حزب الله في سوريا




الأمر بسيط، أو المعادلة بسيطة، ولا تحتاج إلى أي نوع من التأويل. لو كان بمقدور داعمي المجموعات المسلحة السورية مدّهم بدعم إضافي لفعلوا ذلك أمس قبل اليوم. أصلاً، لم يُبق كل من يدعم هؤلاء أي شيء يقدرون على إيصاله لأولئك على امتداد سوريا إلا فعلوه. وكل شكوى من جمهورهم من أن الحرب العسكرية المباشرة لم يشنها تحالف القوى المعادية للنظام السوري، هي تعبير عن احتقان، والرد عليها ليس في رفضٍ هدفه مدّ عمر النظام، بل الجواب ببساطة: ثمة حدود للقوة!

في لبنان، بادر أنصار المعارضة السورية باكراً الى الاندفاع نحو كل أشكال الدعم السياسي والاعلامي والمادي للمعارضة. وخلال أشهر قليلة، كانت مناطق الحدود في الشمال وعند مشاريع القاع قد تحولت الى معابر لمن يريد الدخول إلى مناطق سورية تشهد مواجهات بين النظام ومعارضيه المسلحين، أو تخضع لنفوذ المجموعات المسلحة. وتحولت طرابلس على سبيل المثال الى مركز للتمويل وجمع المقاتلين وتجهيز بعضهم ونقل الاسلحة ونقل أجهزة الاتصالات، ثم أخلي أحد مستشفيات المدينة لاستقبال جرحى المسلحين. وكانت المساجد التي يسيطر عليها السلفيون مقراً مفتوحاً لكل أنواع التعبئة. وهي في الغالب كانت تتم على خلفية مذهبية وعقائدية.

في مرحلة تالية، لم يكتف اللبنانيون المؤيدون للمعارضة السورية بالدعم العلني، وأقيمت مراكز عمل في تركيا وفي أوروبا وفي أمكنة كثيرة من العالم، وكان العنوان هو «إغاثة الشعب السوري»، لكن الافعال الحقيقية كانت ترتبط بمد المعارضين بأشكال مختلفة من الدعم، وبالخبرات حيث أمكن.

هذا الأمر فعلته دول مثل تركيا والسعودية وقطر والامارات والاردن، كما أقدمت، وباكراً، مجموعات وقوى سلفية وأخرى فوضوية على إرسال عشرات المقاتلين الذين اختلطوا بحشد من ضباط الاستخبارات وعناصر من قوات خاصة فرنسية وبريطانية وأميركية، كانت تعمل على خطط وفق منطق يقول بإمكان إسقاط النظام خلال وقت قصير.

والى جانب الكذب والنفي، كان يخرج من بين هؤلاء من يقول إن هذا الدعم هدفه «مساعدة الشعب الثائر في وجه النظام الجائر». وقرر هؤلاء، من جانب واحد، أن غالبية ساحقة، ولا مجال لأي نقاش، من الشعب السوري هي منخرطة في المعارك القائمة. وقرر هؤلاء تجاهل الحقائق القوية على الأرض. وعندما كانت تتم الإشارة مبكراً الى تعاظم الدور التنفيذي للمجموعات التكفيرية، كان تعليق هؤلاء أنها أخبار كاذبة، وأنها من فبركة النظام ومؤيديه وهدفها تشويه صورة الثورة السورية!

وفي لبنان أيضاً، كان السعي المحموم من جانب قوى بارزة في 14 آذار، وأخرى يجري تشغيلها من قبل دول خليجية وغربية، إلى جعل موقف لبنان جزءاً من موقف النظام الرسمي العربي العامل على تدمير سوريا. وكان هؤلاء يقيمون الدنيا لمجرد إطلاق وزير الخارجية عدنان منصور موقفاً مغايراً لموقفهم.

فجأة، قرروا أنه مثلما لا يحق لأي سوري ادّعاء أنه لا يقبل بالمسلحين ممثلين له، فلا يحق لأي لبناني أن يرفض دعم تلك المجموعات المسلحة، وبالتالي، فإن مجرد قيام صحافي بكتابة مقال، أو سياسي بإعلان موقف، أو طرف بإظهار دعمه للنظام في سوريا، فإن ذلك يكفي كي تثور ثائرتهم.

في هذا السياق، كيف يجري التعامل مع مشاركة حزب الله في معارك منطقة القصير؟

من يرفض موقف حزب الله السياسي ومن يرفض مشاركته في القتال الى جانب النظام في سوريا، هو نفسه من يرفض أي دور لحزب الله في داخل لبنان نفسه. هؤلاء يحبون أن يتحول الحزب الى جمعية خيرية، وهم مستعدون لتنظيم أكبر احتفالات تكريم له إن رمى سلاحه. وهؤلاء لم يكونوا يوماً الى جانب حزب الله في عز مقاومته للاحتلال في الجنوب، وكانوا يدعمون كل توجه مغاير، من إقرار اتفاقية سلام مع العدو في أيار 1983، الى اتخاذ موقف حيادي في ذروة العدوان على لبنان، من عام 1993 الى عام 1996 الى التورط في دعوة اسرائيل لشن حرب عام 2006، وهم أنفسهم من يقبضون مئات الملايين من الدولارات من الولايات المتحدة الاميركية، ويعمل قسم كبير من نشطائهم كمخبرين لدى أجهزة الاستخبارات الغربية من أجل إيذاء المقاومة.

الآن، يقف هؤلاء ضد انحياز حزب الله الى جانب قسم كبير من الشعب السوري يصطف الى جانب الرئيس بشار الاسد، ويرفض المعارضة المسلحة وإرهابها المنتشر والمتوسع يوماً بعد يوم. وهؤلاء، مستعدون لو قدّر لهم أن يقاتلوا حزب الله كيفما اتفق، لكن حقيقة الامر أنهم بلا حول وبلا قوة، وجلّ ما يتمناه هؤلاء أن تنجح مجموعات تكفيرية في نقل الإجرام العام الى لبنان، ومن ثم تحميل حزب الله المسؤولية.

ببساطة، إذا كان هناك من لا يريد قول الأمر صراحة، فإن مشاركة حزب الله في القتال في سوريا لم تكن وليست هي في أي وقت أمراً مرغوباً، لا من قبل قيادة الحزب ولا من قبل كوادره ولا من قبل مقاتليه ولا من قبل جمهوره. لكن الواقع يقول إن حزب الله يقوم اليوم بعمل سوف يشكره عليه كثيرون يوماً لن يكون ببعيد.

ولكي نرتاح جميعاً من نقاش عقيم: ما يقوم به حزب الله صار جزءاً من منظومة المقاومة ضد محور القتل الممتد من جماعات وقوى الى دول وعواصم... وفي قلبه تقف إسرائيل!

---------- ---------- ----------

حزب الله وشهداء الواجب الجهادي



لم يسبق أن ترافق نعي شهيد لحزب الله بحزن مماثل للذي نعيشه اليوم. الالتفاف الشعبي الذي يحيط المشاركة العسكرية لحزب الله في سوريا لا يخفي مشاعر الحزن التي تتملّك الكثيرين لأن المقاومين يسقطون في معركة لم يخططوا لها يوماً

مهى زراقط

لم ينم كثيرون من جمهور المقاومة الإسلامية منذ يومين. إذا غمضت عين أحدهم، رنّ هاتفه منبئاً بوصول رسالة، أو حاملاً صوت متصّل يبلغه آخر الأخبار عن معركة القصير. معركة يتابعون أخبارها مباشرة، عبر هواتفهم وصفحاتهم الفايسبوكية. وما كان يجري تداوله سراً خلال الشهر الفائت، انتشر أمس. تناقل الكثيرون صوراً مباشرة من الميدان، تبادلوا عبارات الانتصار، وزفّوا الشهداء. طلبوا الدعاء للمقاومين، والتبرّع بالدماء للجرحى.

أمام مستشفى الرسول الأعظم عند طريق المطار، كان الأهالي والأصدقاء بالعشرات ينتظرون خبراً عن أولادهم. هنا أم تتلقى خبر استشهاد ابنها، فتتولى بنفسها تهدئة روع الأب. وهناك شاب عرف باستشهاد صديقه، فأقسم على إكمال الطريق. المشهد لا يختلف في مراسم التشييع، التي يزفّ فيها حزب الله شهداءه بفخر واعتزاز.

مرّ وقت طويل لم يعش خلاله جمهور المقاومة هذه الحالة الوجدانية. ما حصل في اليومين الفائتين، أعاد الكثيرين ممن كبروا مع المقاومة الإسلامية، سنوات إلى الوراء. استعادوا الحروب التي خيضت عامي 1993 و1996، والمواجهات البطولية والعمليات النوعية التراكمية التي أوصلت إلى التحرير في العام 2000، والانتصار في العام 2006. وفي كلّ هذه المراحل، كانت بطولات المقاومين على الجبهات حكايات تروى، وسير أبطالها تؤرّخ.

لكن رغم كلّ ما قيل أعلاه، يبقى الوضع اليوم مختلفاً. قد لا يكون الوقت مناسباً لسرد تاريخ عدد من المقاومين الذين سقطوا في الأيام الأخيرة على أرض القصير السورية تلبية للواجب الجهادي كما يرد في بيانات نعيهم. يكفي القول مؤقتاً إنهم قادة، خاضوا معارك كثيرة في وجه العدو الاسرائيلي. حلموا بتحرير القدس، وجعلوا فلسطين قبلتهم. هكذا كبروا، وهكذا علّموا أولادهم. لكنهم عندما استشهدوا، كان ذلك على أرض عربية، في مواجهة شبان عرب ومسلمين مثلهم.

يصعب التصديق أن نهاية مماثلة كان يمكن أن تسطّر لهؤلاء الأبطال. عندما نطلب من أحد الشباب أن يستعيد تاريخ صديقه المقاوم، وكان قد تلقى خبر استشهاده للتوّ، يختنق صوته. الشريط الذي يستعرضه لحياة الشهيد على الجبهة، لا ينبئ بأن نهاية عشرين عاماً من المقاومة سيكون مكانها القصير. لكن الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة، لا يزعزع قناعة الشاب بأن المعركة التي يخوضها حزب الله اليوم «هي دفاع عن النفس وإن اتخذت صبغة هجومية». جملة تتكرّر على ألسنة كلّ من سألتهم «الأخبار»، من مناصري المقاومة وأهالي الشهداء، عن رأيهم في ما يحصل. لا أصوات اعتراضية، ولا نقمة ولا شكوى. بل دعاء ومشاركة في العزاء وإحياء مراسم التشييع من جهة، وسعادة بالنصر الذي يتحقق من خلال «تحرير القصير من الجماعات التكفيرية المسلّحة»، يقولون بثقة. بل إن البعض يستغرب السؤال عن رأيه في معركة «لا لبس حول مشروعيتها لمن يملك رؤية واضحة وتحليلاً استرتيجياً» تقول سناء، مناصرة لحزب الله.

المناصرون كانوا كثراً، وقد غلبت الحماسة بعضهم، فبادر إلى إنتاج رسالة للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله يتوجه فيها إلى المقاومين، وأخرى نسبت إلى المقاومين رداً عليه. في حين تبرّع آخرون بنشر أسماء قيل إنها لشهداء سقطوا في القصير، وتبيّن لاحقاً عدم دقتها.

هذا الانخراط في المعركة، افتراضياً، يؤكد حالة الالتفاف حول «حزب الله»، إذ لا يشعر كثيرون بالحاجة إلى تبرير انخراطه في الأزمة السورية. هؤلاء هم أولاً، أهالي البقاع، من الهرمل والنبي شيت وشعث، الذين يعرفون ماذا حصل في السنتين الفائتين في قرى القصير. يعدّدون الاعتداءات التي تعرّض لها الأهالي. يروي قريب الشهيد حسن فيصل شكر إن الأخير تأثر كثيراً بما تعرّض له صديقه في إحدى قرى ريف القصير. «دخلت الجماعات المسلّحة إلى بيته، وجرى الاعتداء على أفراد عائلته قبل قتلهم»، هذا عدا عن عشرات القصص المماثلة «التي لا يعرف الإعلام عنها شيئاً، نحن رأينا القتلى وداوينا الجرحى. من اقتحم بيوت هؤلاء سيقتحم بيوتنا. الآن عندما قرّر حزب الله أن يخلّصنا تذكروا وجودنا؟». يستطرد الرجل: «كنا نتمنى أن يكون سلاحنا موجهاً ضد العدو الاسرائيلي، فهذا واجبنا، لكنهم فرضوا هذه المعركة علينا».

أما في الجنوب فهناك أسف «لأن حزب الله دفع إلى مقاتلة أناس كان يفترض ان يكونوا معنا في مواجهة اسرائيل»، يقول شاب تلقي خبر استشهاد ابن عمه عبر الفايسبوك. يحكي بأسف، هو الذي يعرف قدرات قريبه المعروف بخبرته العسكرية الواسعة والمهمات الخاصة التي كان ينفذّها. هناك، في القرى التي حرّرها حزب الله من الاحتلال الاسرائيلي، يتابع الأهالي التطورات أولاً بأوّل. كثيرون منهم لاحظوا غياب شباب من المقاومة عن بلداتهم، فقدّروا أنهم سيكونون في سوريا، عند مقام السيدة زينب أو في القصير. يروي أحدهم ما شاهده بأمّ عينه عند المقام، قبل أن يقرّر حزب الله الدفاع عنه: «في مرة من المرات، علّقوا جثة طفل لا يتجاوز عمره العام عند الباب ليخيفوا الزوّار». لذلك، تعدّ مشاركة حزب الله «حرباً استباقية. في حال سيطرت جماعات جبهة النصرة والتكفيريين على سوريا، سيأتون إلى لبنان. هذا ما أعلنوه أكثر من مرة». يعزّز كلامهم ما يشاهدونه من ممارسات لجبهة النصرة: «كلنا تابعنا المجازر التي ترتكبها على التلفزيون مباشرة. هؤلاء قوم لا يتردّون في أكل لحوم البشر. هذا عدا عن خطابهم الديني المتطرّف الذي يكفّرنا ويحلّل دمنا» يقول أحدهم. في حين يسوق آخر سبباً آخر لعدم وجود حالة اعتراض على قرار حزب الله: «هناك الثقة بالمقاومة التي لم تخذلنا يوماً واحداً منذ انطلاقتها ... نحن نعرف عدداً من المقاومين الذين استشهدوا هناك ولا نشك لحظة أنهم قد يكونون مضلّلين أو أنهم مستعدين لإحراق تاريخهم المقاوم لاسرائيل في معركة لا يعتبرونها محقة».

كيف لا تكون المعركة محقة إذا كان هدفها حماية ظهر المقاومة؟ «هذه حرب استراتيجية»، يجزم ثالث. يذهب الأخير بعيداً في التحليل: «فلنفترض أن جبهة النصرة انتصرت في سوريا، ماذا سيفعل حلفاؤها في لبنان؟ ألن تشكل القصير طريقاً لمدّهم بالسلاح ومحاربتنا وذبحنا؟ ما يفعله حزب الله حماية للبنان ونأسف لأن كثيرين لا يقدّرون التضحية التي يدفعها المقاومون في سبيل ردّ الخطر القادم عن لبنان».

محدّثنا الأخير مطلّع على مجريات ما يحصل في القصير من خلال أصدقائه. استمع إلى رواياتهم، وبات على ثقة بأن عدد الشهداء الذي تجاوز العشرين يعدّ منطقياً لمعركة كبيرة بهذا الحجم. «من يملك الخلفية العسكرية سيعرف أن عدد الشهداء قد يرتفع أكثر وأعتقد أن قيادة المقاومة تعي هذا الأمر».

حتى المقرّبون من المقاومة باتوا يعون هذا الأمر، ويتقبّلونه. وكذلك تفعل أمهات الشهداء، كما في الفيلم الذي يجري تناقله لوالدة الشهيد عاهد سعادة التي تنتحب ولدها قائلة: «أنا بدي روح مطرحك، إذا ما ضلّ شباب أنا رايحة ... انشالله تكون متت عطشان متل الحسين وعلي الأكبر».

مشهد غير غريب على المقاومة الإسلامية وأهالي شهدائها.

لا تشكيك للحظة واحدة في عدالة القضية التي سقط من أجلها هؤلاء، مثلهم مثل رفاقهم الذين سقطوا في مواجهة اسرئيل وعملائها.

بل أكثر من ذلك، يقول أحدهم آسفاً: «شهداؤنا الذين سقطوا ضد اسرائيل يراهم الكثيرون ابطالاً وحاملي قضية، أما الذين يسقطون اليوم فلن ينصفهم إلا جمهورهم. إنهم الشهداء المظلومون». عبارة تردّ عليها مناصرة للمقاومة بالقول: «متى أُنصف شهداء حزب الله؟ فلنتذكّر كيف عوملوا في تموز 2006 لنتأكد أن المشككين هم أنفسهم».

--------- -----------

حزب الله في سوريا... الظروف والدوافع



صادق النابلسي

ثمة تفسيرات وتأويلات مختلفة لقضية انخراط حزب الله في المعارك الدائرة في سوريا، أصبحت على ألسنة العامة والخاصة وفي وسائل الإعلام وأوساط المحللين والمفكرين والسياسيين ورجال دين من أعراق وجغرافيات قريبة وبعيدة، وكلٌ له حكمه في هذه القضية التي تعددت زوايا النظر إليها، وخصوصاً أننا أمام أزمة تضم أعداداً كبيرة ومتزايدة من الفاعلين الذين لا يمكن التنبؤ بأدوارهم وتفاعلاتهم وأنشطتهم المركبة.

في هذه المقالة محاولة لفهم أبعاد هذا الانخراط. أولاً، لأجل تطوير النقاش بما يخدم المعرفة والوعي بعيداً عن الاصطفاف التبسيطي بين مؤيد ومعارض. وثانياً، من أجل تحسين قدرة المتابعين لهذه القضية على فهم طبيعة العلاقات الارتباطية والتفاعلات التشابكية بين البيئتين اللبنانية والسورية. وثالثاً، من أجل فهم جدوى الانخراط في منظومة التوازنات الاستراتيجية، بعدما دخلت المنطقة بأسرها في صدام مفتوح غير قابل للضبط ولا محسوب النتائج.

فمنذ أن تكشفت الملامح الأولى لما يعرف بالثورات العربية وجد حزب الله أنّ هذه الثورات تعيش تناقضات فعلية في الرؤية والحركة والهدف، وتعاني اضطراباً خطيراً في تنظيم الأولويات وفقاً للمصالح الداخلية الوطنية والتوجهات العامة للأمة. بدت هذه الثورات بنفسها غائمة الهوية غامضة التكوين. لا عقيدة سياسية واضحة تمكّنها من التحرر التام والانعتاق الكلي عن القوى الغربية، وهذا ما فاقم الخلل على المستوى الاستراتيجي. وفي جانب آخر، تكاثرت النزاعات وارتفعت وتيرة الخلافات والصدامات وتضاعفت النوازع الطائفية والعرقية والقبلية حتى انقلبت الأولويات رأساً على عقب.

وأمام المشاهد والمعطيات المتدفقة من بلدان «الحراك العربي»، وجد حزب الله خللاً واضحاً في القيم وفي الوقائع والأولويات.

أما في القيم، فقد شهد العالم العربي هبوطاً حاداً في إنتاج المفاهيم والعلاقات الإيجابية البنّاءة، وصعدت في المقابل مفاهيم وعلاقات استقطابية استعدائية عنفية وذات طبيعة استفزازية تصادمية، جعلت النظام الأمني الإنساني في المنطقة العربية في خطر شديد.

وأما في الوقائع، فقد أدت التفاعلات الداخلية إلى تحولات خطيرة في هوية المجتمع العربي وطرائق تفكيره وسلوكه، وبرزت على شكل تناقضات ثقافية وعقائدية، جعلت الجماعات والقبائل والطوائف تعبّر عن نفسها عن طريق التمييز الحاد والتعصب الأعمى، كما كرست التفاعلات ذاتها نزعات أحادية وانفصالية بمنهجية سايكس – بيكو، ولكن هذه المرة تقوم على الدويلات الطائفية والمذهبية.

أما في الأولويات، فلم تأتِ التحولات العربية بمردود إيجابي واضح على القضية الفلسطينية، ولم تكن القضية نفسها في أولويات النظم الجديدة، التي صدرت عن قادتها مواقف ذرائعية براغماتية مريبة، معاكسة تماماً لطبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي، مسقطةً بديهية أنّ الصراع هو صراع ديني وسياسي واستراتيجي وحضاري عميق الجذور. والأكثر غرابة أنّ التيارات الإسلامية التي صعدت إلى سلم الحكم، والتي يفترض أنها تمتلك خطة استراتيجية وأيديولوجية للتعامل مع تطورات الصراع، بدت حذرة وحبيسة جملة من الالتزامات الداخلية والخارجية، وأمام معضلة التفاعل المبدئي والمرن مع هموم الشعب الفلسطيني. وأخطر من ذلك، أنها مدّت تحالفها الطارئ مع قوى الهيمنة الغربية وما أُقر من اتفاقيات مع العدو الإسرائيلي بمفاهيم ومسوغات دينية، وهذا ما عرّض الوضع الفلسطيني إلى المزيد من الانكشاف والضعف أمام الضغوط الإسرائيلية.

نتيجة لذلك رأى حزب الله أنّ المنطقة تتغير بطريقة جذرية، وأن التفاعلات المجتمعية والسياسية والثقافية لم تقد العرب نحو مساحات آمنة، بل نحو أزمات حادة وصدامات قاسية. وأنّ هناك حاجة ماسة إلى إعادة النقاش حول ما جرى التسالم عليه، بداية من أنّ ما يسمى «الثورات العربية» هي حقاً ثورات لا تحولات استراتيجية تتيح لأميركا الهيمنة الكاملة ولإسرائيل التفوق المطلق، وأنّ جملة من التساؤلات المصيرية تُلقي بثقلها على طبيعة تلك التحولات والإفرازات، تحتاج إلى إجابات مقنعة وإلى إدراك مرن لتفاعلاتها الخطيرة. صحيح أنّ الاستقرار لم يكن واحدة من سمات المنطقة العربية، وكذلك الوحدة بين الدول العربية، إلا أن مستوى التهديد الحالي حتماً هو الأكبر حجماً والأخطر نوعاً منذ أن رُسمت خريطة سايكس - بيكو عام 1916. ورغم ذلك هناك من لا يريد أن يرى أنّ دولاً قد احتُلت أو انهارت أو قُسّمت، وأن التدخلات الخارجية ليست في إطار مهمات إنسانية أو في إطار رغبة غربية لإرساء نظم ديمقراطية حقيقية بدلاً عن النظم الشمولية، أو في إطار حرص مستجد على إقامة علاقات سياسية واقتصادية طيبة مع العالم العربي، وإنما في سياق مشروعات استراتيجية لها علاقة بالأهداف والمصالح الأجنبية والأميركية وبتوازنات القوى والفاعلين في النظام العالمي. في الواقع واجه حزب الله تحدياً في جمع العرب حول رؤيته ومقاربته للاتجاهات والحقائق والتحولات التي بدأت منذ أكثر من عامين تقريباً، والتي تتطلب قدرة رفيعة على الفهم، وخصوصاً مع انتشار عدوى المذهبية والطائفية من جهة، وافتقار «الثورات» إلى مسار واحد، حيث أصبحت كل واحدة منها تقدم نموذجاً خاصاً من جهة ثانية. ومع تزايد منسوب الصراعات النظامية وغير النظامية، الذي أدى إلى تعدد مشكلات الأمن التقليدي وغير التقليدي، وإلى ارتباط التفاعلات الجيوستراتيجية بمزيد من الكوارث ثالثاً، ومع هبوب رياح خارجية عاتية تريد أن تُلقي أحمالها على الأرض العربية الرخوة، وخصوصاً مع نشر خرائط جديدة تجتر ما خططه الاستعمار القديم للمشرق العربي رابعاً، ومع تصاعد اتجاهات معادية لفكر ونهج المقاومة من جماعات دينية متشددة خامساً. وكأن حزب الله أمام هذه الوقائع والمعطيات، التي ستزيد صعوبة تفهمه مع انخراطه المباشر إلى جانب النظام السوري، كان يبحث عمن يساعده على تصحيح الاختلالات والمعايير القيمية والسياسية، وعن شركاء حقيقيين لبناء رؤية استراتيجية واضحة وموحدة لمواجهة هذه المخاطر، تعتمد على تقويم واقعي لطبيعة التفاعلات وتستند إلى سلّم أولويات منطقي.

ومن خلال استعراض المشهد في العالم العربي تتضح خلفية دخول حزب الله في الأزمة السورية، إذ لا يمكن بأي حال انتزاع ما يجري من أوضاع متوترة ومن تصدعات عميقة في البنية الدينية والثقافية والأخلاقية، ومن عوامل خارجية ساهمت في تفجير التناقضات داخل المجتمعات العربية، من سياق ما يجري اليوم من أحداث وتطورات في سوريا. فقد سبقت دخول حزب الله في الأزمة السورية تحديات أمنية وسياسية بالغة الخطورة كانت بمثابة مقدمات قادت إلى هذا الخيار الصعب.

أول هذه التحولات: إخراج سوريا من محور المقاومة. فقد كان واضحاً منذ بداية الدراما (الثورية) في سوريا أنّ أحد أهم أهداف المنتجين لها هو تفكيك منظومة المقاومة التي تمثل سوريا عمدة أساسية فيها. وما قاله السيد حسن نصر الله في خطابه ما قبل الأخير كان جلياً في إشارته إلى هذه الحقيقة، بأنّ مسلسل تدمير سوريا دولة وشعباً ومجتمعاً وجيشاً هدف إلى شطب سوريا من المعادلة الإقليمية، ومن دورها التوجيهي ومن ثقلها الاستراتيجي على مستوى المنطقة، وبالتالي صياغة المشهد الإقليمي بلا سوريا. وهذا يعني بحسب المخطط الموضوع لها أنّ فكّ وتركيب الجغرافيا السورية على أسس جديدة من شأنه تحويل سوريا من دولة ممانعة مركزية ومحورية إلى دويلات منشطرة منكفئة لا تقوم إلا بأداء بعض الأدوار الوظيفية المطلوبة منها، وهذا يعني على نحو مباشر أيضاً أن إخفاء سوريا كدولة نتيجته اختفاؤها من ساحة التأثير في الملف الفلسطيني واللبناني والعراقي والأردني، وإضعاف ميزاتها العسكرية إلى مستويات دنيا، وهذا الأمر الأخير لا يندرج تحت مطالب الإخلال بتوازن القوى فحسب، ولكنه أيضاً ينصرف إلى الإخلال بتوازن المكانة والردع.

وبناءً عليه، كان السيد نصرالله في منتهى الوضوح والصراحة والجديّة أيضاً عندما قال: «إن لسوريا في المنطقة والعالم أصدقاء حقيقيين لن يسمحوا لها بأن تسقط في يد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية».

وهذا الموقف المتقدم يتأسس أيضاً على ما قاله منذ أيام الإمام الخامنئي في المؤتمر العالمي لعلماء الدين والصحوة الإسلامية في طهران، من أن النزاع في سوريا هو «بين أنصار المقاومة ضد الصهيونية ومعارضي هذه المقاومة».

وبهذا المعنى، فإنّ هناك صراعاً أساسياً ومباشراً بين قوى المقاومة في المنطقة وقوى الاستكبار والصهيونية يستحيل على حزب الله أن لا يكون جزءاً منه، أو بعيداً عن التفاعل مع أحداثه وتداعياته.

ثانيها: إنّ سقوط سوريا يعني تصفية آخر معاقل الحضانة العربية للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، إذ كما هو معروف لم تبقَ دولة عربية واحدة سوى سوريا ثابتة على مواقفها من الحق العربي والحقوق الفلسطينية، وداعمة ومساندة وراعية لحركات وفصائل المقاومة الفلسطينية لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وهذا يعني أنّ سقوط سوريا سيُفقد الفلسطينيين داعماً أساسياً لهم كان يؤمن الحماية السياسية، ويوفر مظلة أمنية واستراتيجية ومساعدات لوجستية في مختلف المجالات، وما انتصار غزّة عاميْ 2008 و2012 إلا في سياق هذه الحقيقة.

وما عزز وعاظم من مخاوف حزب الله أن قوى سورية معارضة صرحت باستعدادها لإقامة علاقات دبلوماسية مع العدو الإسرائيلي، وبالتالي فإنّ وصول هذه القوى إلى سدّة الحكم في سوريا سيؤدي إلى انهيار كامل للمكتسبات الكبيرة التي حققها محور المقاومة على مدى سنوات الصراع.

وحزب الله الذي لا يمكن أن يتساهل مع الموضوع الفلسطيني لاعتبارات دينية وإنسانية وحقوقية ووطنية وقومية، لن يكون حيادياً إزاء ما يجري من مخططات لتصفية القضية الفلسطينية من البوابة السورية. وهذا ما كان قد أشار إليه السيد نصرالله بقوله: «ما يجري الآن في سوريا يحمل الكثير من الأخطار والتحديات والأذى لسوريا والقضية الفلسطينية»، منبهاً إلى أنّ القضية الفلسطينية «تواجه خطر تصفية جدياً ينعكس على لبنان والمنطقة».

ثالثها: إنّ مشروع تقسيم سوريا إلى دويلات عرقية وطائفية إذا نجح فسيفتك بما تبقى من الوحدة الجغرافية للمنطقة، وسيعزز المنطق الإسرائيلي من تحويل فلسطين إلى دولة يهودية نقية. إنّ وقوف حزب الله ضد تقسيم سوريا وفي وجه هذا المشروع التجزيئي التفتيتي سيمنع من تدحرج المنطقة برمتها إلى هذا المآل المشؤوم، الذي كان قد حذّر منه الإمام الصدر مبكراً في ستينيات القرن الماضي، عندما رأى أنّ هناك مخططاً لملء المنطقة بـ«إسرائيليات» طائفية سنية وشيعية ودرزية وكردية ومسيحية. وبالمعنى الاستراتيجي، فإنّ ذلك يعني تصفية كل الدول المركزية واستبدالها بدويلات هامشية ضعيفة. وهذا أيضاً ما لفت إليه السيد نصرالله عندما قال «إنّ الحرب على سوريا لم يعد الهدف منها إخراج سوريا من محور المقاومة، أو إسقاط النظام الحالي، وإنما كي لا تقوم دولة قوية». وعلى أساس ذلك تصبح إسرائيل هي الدولة المحورية المركزية الأكثر قوة واستقراراً في المنطقة، في مقابل دول متقاتلة هشة تتوزع أنحاء العالم العربي.

رابعها: إنّ وصول الجماعات التكفيرية إلى الحكم في سوريا سيدفع المنطقة إلى حروب طائفية ومذهبية كارثية، وسيعزز من منطق الصدام والعداء بين الجماعات المختلفة دينياً وثقافياً إلى أمد طويل، كما أن إشارة السيد نصر الله إلى مسألة مقام السيدة زينب لم تأتِ عرضاً، وإنما للحساسية البالغة له في الوجدان الشيعي، ولأن التعرض لهذا المقام الذي تضعه الجماعات التكفيرية في قائمة أهدافها له تداعيات خطيرة، وسيؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة.

ولذلك يرى السيد نصر الله أنّ الدفاع عنه هو الذي يمنع الفتنة المذهبية لا العكس. معلناً على نحو صريح أن «هناك من يدافع عن هذه البقعة ويُستشهد في الدفاع عنها». ومقللاً في الوقت ذاته من أهمية المواقف والتصريحات الصادرة عن المعارضة في الخارج، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لأنّ من يسيطر على الأرض والميدان هم الجماعات التكفيرية المسلحة. ولذلك فإن حزب الله لن يسمح بأن تدوس أقدام هذه الجماعات أرض المقام، وخصوصاً أنّ ما حصل بحق مقام الإمامين العسكريين في سامراء، وأخيراً من تفجير لمقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر في الرقة، ونبش الصحابي حجر بن عدي في عدرا ما زال ماثلاً في الذهن. فحتى لا تتجه الأمور إلى مسارات تحكمها عوامل الضغط المذهبي فإنّ حزب الله موجود لحماية هذه البقعة الشريفة.

خامسها: إنّ لبنان ليس جزيرة معزولة عن الارتدادات الأمنية والسياسية من دول الجوار. ذلك أنّ موقع لبنان لا يسمح له بأن يحتجب عن تأثيرات الداخل السوري، فهناك علاقة ارتباطية ذات طابع تشابكي بين لبنان وسوريا، ليس لأحد أن يحدّ من مجريات تفاعلها. فالاهتزازات في سوريا ستقود حتماً إلى اهتزازات في لبنان والعكس صحيح. وضغط الجوار الجغرافي لا يمكن استبعاده بفذلكة «النأي بالنفس» التي ابتدعتها حكومة الرئيس ميقاتي.

والكل يعلم اليوم أنّ الوضع اللبناني مرتبط بملفات الصراع في المنطقة الذي يتجاذبه ويتنازعه محوران، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والثاني بقيادة روسيا الاتحادية. ولأنّ حزب الله بات أحد أبرز اللاعبين والفاعلين على الساحة الإقليمية، بسب مقاومته للعدو الإسرائيلي، ومجابهته للمشروع الأميركي، فإنّ دوره أساسي في أي تسوية محتملة، أو في أي حرب مفتوحة مقبلة، وليس وجوده اليوم في سوريا إلا في إطار الاشتباك الإقليمي الدولي داخل مساحة هذه المنطقة.

سادسها: إنّ سوريا وحزب الله يعملان معاً منذ سنوات في بناء منظومة أمنية سياسية عسكرية لمواجهة المشروع الإسرائيلي ومخططاته، والدفاع عن المكتسبات والانجازات التي حققاها معاً، ولا سيما انتصار عام 2006. وبناءً عليه، فقد بنى الحزب وسوريا شراكة استراتيجية تجعلهما معاً في مواقع المواجهة والاستعداد الدائم لخوض غمار أي حرب مقبلة مع إسرائيل. فعندما دخلت سوريا إلى جانب حزب الله عام 2006 كان هذا أمراً منطقياً وطبيعياً أن تقف مع حليفها. واليوم يجد حزب الله نفسه معنياً بمقتضى هذه الشراكة أن يقف ويدافع بقوة عن سوريا لنفس المقتضيات والدوافع السياسية والأخلاقية والاستراتيجية والوطنية والقومية التي انبنت عليها انتصارات عامي 2000 و2006.

وعليه فإنه من المفيد أن نفهم النظام الأوسع الذي تقع في إطاره الأزمة السورية، وكيفية تطورها منذ عامين حتى الآن. لقد تعامل معها البعض بوصفها أزمة مغلقة، فيما الكل يعلم أنّ حجم التدخلات الخارجية، ومستوى الدعم العسكري والمالي والإعلامي الذي قدّم للجماعات المسلحة منذ بداية الأزمة، وخصوصاً من الجهة اللبنانية لا سابق لهما. لقد تدخل الجميع قبل أن يتخذ حزب الله قراراً بالدخول على خط الأزمة.

في الحقيقة، إنّ الأزمة السورية لا يمكن تقويمها إلا بالنظر إلى العلاقات الديناميّة بين نظم ومشروعات ومصالح وفاعلين متعددين إقليميين ودوليين خلقت بالنسبة إلى حزب الله أجندة من الأولويات والتحديات المباشرة، وهذا ما يستدعينا حين مقاربة هذه القضية أن نكوّن أوسع صورة ممكنة عن المجال السياسي والجغرافي والاستراتيجي والميداني الذي يتحرك فيه المتنازعون، والذي فرض على حزب الله سلوكاً استراتيجياً على هذا النحو من التوسع والجرأة!

* كاتب وأستاذ جامعي

زفّ حزب الله شهداءه بفخر على جاري عادته (أ ف ب)
زفّ حزب الله شهداءه بفخر على جاري عادته (أ ف ب)


تعليقات: