مجزرة حولا: 64 عاماً على هامش التاريخ

مجزرة حولا: أقيم نصب ولوحة تذكاريان عند مقابر الشهداء (حسن بحسون)
مجزرة حولا: أقيم نصب ولوحة تذكاريان عند مقابر الشهداء (حسن بحسون)


لم يكن ينقص أهالي بلدة حولا اللبنانية إلا أن تقع مجزرة في حولا السورية لتبقى قصتهم على هامش التاريخ. لقد حاولوا إحياء ذاكرتهم مراراً. وها هم اليوم، مع مرور 64 عاماً على المجزرة التي ارتكبت بدم بارد، لا يزالون يشعرون بأن شهداءهم السبعين منسيون

آمال خليل

لطالما اشتكى أهالي بلدة حولا الحدودية من أن المجزرة التي ارتكبتها بحقهم عصابات الهاغاناه بقيادة مناحيم بيغين، في مثل هذا اليوم قبل 64 عاماً، لم تستوفِ حقها. أهملتها كتب التاريخ، وغابت عنها حكايات الانتصارات الجنوبية. في الوقت الذي تحولت فيه مجازر أخرى إلى أيقونات. المجزرة مجزرة، هذا أكيد، لكن عندما يقارن الأهالي بين ما ارتكب بحقهم وما ارتكب في قرى أخرى، لا يقتصر الأمر على الوحشية التي قامت فيها قوات الاحتلال بعمليتها التي قضت على نحو سبعين شخصاً من أبناء البلدة عن رغبة مسبقة بالقتل.

هناك أيضاً الظروف التي جرت فيها المجزرة، أبرزها أنها جاءت كردّ فعل إسرائيلي على معركتي القعدة والعباد اللتين جرتا قبل ذلك بأيام، وانتصر فيهما جيش الإنقاذ العربي وأهالي حولا على الصهاينة لدى محاولتهم احتلال أطرافها، موقعين 33 جندياً منهم. كانت أصداء الانتصار لا تزال تتردّد في حولا يوم 31 تشرين الأول 1948، قبل أن تهاجمها العصابات الصهيونية بعد الظهر. أقفلت مداخلها وجمعت شبانها ورجالها ونساءها وأطفالها داخل ثلاثة من بيوتها وأعدمتهم بإطلاق النار عليهم من الرشاشات. قبل أن يدور أفراد العصابات عليهم واحداً واحداً، مطلقين رصاص مسدساتهم على رؤوس الشهداء للتأكد من موتهم. لم يكتفوا بذلك، بل عمدوا بعدها إلى نسف البيوت الثلاثة بالمتفجرات. استطاع عدد من أهالي البلدة الفرار، فأنقذهم مندوبو الأمم المتحدة الذين انتشروا على الحدود، من موت محتوم. أما من بقي حياً، بعد تعرّضه لنيران الرشاشات، فقد هرب باتجاه الأودية والقرى المحيطة. في هذا الوقت كانت العصابات لا تزال تستبيح البيوت، فتهدم وتسرق الأرزاق والمحاصيل. كذلك اصطادت عدداً من الأهالي الذين اختبأوا في الوعر.

لما عاد الأهالي إلى حولا، بعد ستة أشهر من وقوع المجزرة، وبعد توقيع اتفاقية الهدنة، انصرفوا إلى انتشال شهدائهم من الخنادق التي ألقاهم فيها الصهاينة. دفنوهم في مقابر لا تزال موجودة حتى اليوم وأعادوا بناء بيوتهم وزراعة أراضيهم. ولم يبادر أحد منهم حينها إلى توثيق أحداث المجزرة وما تلاها من تهجير صهيوني ولاحقاً لبناني. إذ آوت الحكومة مهجّري حولا في هنغارات في بيروت وضبيه ودفعت تعويضات عن كل شهيد بلغت قيمتها 600 ليرة لبنانية. أما مجزرة الجوع، فقد طالت لأشهر طويلة بعد عودة الأهالي إلى البلدة المحروقة، التي احتاجت إلى أكثر من عامين لكي تستعيد خيراتها.

بعد عامين على المجزرة، حاول أحد أبناء حولا، الشاعر الشيخ علي سليمان نشر وقائعها لدى تجواله بين القرى. لكن مبادرته لم تلق الثناء، بل السجن لمدة شهر في السجون اللبنانية، وذلك في إطار محاولة التعتيم الرسمية على المجزرة كأنه عقاب على ما ألحقته حولا بالصهاينة من هزيمة. حولا البلدة أخذت حقها بأن كانت من أوائل القرى المحررة في 22 أيار 2000، حيث خرج تلامذتها من مدارسهم لاستقبال العائدين. أما المجزرة، فقد بدأت بالعودة إلى الحياة لاحقاً، حتى أصبحت نصباً ولوحة تذكاريين تقدّما مقابر الشهداء التي حوّلتها البلدية في عيد التحرير في 25 أيار 2002 إلى مزار.

لكن جميع هذه المحاولات لم تحرّر مجزرة حولا من أسر الذاكرة المحلية، وتنشرها في العالم على غرار مجازر دير ياسين وكفرقاسم وقانا... كذلك لم تبدّد التقصير اللاحق بحق شهدائها الأموات منهم والأحياء. كل هذا كان قبل السادس والعشرين من أيار الفائت. فماذا قد يحصل بعده؟

من يحاول البحث عن مجزرة حولا عبر محرّك البحث الإلكتروني، فلن يصل إلى بلدة حولا الجنوبية. بل ستلقيه نتائج البحث في منطقة حمص السورية حصراً؛ إذ إن مجزرة حولا منذ ذلك الحين، باتت تعني المجزرة التي ارتكبت في بلدة حولا أو الحولا في حمص وسقط ضحيتها أكثر من مئة رجل وامرأة وطفل، قتلوا ذبحاً أو بالرصاص. إذاً، استبدل البحث الإلكتروني المجزرة السورية بالمجزرة الإسرائيلية. حتى إن عدداً من الصحافيين اللبنانيين، استحضر النسخة اللبنانية وقارن بها النسخة السورية لأسباب متباينة، إما «لأوجه الشبه بين المجزرتين، أو لاتهام النظام السوري بأنه لا يختلف عن عصابات الهاغاناه».

لم يكن يخطر ببال موسى نصر الله أنه سيرى مجدداً أكواماً من الجثث مرمية بالرصاص وملقاة في خنادق جماعية. عاينها وهو طفل، وها هو يستعيدها في سن السابعة والسبعين. شهداء مجزرة حولا السورية لا يختلفون برأيه عن أقاربه الذين سقطوا في بلدته حولا. لكن الفاعل يختلف. يحزن نصر الله من «تبدّل الثوابت وتوجيه بوصلة العداوة نحو نظام غير العدو الصهيوني». لكنه بعد 64 عاماً، بدأ يفهم «لماذا عوقبت حولا على هزيمتها لإسرائيل، من الداخل والخارج». أما ما لا يفهمه أحد، أو أن أحداً لم يجد له جواباً، فهو كيف يمكن إنساناً أن يقتل إنساناً آخر، بهذا الدم البارد؟ أياً كان الفاعل، أياً كانت الضحية.

تعليقات: