بحر صيدا تغرقه الممنوعات

الزيرة: مقصد الصيداويين... ومحميتهم
الزيرة: مقصد الصيداويين... ومحميتهم


قوانين الشاطئ تقيّد السياحة وقوانين المدينة تجعل الصيف «شرعياً»

العتب هو محور حديث معظم الصيداويين من بحارة وصيادين وجيران البحر حين يتعلّق الأمر بالسياحة البحرية في مدينتهم. يتحدثون عن عدد من القوانين الوزارات والبلدية التي تقيّد هذه السياحة على أنواعها. ويأتي التوجه الديني لأبناء المدينة ليضع قيوداً أكثر مرارة على الحركة السياحية في المدينة

يعانق البحر مدينة صيدا على طول جهتها الغربية. على رغم ذلك، لا استراحات ولا مسابح فيها، ولا يشعر أهلها بأنهم يستفيدون فعلياً من مدينتهم وموقعها السياحي المميّز. ولولا بعض الخرق لجليد المحرّمات والممنوعات الذي تكسره «استراحة صيدا» لاقتصر الأمر على انتشار أهالي صيدا على الشاطئ لتدخين النراجيل والاستمتاع بغروب الشمس، بعيداً من هموم القوانين التي تحدّ من الاستفادة من البحر.

في محاذاة القلعة البحرية، توجد «عوامة» تشكل المطعم البحري الوحيد في صيدا. يعيد عبد القادر رنّو صاحب المطعم العائم فكرة إنشائه إلى الغاية السياحية «من خلال تحرك العوامة بين الشاطئ و«الزيرة» (جزيرة صيدا) لأن مشهد صيدا أكثر جمالاً لمن يراها من البحر» لكن... «اكتشفنا أن القانون يمنع تحرك العوامة ليلاً فالتزمنا بالأمر وركنّاها هنا عند الشاطئ قرب الميناء، ماشي الحال».

أي حال؟ يجيب: «ولدت الفكرة قبل أربع سنوات ولم نكن نعلم بأنه لا قانون في لبنان ينظم هذا الأمر. البلد السياحي الذي يجب أن يكون مثل جيرانه من دول البحر فيسمح بإنشاء مطعم عائم، يملك قانوناً يتجاهل التعديات على الأملاك البحرية من خلال إنشاء متنزهات ومطاعم وغيرها من الأمور غير القانونية، ويلاحق فكرة سياحية متواضعة».

ويشرح رنّو أنه فوجئ العام الماضي، مع بداية العدوان الاسرائيلي، بمحضر مخالفة بـ250 مليون ليرة «تحت عنوان أننا غيّرنا وجهة استعمال المركب، مع العلم بأنني أدفع الضرائب على أكمل وجه، وأمتلك عداد مياه وساعة كهرباء. نحن انطلقنا في العمل على أساس موافقة مبدئية ولأجلها غيّرت وجهة استعمالها، وأفضت الاتصالات إلى إنزال المخالفة إلى خمسين مليون ليرة».

سمع أصحاب العوامة بأكثر من وعد لتشريع المطعم المائي، بين قرار لمجلس الوزراء، أو من رئاسة الجمهورية، «لكن لا شيء تحقق. مطعمنا يطفو قرب القلعة، وقد عرضت علينا مطاعم ومسابح استئجار العوامة ولم نوافق وقلنا إنها لصيدا فقط، وهي الوحيدة هنا، نكتفي اليوم بما تدره على عائلتي وعائلة شقيقي، شريكي».

كان رنّو يحلم بأن ينشئ طابقاً ثانياً للعوامة، لكنه يحمل على القانون الذي يمنع تنشيط السياحة، «بل يقيدها. لو كانت العوامة لزعيم سياسي أو كانت لي واسطة، لكنت اليوم أتحرك على طول الشاطئ اللبناني»، موضحاً أنه يدفع كل ستة أشهر الضرائب لرئاسة مرفأ صيدا، «لذا مسموح لي التوقف في حرم الميناء».

تدنّي السياحة

لا تقتصر مشكلة البحر في صيدا على قانون يمنع العوامة من الإبحار ليلاً، لكنه يتجاوزها إلى أمور كثيرة، منها تداعيات عدوان الصيف الماضي التي أثرت على حركة الميناء والمرفأ على حد سواء تراجعاً اقتصادياً وسياحياً. وأتت أزمة نهر البارد، وانعكاسها على مخيم عين الحلوة، لتجعل الصيف الحالي أقرب إلى سلفه وإن بتبدّل طفيف ومتفاوت.

يعود رنّو بالذاكرة إلى سنتين خلتا، حين كان الخليجيون والأجانب واللبنانيون من مختلف المناطق يقصدون صيدا للسياحة وتناول الطعام «أما اليوم فقلّة قليلة تأتي إلى صيدا، إذ إن الأحداث التي تمرّ بها البلاد تنعكس تماماً على المدينة. ومطعم العوامة يغطي اليوم مصاريف العمال لا غير، ونقول ماشي الحال على أمل أن يتحسن الوضع في المستقبل».

لكن لا يبدو أن التحسّن قريب، وخصوصاً أن «البلدية ووزارة الأشغال والنقل منعتا الاستفادة من الرصيف المقابل لقلعة صيدا مع أنه مسموح على الشطر الآخر، وعلى امتداد الكورنيش المقابل لحيّ رجال الأربعين، وهذا الأمر يساهم في تراجع حركة الرواد».

يعتبر كثر من جيران البحر والمرفأ والميناء أن صيدا لا تستفيد كثيراً من بحرها، حتى «الزيرة» التي تتناولها بين الحين والآخر حملات التنظيف والتأهيل «غير مؤهلة لحركة سياحية دائمة، فالسائح إذا توجه إليها لا يمكنه أن ينزل عليها لأنها تحتاج إلى تأهيل ولأن النفايات تنتشر بكثافة عليها، وممنوع على أحد من أبناء صيدا استثمارها ولو بالأجرة باعتبارها محمية، وأي محمية؟

مفروض أن تستغل الدولة اللبنانية أو بلدية صيدا موقعها البحري المميز، وأن تكون حركة النظافة يومية لا موسمية»، بحسب أبي خضر رنّو.

ويشير رنّو إلى عام 1965 عندما أقام محافظ الجنوب غالب الترك عيد الربيع وعيد الزهور عند شاطئ صيدا وأقام المهرجانات في «الزيرة». يومها «غنت صباح ونُظّم المسرح العائم. كان يوجد مسبحان للصيداويين قرب «القملي» وآخر في محلة «النوافير»، وقبله مسبح إسكندر، فضلاً عن شاطئ رملي طويل على عكس ما هو عليه اليوم، إذ يتقاسمه مكبّ للنفايات والأوتوستراد البحري وتكرير المجاري».

بعد عام 1982 بدأت معالم الشاطئ تتبدّل في صيدا نحو الأسوأ، «نحنّ إلى تلك الأيام الحلوة، يوم كانت مراكبنا تعبر تحت قناطر قلعة صيدا البحرية، اليوم تبدّل كل شيء. كأنه ممنوع علينا أن نستفيد من بحرنا على غرار غيرنا في مختلف المناطق الجنوبية واللبنانية»، واضعاً اللوم على زعامة المدينة، «رزق الله على أيام معروف سعد، كانت الحياة أجمل وأبسط، مفهوم الزعامة اختلف اليوم للأسف».

المسبح الشعبي

بدأت ظاهرة المسبح الشعبي في صيدا عام 1978، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي الأول، ولجوء النازحين من الجنوب إلى الشاطئ المحاذي لمصبّ الأوّلي، وبقائهم هناك مدة ثلاثة أشهر. ثم انتقل لاحقاً إلى المحلة المعروفة بالحمام العسكري، لتتناوب على التخييم قرب الشاطئ العديد من الفرق الكشفية التي تولّت أعمال النظافة والمراقبة. وتوقف بفعل الأحداث المتعاقبة، من صراع المخيمات إلى الصراعات بين القوى المختلفة في صيدا، أو بسبب التصعيد الأمني في لبنان أو الجنوب.

لا ينفي جمال أرقدان القائد في الكشاف المسلم «أن الصراع القائم بين وزارة النقل وبلدية مدينة صيدا انعكس إيجاباً على الشاطئ الذي يشهد نظافة لافتة هذه السنة بسبب الطاقة الزائدة التي تبذلها البلدية التي لم تنتظر موافقة الوزارة فزرعت خيمها على الشاطئ معلنة بدء الموسم الصيفي للمسبح الشعبي

ويعتبر أن «الظاهر في الخلاف هو القوانين، بيد أن الحقيقة تنم عن الصراع الدائر بين الموالاة والمعارضة. لكن ما يهمنا في الأمر أن المسبح يشكل متنفساً للناس الذين لا قدرة لهم على ارتياد المسابح الخاصة ولا على الوصول إلى جزيرة صيدا التي تكلف رب العائلة ما لا يقل عن عشرة آلاف ليرة لبنانية للانتقال فقط».

عانى المسبح الشعبي في أيامه الأولى فوضى بعض شباب مخيم عين الحلوة، «لكن مع بدء ارتياد العائلات له اختفت الظاهرة، وبات يمكن أي عائلة أن تستأجر طاولة وكراسي بسعر 5 آلاف ليرة، أما الخيم فهي مجانية والممنوعات واضحة: المشروبات الروحية، الكلاب والخيول، البطيخ واللوز وكل ما يمكنه أن يسبب مزيداً من الأوساخ». أما المايوه «فطبيعة المنطقة والمدينة تفرض عدم لبسه من قبل الذكور والإناث. ويحرس الكشافة المسبح مدى ساعات اليوم، وهناك ما بين ستة وثمانية منقذين يتولون مراقبة الشاطئ الذي تتعرض مياهه لتيارات بحرية تسبب سنوياً غرق عدد من السابحين، وكان آخرهم الجنديان في الجيش اللبناني اللذان قضيا غرقاً في شهر حزيران، والجدير ذكره أن المنقذين لا يغادرون قبل الثامنة وقبل خلو المياه من أي عائم».

«الزيرة»

يدير عبد القادر المولود «على البحر» محرك مركبه السياحي، فيبحر بنا نحو «الزيرة» في الخط السياحي المعتمد، ويصل إليها في دقائق معدودات. بعض الرواد افترشوا الأرض هناك، وجلّهم من العائلات أو الشبان، والبعض الآخر نزل يسبح في الماء القريب.

«لا عطلة في فصل الصيف لأحد عشر «لانشاً» (مركباً) تعمل في السياحة البحرية، وتعود لثلاث شركات: رنّو والترياقي وسنبل. في كل شركة خمسة موظفين، لا وقت لهم حتى للسباحة أحياناً»، يقول عبد القادر (52 عاماً) الذي هاجر للعمل ثم شدّه البحر في صيدا، فعاد. ويتحدث عن أهمية المشوار البحري «إذ تبدو صيدا جميلة جداً ومرتّبة للناظر إليها من البحر، والسياح يشبّهونها بمدينة عكا في فلسطين، ويقولون إن الذي بنى عكا هو الذي بنى صيدا، نظراً إلى التشابه بينهما».

يمكن المركب السياحي أن يوصل الراكب إلى «الزيرة» أو يأخذه في رحلة بحرية قبالة صيدا المدينة، بسعر يراوح بين ألفي ليرة و4 آلاف للراكب الواحد، والمركب الذي يبلغ تسعة أمتار يجب أن يمتطيه تسعة ركاب «لكن أصحاب المراكب لا يلتزمون العدد من أجل الاستفادة». أما للعودة من «الزيرة» فيمكن الراكب أن يستقل أيّ مركب عائد من دون أن يدفع أجرة. ولا تبعد هذه المراكب أكثر من ستة أميال بحرية عن الشاطئ.

--------------------------------

حكاية الشاطئ وحدوده

يطوّق البحر صيدا، من كل جهتها الغربية. بينها وبينه حكاية عمر وتاريخ، إذ حمل إليها قوت الصيادين والتبادل التجاري والمعرفي، رياح السياسة على اختلافها، المحبين والطامعين، القاصدين والغزاة، منذ الفينيقيين والكنعانيين والآشوريين والمصريين وغيرهم. ولأن أهلها كالبحر، في مدّه وجزره، في لينهم وصلابتهم، كان لهم وله نكهة ملح لا طعم كطعمه.

لم تبدل الأيام أصالة الصيداويين جيران البحر، وهم حملوا منه أكثر ما حمل إليهم. إن ثار قابلوه باستكانة، وإن هدأ خاضوا غماره بحثاً عن صيد وقوت، أو علم وثقافة. بيد أن رياح السياسة عينها، وتقلب المرجعيات المحلية والإدارية، لم تفِ الصيداويين حقهم في البحر، إذ راحت تسحب من تحت أقدامهم، بساط صورة النديم التي كانت، فباتت القيود هي التي ترعى إبحارهم فيه أو الارتزاق من خيراته، وتحول الشاطئ في أكثره إلى عبء لا إلى مصدر للحياة، وإذا أرادوا التعمد في مياهه، فهناك نقطة أو نقطتان مسموح لهم السباحة فيهما، أو عليهم الانتقال بحراً نحو «الزيرة» الباقية للسياحة والسباحة والاستجمام، ضمن قيود.

يبلغ طول شاطئ صيدا أكثر من سبعة كيلومترات تمتدّ بين جسر سينيق وجسر الأوّلي. يغطي الجزء الأول جنوباً الأنابيب التي تكرّر المجاري الصحية، ويحتل جبل النفايات وجواره القسم الجنوبي الثاني قبل المقاصد وحي رجال الأربعين. وفي الوسط قبالة القلعة البرية، جرت مصادرة الشاطئ وبناء كورنيش مرتفع. ثم يأتي ميناء الصيادين قبالة حي «الكنان»، فمرفأ البحارة السياحيين جيران القلعة البحرية واستراحة صيدا، فكورنيش آخر للأوتوستراد البحري الجديد، ثم الشاطئ الرملي الباقي الذي يصل طوله إلى نحو كيلومترين وينتهي عند مصب الأولي وقبله الملعب البلدي.

تعليقات: