الخال «أحمد نعيم عبدالله».. سنة على الغياب

المرحوم أبو محمد أحمد نعيم أمين الحاج أسعد عبدالله
المرحوم أبو محمد أحمد نعيم أمين الحاج أسعد عبدالله


يا خال...

تمر علينا ذكراك في سنتها الأولى من الرحيل الصعب (07/09/2013)، ونحن لم نستوعب بعد فجيعة الفراق، ولم نستسغ الى الآن آلام الغياب، ولم نهضم نوى قسوة الذهاب، فالأيام تهرول بنا ونحن في هذا الذهول السالب للإرادة من وقع الحاضر المرير، حيث تطرق مسامعي كل صباح مع صلاة الفجر، دعاء والدتي في محرابها وهي تلهج باسمك مبتهلة للعلي القدير أن يمنحك الرحمة والرضوان، مع ايمانها بقضائه تعالى وقدره، محتسبة أمرها على فراقك الأبدي عند مليكٍ مقتدرٍ.

يا خال...

علّمتنا ان الإرادة الصلبة الممزوجة بالعزيمة الصلدة هي الأقوى دوما في مواجهة جشع النوائب التي ما برحت جاثمة على مسار حياتك القصيرة والتي فجعتك يوما وانت ابن ثلاثة عشر عاما بفقدان الوالد الرؤوف (06/01/1971)، فشحّت الابتسامة بين ثنايا ثغرك منذ ذلك الحين، وانطويت على بواطن نفسك تدفن بها اختلاجات اليتم المبكر، وما أقساه يومئذ على فتى كان ينظر الى القادم كواحة أمل من مشكاة حاضر تعس، فكفهرّت الدنيا أمامك، بعد فاجعة غياب مُعيل الأسرة وعمادها.

لذا يممت وجهك شطر مرج الخيام، جذلان تمرح في حقوله، مستلهما من قصيدة ايلي أبي ماضي "وطن النجوم"، ديدن طفولة منزوية أرغمك عليها حكم القدر البليغ، فغدوت تمضي جلّ يومك (من مشرقها الى مغربها) أثناء عطلاتك، في صيد الطرائد بين ربوع ذلك المرج، مستخدما شتى الوسائل والأساليب، كما وأمتعت فراغك بصيد السمك من النبع الدافق، والذي كنت تمارسه في فصل الربيع على ضفاف نبع الدردارة مستظلا بشجرة الكينا على ضفته ("كناية" خالك المرحوم "أبو علي نعيم")، أما صيد البر فقد أمسكت بكل تلابيبه وطبقا لسنيّ عمرك، بدأً من الفخاخ التي كنت تصنعها بنفسك وتحافظ على ذخيرتك من "دود الذرة" طيلة فصل الصيف فتصطاد عصافير "الغبرة" و"العضيض"، أو باستعمال (المغيّطة) والتي كنت تبري شعابها من شجر السنديان العتيقة، فتقنص بها في الربيع عصافير الخوارنة والقسيس وفي أواخر الصيف عصافير التين والرمودي، وعندما تناولت بندقية (الدّكّ) تصديت لمواسم الفرّي، والزراير والسمان وديوك القطا، فكنت تحفظ روزنامة حلولهم في مرج الخيام ربيعا وخريفا، في رحلتي الذهاب والاياب السنوية لهم، مصطحبا معك كلبك الوفي (بويك)، والذي غدى أشهر كلب صيد في المنطقة، الأمر الذي حدا بجميع الصيادين من أهلك ومعارفك التسابق لإستعارته في تلك المواسم.

خالي الراحل...

ما زلت أذكر مروءتك ونخوتك عند استنجاد المزارعين بك للتصدي للثعابين السارحة بين الحقول في مواسم الحصاد او جني الثمار في الصيف، فكنت ما أن تسمع الصوت مناديا "يا أحمد نعيم" إلا وتلبي مسرعا حاملا ما تيسر لك من رفشٍ أو عصا تجدها أمامك وتنهال على ذلك الثعبان الى أن تصرعه، ولا تكتفي بذلك، بل تحمله وتمدده على طريق المرج أمام بستان خالك المرحوم "خنجر أفندي عبدالله"، فتدهش بذلك السيارات المارة، ويتمهل السائقون وهم بحالة من الفزع في بادئ الأمر، وعند الاقتراب أكثر، يصرخون عملها "أحمد نعيم" مرة أخرى، كما ولا أنسى كيف كانت تجفل أيضا من ذلك المنظر المريع كل مطية عابرة، وكم من مرة سقط فارس عن فرسه، او فلاح عن حمارته، عند مشاهدة مطاياهم تلك الأفاعي الحمراء منها أو السوداء والمتمددة على الطريق والتي يتجاوز طولها المترين في أغلب الأحيان، وانت كنت تقابل ذلك بابتسامتك المعهودة والممزوجة بلذة الانتصار على الفزع المحيق بذلك الفلاح المستنجد بك، فنجدته.

وعندما داهم وطنك لبنان نكبته الأليمة في حرب السنتين والتي اكتوت بنارها بلدتك الحبيبة "الخيام"، التحقت في عام (1976) بأخوتك في ديار الاغتراب، وبدأت مسيرتك المضنية بطلب الرزق في قيافي الخليج، تلك المسيرة التي حسبتها إنها مؤقتة فخطفت من عمرك (36) سنة، وان كنت تختلس زيارة خاطفة لبلدتك العزيزة "الخيام" بين الفينة والأخرى، رغم رزوخها تحت نير المحتل الغاشم، حينذاك، ولم تسلم في إحدى تلك الزيارات في عام (1985)، من توقيفك اعتباطيا في معتقل الخيام، وتجرعك مرارة المعاناة من زبانيته السيئي الذكر، ولتتذوق شتى صنوف درب الآلام الطويلة، وتعود من بعدها لمتابعة عملك في الخليج، وفي خضم حرب (2006)، وكأن العدو لم يكتفي منك بذلك الاعتقال الجبان، فأكمل سخطه ومكره بقصف منزلك في بلدتك الخيام، ومحوه من الوجود، وغابت ذكريات طفولتك المشتتة مع ركامه المتناثر، وان كان غدر الزمن وأطيافه لم يمهلانك لإعادة بناءه، وبعثه من جديد.

هذا واستمر الدهر لك بالمرصاد، ولم يدعك تهنئ بعمرك القصير، إلى أن أورثك المرض العضال، الذي صرعك وانت لم تبلغ الخامسة والخمسين من العمر، مع تجرع نفس الكأس المر الذي أودى بثلاثة من أخوتك من قبلك، ومن دون أن يبلغ أحدهم الستين من عمره والذي حملت فوق كاهلك، ألم فقدانهم ومرارة غيابهم وحسرة رحيلهم المبكر، الواحد تلو الأخر.

خالي العزيز،

مهما طوى الزمان من لياليه، ومهما تعاقبت الأيام من أعدادها، فإن مكانك بالقلب خالداً، ورسمك بالبال ساكنا وذكرك باللسان ملازماً، وغفر الله لك ورحمك في علياءك الأزلي وان لله وإن اليه راجعون.

* الحاج/ أحمد مالك عبدالله

سجل التعازي بالمرحوم أحمد نعيم عبدالله (أبو محمد)

تعليقات: