جنبلاط يحرق مراكبه السعودية.. وهاجس الفتنة لا يغادره

الكاتب نبيل هيثم
الكاتب نبيل هيثم


الزعيم الدرزي ينفر من الحسابات بين الحريري وجعجع

جنبلاط يحرق مراكبه السعودية.. وهاجس الفتنة لا يغادره


عندما قال وليد جنبلاط ان تموضعه الحالي يمنع الفتنة، كان يعي ما يقول، وسيسجل له أنه استثمر موقعه ووزنه في لحظة لبنانية حرجة ليشكل ضابط الأمان للوضع الداخلي، نائيا بنفسه عن مشاركة سعد الحريري وفريقه في ارتكاب المعاصي السياسية التي راكمها هذا الفريق بعد اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن، والتي تشكل في المفهوم الجنبلاطي «الوصفة الملائمة ليس لتعريض البلد الى الاختلال، وهو المختل أصلا، بل لنقله الى مرحلة الصدام الأهلي».

لم يذهب الزعيم الدرزي في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، الى إطلاق مواقف بدافع الرغبة في المجازفة السياسية في لحظة يغلي فيها المشهد الداخلي على فوهة بركان إقليمي، بل قطع الطريق على محاولات الاستثمار السريع لدم اللواء الشهيد وسام الحسن وتوظيفه في البازار السياسي، وأحبط رهان البعض على دور له في قلب الطاولة الداخلية وإسقاط الهيكل الحكومي على رأس الأكثرية الحالية.

ومن السخافة، في المفهوم الجنبلاطي، إخضاع ما ذهب اليه في إطلالته التلفزيونية الى تأويلات بعض القارئين في فناجين السياسة التي تفترض وجود تموضع جديد ينقل الرجل الى موقع أقرب الى «8 آذار» وأبعد عن «14 آذار». لقد اختار حدوده الى جانب الثلاثي الرئاسي ميشال سليمان ونبيه بري ونجيب ميقاتي، دافنا بذلك الاعتقاد الذي ساور بعض قيادات الصف الاول في المعارضة، بعودة جنبلاطية وشيكة الى صفوف «14 آذار» التي يتقدم صفوفها سمير جعجع في هذه الأيام.

واذا كان الزعيم الدرزي قد اكتفى برد مقتضب على انفعال الحريري بقوله «الله يسامحه»، فلأنه، كما يقول العارفون، كان يتمنى لو ان هذا الانفعال استبدل بمساحة هدوء وواقعية وتبصّر في دقائق المشهد اللبناني وفي الوقائع الاقليمية والدولية المتدحرجة التي لا تحتمل مقاربتها بدعسات ناقصة أو رغبات مكلفة لا حصر لخسائرها وأضرارها.

من هنا والكلام للعارفين، جاء رفض طلب الحريري من جنبلاط بالاستقالة من الحكومة لأنه يصب في سياق ما يخشاه جنبلاط ويهرب منه، أي الفتنة القاتلة التي لطالما دعا الى تجنب نارها التي ستحرق الجميع إن وقعت، «لأنه في حرب الكبار يذوب الصغار وبيروحوا دعوسة».

على ان السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل انفجار العلاقة الجنبلاطية الحريرية هو فقط وليد التطورات الحالية التي رافقت اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن، ام ان له تراكمات تمتد الى ما قبل الاغتيال؟

يقول العارفون ان المكنون لدى وليد جنبلاط أكبر من أن يصرّح به في مقابلة علنية، وإن كان الباب الجنبلاطي ما زال مفتوحا على إمكان «قول ما يجب قوله في الوقت المناسب»، إلا ان هؤلاء يسجلون الملاحظات التالية:

اولا، فشل كل مبادرات حسن النية الجنبلاطية التي تنوعت وتعددت خلال السنتين الماضيتين في اختراق الجدار السعودي، سعيا لإعادة تجديد العلاقة على نحو ما كانت عليه قبل إطاحة سعد الحريري والرعاية السعودية لحكومته آنذاك. خاصة أن رمز قفل الباب السعودي مشفـّر على عدم نسيان شراكة جنبلاط في «الانقلاب». وبرغم كل ما قيل لجنبلاط وما تلقاه من وعود من أقرب حلفائه نعمة طعمة الى بعض الجالسين في الديوان الملكي، لم يغير السعوديون قيد أنملة في طريقة تعاملهم مع البيك الجنبلاطي.

ويبدو ان جنبلاط في إطلالته التلفزيونية، قد أحرق المراكب مع السعودية، ليس بعدم استجابته لرغبة أبدتها في الموضوع الحكومي، بل لتوجهه اليها بطلب «عدم القيام بأية خطوة خاطئة لتوريط لبنان في المجهول». فهذا الكلام ينطوي على اتهام غير مباشر برعاية سعودية لـ«أمر ما» في لبنان.

ثانيا، فقدان الود الجنبلاطي ـ الحريري، وانعدام الثقة بين الرجلين، ورفض الزعيم الدرزي أن يكون «عجينة لينة» في اليد الحريرية، أو أن يكون جاهزا غب الطلب للقيام بخطوات ومبادرات تخدم التكتيك الحريري أو أن يجعل من نفسه جسرا للحريرية وظيفته تأمين عبورها الى أهدافها الآنية والمستقبلية دون النظر في التداعيات الخطيرة على الموقع الجنبلاطي تحديدا وعلى لبنان عامة.

وقد شكلت الزيارة الاخيرة لجنبلاط الى باريس في ايلول الماضي فرصة لجنبلاط للحديث المباشر مع سعد الحريري، لكن تبين أن قراءة الأخير للواقع اللبناني ما زالت محكومة باعتبارات ما قبل إطاحته وتتجاوز موازين القوى الحالية، وبالتالي لا يرى أمامه سوى هدف وحيد هو إسقاط الحكومة ومحاولة إذلال نجيب ميقاتي، وهو الأمر الذي لم يستجب له جنبلاط.

ثالثا، التنسيق الى حد التكامل بين سعد الحريري وسمير جعجع على مستويات مختلفة سياسية وانتخابية، وهذا ما يهدد «وجود» أولئك الذين يجتمعون مع هذين الاثنين جغرافيا في بعض الدوائر المشتركة كالشوف مثلا. وربطا، فإن جنبلاط يدرك خلفية الحراك الأخير لسمير جعجع ومبادرته من موقعه كرأس حربة «14 آذار» الى إشهار مشروع الدوائر الخمسين بموافقة «تيار المستقبل» عليه، برغم مردوده السلبي عليه.

ولعل جنبلاط قد ساق إشارة بالغة الدلالة في سياق تقييمه لمشروع الدوائر الخمسين الذي يرفضه، حينما قال «أشكر جعجع لأنه لم يقسم المختارة الى قسمين ولا يبقى نفوذ لدي». فمن خلال هذا المشروع المحاط بالرعاية الزرقاء يتقدم سمير جعجع نيابيا، ومن خلال ذلك يقدم نفسه كمرشح أول لرئاسة الجمهورية، وثمة جهوزية لتبنيه من قبل بعض الدول الخليجية، وتندرج في هذا السياق الزيارة الأخيرة التي قام بها سمير جعجع الى بعض دول الخليج والتي كانت أشبه بـ«جولة رئاسية».

رابعا، ان جنبلاط بات يدرك أن المعطيات الحريرية والقواتية لا تشكل مبررا للبقاء في موقعه الحالي، بل فرصة للثبات في هذا الموقع كبيضة قبان وعامل حاسم في ميزان السياسة اللبنانية، اذ حيثما وجد جنبلاط تميل كفة الميزان. وهذا الوضع لا يؤمنه له انتقاله الى ذاك المحور الذي قد لا يؤمن لوليد جنبلاط سوى موقع الملحق به الى حد الذوبان.

خامسا، تعرّض وليد جنبلاط لعملية ابتزاز سياسي وانتخابي جعلته ينتفض في وجه القيادة الزرقاء والمجاهرة بأنه بات في غنى عن المن والسلوى التي تأمنت له في انتخابات 2005 و2009 وردد أكثر من مرة، في إطلالته التلفزيونية، كلاما بهذا المعنى. إلا ان جنبلاط يبقى عنصر الضرورة للجميع، وان حصته النيابية سواء على ضفة 8 آذار أو على ضفة 14 آذار أو بين الضفتين، ستبقى على حجم وازن لا يقل عن خمسة أو ستة نواب، وحضوره السياسي لا يرتكز على عدد النواب، بقدر ما يرتكز على حسن تموضعه وقدرته على المناورة السياسية في الداخل.

سادسا، ان جنبلاط، بناء على التجارب السابقة، قد أوجد لنفسه مساحة تنأى به نهائيا عن كوابيس 11 أيار 2008.

تعليقات: