الـشــــبـيــه

قبل العام 2005 لم يكن شقيفي قد تعرّف إلى ريفي وكان يسير في شوارع العاصمة مثل أي مواطن (محمد شرارة)
قبل العام 2005 لم يكن شقيفي قد تعرّف إلى ريفي وكان يسير في شوارع العاصمة مثل أي مواطن (محمد شرارة)


ذات يوم، كان كمال شقيفي متوجهاً من الطريق الجديدة، حيث يقطن، إلى الضاحية، بغية شراء قطع سيارات للمحل الذي يملكه في بيروت. وما إن وصل إلى الغبيري، ثم ترجل من سيارته، حتى أشار أحد التجّار إليه بإصبعه وصاح: «أشرف ريفي، أشرف ريفي!».

لكن شقيفي اعتاد دعابة أصدقائه التجار، وردّ عليهم آنذاك بدعابة: «أنا من قال عنّي السيّد حسن: يا أشرف الناس». يضحك شقيفي عندما يتذكر يومياته المقتضبة في الضاحية، مثلما يغرق في الضحك عند تدفق القصص من ذاكرته، خصوصاً انها إطلالته الإعلامية الأولى.

لم يكن شبه الوجه بين شقيفي وريفي، قبل العام 2005، قد اتخذ مكاناً وشكّل يوميات مليئة بالمفاجآت المضحكة عند كمال شقيفي، ابن الخمسين عاماً، المولود في بيروت. قبل ذلك، كان الرجل يسير في شوارع العاصمة ومحالها مثله مثل أي مواطن عادي.

غير أن تعيين ريفي مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، قبل سبع سنوات، حرّك الروتين الذي يعيشه شقيفي، وكان التعارف الأول بين الشبيهين من خلال التلفاز، عندما أخبره جاره: «المدير العام الجديد لقوى الأمن الداخلي يشبهك كثيراً. اسمه أشرف ريفي. شاهد أخبار المساء. ستصبح مشهوراً يا جار».

لم يتأثر شقيفي، حينها، بمعلومة الجار، الذي يعمل سائقاً عند أحد القضاة، إذ ظنّ الرجل أنَّ الشبه عاديٌ. لكن ما إن تجمَّع أفراد العائلة ليلاً أمام التلفاز، وظهر ريفي، حتى أصيب الجميع بدهشة عارمة. «شعرت بخوف غريب، فلم أصدّق انني أشبه أحداً، بغض النظر عن مركزه، إلى هذا الحدّ».

الخوف المريب، من بعيد، تبدد، وحلّ محله يقين حمل الدهشة ذاتها، لكن عن كثب. حدث ذلك بعد أحداث «الجامعة العربية» الشهيرة في بيروت، عندما كان شقيفي واقفاً بالقرب من محل معدّ لصيانة السيارات في محيط الجامعة، يوم جاء ريفي بصحبة وزير الداخلية السابق حسن السبع لتفقد المنطقة.

يتذكر شقيفي ضاحكاً ومزهواً في الآن ذاته، أن اللواء ريفي تجمد لبرهة بينما كان يسير، ثم نظر إلى شبيهه، وألقى عليه تحية خاصة. «حينها، أدركت انني فعلاً أشبهه كثيراً». لم يقتصر التعارف بين الرجلين على تلك التحية العابرة.

بعد مرور نحو شهر على اللقاء السريع، طلب ريفي أن يتعرف إلى شبيهه. وهكذا كان: ارتدى الرجل ثياباً رسمية، وتوجه إلى مقرّ المديرية العامة في الأشرفية. حين وصل إلى المبنى، ارتبك العناصر وراحوا ينظرون إلى بعضهم بعضاً بارتياب، إذ ظنّوا أن اللواء أتى بثياب مدنية، حتى أن أحدهم لم يتردد في رفع كفه نحو صدغه، مؤدياً التحية العسكرية.

دخل شقيفي مكتب ريفي بعد انتظار دام نصف ساعة. كانت «جلسة عادية وسريعة، إذ سألني عن اسمي وعملي وعدد الأولاد، ثم طلب صورتي كي يعرضها على أفراد عائلته»، يقول شقيفي متذكراً. في تلك الجلسة، اكتشف الرجل أن الشبه لا يقتصر على الوجه والقامة فحسب، بل أيضاً يشبهه في إيماءات التحية وطريقة الابتسام وهزّ الرأس. ثم هدّد شقيفي ريفي مازحاً: «إذا حلّ يوم وطلبت منك خدمة ولم تساعدني، فإنني سأرتدي سترة عسكرية وأنتحل صفتك!».

يوميات مضحكة

عندما أصبح ريفي ذا وجه مألوف لدى المواطنين، وبالتالي أضحى شخصية معروفة، أخذت شعبية شقيفي، الشبيه، تنمو، وراح الرجل يتماهى معها إلى حد عاش شخصية الجنرال بلا تردد، ومع كثير من الضحك.

منساقاً إلى قدر جديد، بدأ شقيفي يعمل في مجال الأمن منذ أربع سنوات، لكن الفارق بينه وبين اللواء سلسلة من الرتب العسكرية. مع ذلك، يبدو مشهد شقيفي، وهو يحمل جهازاً لاسلكياً، ويرتدي قميصاً أبيض اللون وبنطالاً من الكتّان الكحلي، أشبه بكمين: ريفي يتجوّل متنكراً!

هكذا خيّل إلى ذهن أحد عناصر الدرك، عندما كان شقيفي في محيط منزل النائب سعد الحريري، في وسط بيروت. وصل الدركي متأخراً عن موعد الدوام، بينما كان شقيفي يعمل في يومه الأول، بعد موافقة الشركة الأمنية الخاصة على طلبه بيوم واحد.

لمّا رأى الدركي وجه شقيفي، قال مذعوراً: «سيدنا، والله أنا سمعت إنك عم تعمل كمين هون وهونيك، بس ما صدّقت. ما بقى اتأخر ع بيت الرئيس، بس ما تطردني، الله يوفقك». هزّ شقيفي للدركي رأسه، وأشار إليه بيده إيماءة الانصراف وهو يقول: «خير، خير».

تبعث قصص شقيفي على الضحك، غير أن المضحك هو مدى انسجام الرجل مع ردود الأفعال، إذ عندما يُسأل في مكان ما، سواء كان مصرفاً تجارياً أم مؤسسة عامة أو غيرهما، السؤال الروتيني: «أين شاهدناك سابقاً؟»، يجيب بنبرة حازمة: «على التلفزيون».

وذات يوم، كان يقود دراجة نارية وقد نسي أوراقها الثبوتية. وصل إلى حاجز للدرك، فطلب منه المسؤول أن يركن يميناً، لكن شقيفي رمقه نظرة متفحصة، وقال بصوتٍ هادئ: «خلّيك بشغلك». ارتبك الضابط، فيما أكمل الشبيه طريقه، وانفجر ضاحكاً ما إن أصبح بعيداً من الحاجز الأمني.

يحمل شقيفي شبهه بريفي، المعروف بدماثته حتى لدى خصومه سياسياً، ويسير به أينما ذهب، لكن من دون المبالغة أو الافتعال، إذ يكتفي بسؤال مذيّل بابتسامة: «ولو، لواء يتم تفتيشه؟». حدث ذلك عندما طلب موظف في وزارة التربية، من شقيفي، أن يمرّ على آلة التفتيش الالكترونية.

مثلها، قال الشبيه لموظف المعاينة في «الميكانيك»، عندما طلب منه أن يقف في الطابور الطويل: «ولو، لواء يقف في الطابور؟». وفي ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان شقيفي واقفاً عند المدخل الأساس، حاملاً جهازاً لاسلكياً، ومرتدياً ثياباً مدنية.

ترجلت من إحدى الحافلات سيدة شقراء، ممشوقة القوام، ترتدي سترة ألصقت عليها صورا للحريري وريفي. كانت تمشي وإلى جانبها أمها، عندما قال لها رجال الدرك: «ها هو اللواء، شخصياً!». التفتت الشقراء إلى شقيفي، ثم توجهت نحوه وراحت تمطره بالقبلات. ومثل العادة، تماشى الرجل مع الموقف، وأخذ يعانقها بخجل كوميدي.

لا يمرّ يوم إلا ويشهد شقيفي قصة كوميدية جديدة، لم تتحول أي منها إلى عبء عليه بعد، فقد اعتاد على ردّ التحية، كل يوم، من أشخاص لا يعرفهم ولا يعرفونه. يلوّحون له فيردّ السلام، ثم يضحك خلسة. اليوم، يتولى الرجل مهمة موظف أمني في إحدى المؤسسات التجارية الشهيرة، في بيروت.

يحلم، إذا قرر استغلال شبهه بريفي يوماً ما، أن يتوجه إلى المطار، معرّفاً عن نفسه بـ«اللواء ريفي»، ويقول لهم إن جواز سفره ضاع قبل قليل، وقد تخلّى عن حرّاسه الشخصيين في منازلهم، بغية التمويه. ثم يخبرهم انه مضطر، لدواع أمنية، أن يسافر «في هذه اللحظة» على متن طائرة خاصة، إلى السويد، شرط ألا تعود به إلى لبنان... لأسباب أمنية.

على الرغم من الضحك الذي يفوز به شبيه الجنرال يومياً، إلا أن ثمة حزناً ما يطل من عينيه مواربة، شأنه شأن الحزن النائم في عيني أي لبناني لم يشعر، يوماً، انه ابن بلد يحيا فيه بلا عوز، وبلا دمى طائفية، من فريقي 8 و14 آذار.

جعفر العطار

تعليقات: