المجموعات الطوائفية والمعارك الوجودية


نعاني في نظامنا السياسي اللبناني من غياب الديمقراطية بما هي سيادة القانون وحكم المؤسسات وتداول السلطة، وبما هي ممارسة يعيشها المواطن في واقعه وفي حياته اليومية، وغياب الديمقراطية في هذا المفهوم هو علّة لا تختلف في شيء عن علّة الجنون حيث كل مواطن يبدو كفرد في قمة وعيه وإدراكه ولكنه يعيش في مجتمع يعجز أهله عن إدراك واقعهم ومصالحهم الوطنية العامة، ويعجزون بالتالي عن فهم هذا الواقع والتكيف معه ومحاولة تغييره وتغيير بنيته، بل على العكس من ذلك نجد أننا ننخرط في لعبة نخبته السياسية الغارقة في حساباتها الشخصية والعصبية والفئوية والطائفية، وننخرط معها في لعبة تغييب صوت العقل والضمير، ونساهم في تغليب الغرائز والعصبيات الطائفية والمذهبية.

فالمواطن اللبناني أكثر قدرة على فهم لغة العصر وتحليل الوقائع والسياسات والأحداث، وهو أكثر المتمسكين بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة والحداثة، وهو أكثر من يرفض الظلم والعنصرية وينبذها ويستنكرها، ولكنه في المقابل هو أكثر من يستسلم للعيش وسط مجتمعات طائفية وفئوية وغرائزية، بل هو يرضى في أحيان كثيرة بأن يكون إحدى أدوات هذه المجتمعات وأحد الذين ينقادون إلى جنون جماعته وأهوائها وأهواء أصحاب النفوذ فيها.

إن هذا الإنفصام والتناقض الكبير الذي يعيشه المواطن اللبناني بين أن يكون مواطناً صالحاً وناجحاً ومتميزاً في محيطه وفي مكان وجوده وعمله، وبين أن يعيش وسط مجتمع لا يبالي بالمبادىء الإنسانية العامة ولا يتورع عن إنتهاكها، هو مواطن خاسر وأبرز معالم خسارته هو العيش في مجتمع يفتقد لغة الحوار الحر بين مكوناته، وينخرط في تحزبات طائفية لا تخضع سوى لإرادة راعي الطائفة وعصاه.

لقد سكتنا طويلاً وعن سابق تصور وتصميم عن إهمال المؤسسات الوطنية الجامعة، وأهملنا توسيع المساحات المشتركة بين المواطنين، وأضعفنا روح التطوع والمساهمة في تفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات النقابية والأحزاب المدنية العقائدية التي تؤمن بمبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته، وقطعنا تواصلنا مع الآخر المختلف، وتجاهلنا هواجسه ومتطلباته وحاجاته، وحاصرنا بعضنا البعض في غيتوات مناطقية ونفسية شبه مقفلة وممنوعة على الآخرين، وضيعنا على أنفسنا حلاوة الإحتفال بالإنجازات وتحمل مسؤولية القضايا المشتركة والنضال من أجلها.

هل أصبحنا نعيش في مجتمع بلا دولة، وهل إن دولتنا بنظامها السياسي وعقدها الإجتماعي أصبحت عاجزة إلى هذا الحد عن تجديد نفسها وعن تداول السلطة وممارسة أبسط مفاهيم الديمقراطية وتطبيق الدستور والقانون؟!

هل أصبحنا غير قادرين على تجديد عمل مؤسساتنا الدستورية والإدارية والقضائية والخدماتية والرقابية؟!

هل أصبحنا في دولة فاشلة غير قادرة على تأمين الأمن والامان والطبابة والأستشفاء والدواء والتعليم الرسمي وفرص العمل والخدمات الأساسية للمواطنين، وهل أصبحت الدولة عاجزة عن حماية حدودها ومواطنيها أمام التدخلات والإعتداءات الخارجية؟

هي أسئلة مشروعة ومفتوحة ومتنوعة ولها مبرراتها ومقدماتها المنطقية، ولكن هل هناك من يمكنه أن يجيب عليها ويتصدى لها ويعمل على المساهمة في معالجتها وإيجاد الحلول لها؟!

كنت أشك في ذلك واشك أننا قادرون على إحداث التغيير المطلوب، ولكنني الآن وبعد كل ما نشهده من جرائم قتل إرهابية مروّعة ومن تطاحن وتصارع على السلطة، ومن تطوع وانخراط في خدمة الفتن بين أبناء الشعب الواحد، ومن إقتراب المجموعات الطائفية من القناعة بأنها تخوض معارك وجودية مع الآخر، وما سيترك ذلك من مخاطر حقيقية على بنية الدولة وعلى المجتمع الاهلي فيها، ترسخت القناعة لدي بأن الخلاص والتغيير الحقيقي أصبح أبعد من مدى رؤيتنا وتطلعاتنا وتمنياتنا، وأن رجال الدولة الذين يعتد بهم قد إنقرضوا أو كادوا...

..

* أحمد حسّان

تعليقات: