحكم الضرورة وإلى ما شاء ألله، وأن تصبح مؤسساتنا الرسمية الأمنية والمالية والإقتصادية والإدارية والتربوية هياكل فارغة من الموظفين وأصحاب الكفاءة والجدارة، وأن تصبح مرتعاً لأصحاب النفوذ يمارسون فيها فسادهم ويملأون ملاكاتها بالتعاقد مع رجالاتهم، وذلك فقط لأننا نجهل تماماً أهمية إنتاجيتها ومردودها، ونجهل قيمة الهدر فيها، ونجهل عدد موظفيها وهيكليتها وموازناتها وعدد الشغور فيها...

قد يكون المواطن اللبناني لا يستحق هكذا دولة، وهذا صحيح، وقد يكون لا يستحق هكذا مسؤولين وهكذا معاملة، وهذا صحيح، ولكن عليه أولاً وقبل أي شيء آخر عليه أن يثبت أنه لا يستحق كل هذا، وأن يثبت ذلك بالفعل والممارسة وليس بالكلام فقط...

* أحمد حسّان - أمين الإعلام في جبهة التحرر العمالي


تعليقات: