صيدا الجنوبية لا تستضيف جنوبيين، فــي صيــدا الجنـوبيــون أهــل دار


صيدا، بوابة الجنوب وعاصمته. والجنوب هو عمق المدينة وخزانها. ليس ذلك مجرد كلام. هو فعل تمارسه المدينة وأهلها دوما، في السراء وفــــي الضراء، ولا سيما في الضراء. صيدا الجنوبية لا تستضيف جنوبيين. في صيدا، الجــنوبيون أهل دار.

كان الطرفان شركاء دوماً في المحن، كانوا، وما زالوا، في قلب أهداف العدو. في حرب العام الماضي، قرر العدو أن يفرق بين الضحايا. يبدو أن العدو لا يعرف صيدا جيدا.

هبّت صيدا منذ بداية العدوان. هي مدينة خبرت ممارسات العدو طويلا، ولم تنس. هي مدينة استهدفها العدو في العام 2006 أيضا، ولن تنسى.

مع نهاية الحرب، أعلن أن عدد النازحين في لبنان فاق المليون نسمة.

أكثر من 125 الف نسمة منهم نزحوا إلى صيدا.

هو رقم قياسي من النازحين وصل الى المدينة في وقت قياسي وفي ظل ظروف أمنية ضاغطة، ولم تخذلهم صيدا.

في الساعات الأولى من بدء توافد الجنوبيين الى صيدا، خرجت سيارات تابعة لبعض الأحزاب في المدينة، تنادي بمكبرات الصوت لمساعدة الوافدين. كانت الحرامات والشراشف والملابس تلقى في صرر من الشرفات باتجاه السيارات لنقلها الى الجنوبيين بسرعة قصوى.

لاحقا، بدأت مجموعات من نساء صيدا وفتياتها وشبابها بالتوافد الى مقر البلدية التي كانت مركزا رئيسا لاستقبال النازحين، يحملون ما استطاعوا نقله من أغذية أو ملابس أو حاجيات، عارضين بلهفة أن يخدموا بما استطاعوا.

يقول رئيس بلدية صيدا الدكتور عبد الرحمن البزري، الذي أدى دورا بارزا في احتضان الجنوبيين خلال عدوان تموز، «إن ابن الجنوب غير متطلب أو لجوج، ونحن كنا نفهم ماذا يريد من دون يضطر إلى طلبه، فالجنوبي ابن بيت وملاًك وصاحب أرض وكريم ونفسه عزيزة عليه ولدية كبرياء وعنفوان».

من جهته، يقول صلاح صالح الذي كان متطوعا مع إحدى الجمعيات في تلك المرحلة «إن النازحين كانوا يعانون من أوضاع نفسية صعبة جدا ولا يطيقون وضعهم كمهجرين أو نازحين والبعض منهم قد فقد أفرادا من أسرته أو جيرانه ومعظمهم فقدوا بيوتهم».

أما نور البيلاني (خياط رجالي) فيقول «عندما سمعت عن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، فرحت كثيرا ورحت أهنئ نفسي على نجاح العملية، ولما علمت بوجود نازحين في صيدا، جمّعت كل ما كان في «المحل» من ملابس تركها الزبائن لسبب أو لآخر وحملتها الى بلدية صيدا وقلت لهم هذا ما أستطيع أن أقدمه، وليت باستطاعتي أن أقدم أكثر. وعرضت على البلدية ان أخيط للمهجرين أي شيء يريدونه مجانا».

«تجمع الهيئات والمؤسسات الأهلية»

استطاعت عاصمة الجنوب التصرف بسرعة، وبذل القيمون على المدينة جهودا جبارة لاستقابل النازحين الذين كانوا في معظمهم من العائلات، وفي أحيان كثيرة، كان يلجأ إلى المدينة سكان حي بأكمله، أو حتى قرية بأكملها، عانوا ما عانوه في ديارهم وعلى طريق النجاة.

هو عمل جبار ، لكنه حال صيدا دوما.

هكذا، قام «تجمع الهيئات والمؤسسات الأهلية في صيدا» بتولي علمية الاغاثة، استنادا الى خبرته في هذا المجال منذ اجتياح العام 1982 ومرورا بعدواني 1993 و.1996

يضم التجمّع شخصيات من الأحزاب والهيئات الإنسانية والجمعيات المختلفة، تحظى بعلاقات اجتماعية لائقة في صيدا وفي الجنوب.

واتخذ «تجمع المؤسسات والهيئات الاهلية» من مبنى بلدية صيدا مقراً مركزيا وكانت الفكرة صائبة كون البلدية تقع وسط المدينة. وقام رئيس البلدية الدكتور عبد الرحمن البزري بتخصيص الطابقين الاول والثاني للجان التطوعية المنتمية الى التجمع، وكانت تلك هي بداية التحرك السريع الذي أدى الى النجاح في إغاثة المهجرين.

وفي الذكرى السنوية الأولى على «النزوح الكبير»، تجدر الاضاءة على عمل التجمع التطوعي وآليته وعلى تلك التجربة التي يمكن وصفها بالرائدة.

ويشرح أمين سر التجمّع ماجد حمدته انه منذ يوم الأربعاء في 12 تموز ,2006 بعدما تعرّض الجنوب للقصف، استقبلت صيدا أعدادا كبيرة من العائلات.

ويشير حمدته الى ان مدينة صيدا والجوار آوت أكثر من 125 ألف نازح (بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن صيدا وحارة صيدا ومخيم عين الحلوة وشرقي صيدا وجزين ومنطقتها استقبلت جميعها نحو 160 ألف نازح جنوبي مع الفلسطينيين).

ويؤكد حمدته أن عدد مراكز الإيواء التي كان تجمع المؤسسات يُشرف عليها بمفرده هو 65 مركزاً، ما عدا المنازل.

وانضم آنذاك إلى التجمع الذي يضم عادة 37 جمعية نحو 64 جمعية ونادياً وهيئة في إطار خطة الطوارئ التي أعلنت بعد بدء العدوان الإسرائيلي. ووصل عدد المتطوعين في التجمع الى اكثر من 250 متطوعا يعملون ليل نهار.

ويوضح حمدته أن آلية عمل التجمع في فترة الطوارئ آنذاك قسمت الى لجان من بينها:

ـ لجنة أمانة السر التي ضمت ممثلين عن تسع جمعيات، وكانت مهمتها متابعة اللقاءات العامة في المدينة بالتنسيق مع الجهات الرسمية المعنية من محافظة وبلدية ومنظمات دولية وفعاليات أخرى.

ـ اللجنة الاجتماعية، وكانت تضمّ أكثر من 15 جمعية وكانت مهمتها إعداد لوائح إحصائية لرصد احتياجات النازحين واستقبال العائلات النازحة وتوجيهها الى المراكز المحددة وتنظيم آلية عمل فريق المتطوعين.

ـ اللجنة الصحية وضمت أكثر من 12 جمعية لديها مراكز صحية ومهمتها تأمين الرعاية الصحية العلاجية والوقائية في المستوصفات وفي مراكز الإيواء.

ـ اللجنة الإعلامية، وضمت أربع مؤسسات تعمل على توجيه نداءات وبيانات إلى مؤسسات عالمية ومحلية.

وشكل أعضاء المجلس البلدي لصيدا فريق عمل ساهم بفعالية بأعمال الإغاثة مع التجمع تحت الإشراف المباشر لرئيس البلدية الدكتور البزري.

ويلفت حمدته الى أن المعونات كانت تأتي من الهيئة العليا للاغاثة ومن بعض الهيئات الدولية. ولكن المشكلة الكبيرة كانت تكمن في كيفية إيصال المواد من بيروت الى صيدا وبقية المناطق بسبب انقطاع الطرقات وتعرضها للقصف.

مؤسسة معروف سعد الثقافية الاجتماعية الخيرية

في تاريخ الثاني من أيلول ,2006 أقفل المركز الأخير للنازحين في صيدا أبوابه بعد انتقال النازح الجنوبي الى بلدته بلدته.

كان ذلك هو قصر العدل القديم الذي كانت تشرف عليه وتتولى رعاية النازحين اليه «مؤسسة معروف سعد الثقافية الخيرية الاجتماعية».

والمؤسسة التي أسسها النائب الراحل مصطفى سعد وأصدقاء الشهيد معروف سعد في العام ,1980 يتولى رئاستها حاليا النائب أسامة سعد، وهي تعتير من الهيئات المؤسسة «لتجمع المؤسسات والهيئات الاهلية في صيدا».

تشرح المديرة العامة للمؤسسة منى معروف سعد أن «حجم النزوح خلال عدوان تموز الأخير كان أكبر من أي نزوح آخر عرفه الجنوب في تاريخ الاعتداءات الاسرائيلية».

وتؤكد سعد ان «نظرتنا في مجال الإغاثة وبرامج الطوارئ مختلفة عن غيرنا لأننا لا ننفرد في عملنا كوننا نؤمن بالشراكة مع المجتمع المحلي وبالعمل الجماعي، واشتغلنا مع كل الجمعيات من دون استثناء، وكنا نطلب موادّ غير متوفرة لدينا من جمعيات زميلة وكنا نحصل عليها ولو منتصف الليل. كما اننا تعاونا مع 40 طبيبا متطوعا ليل نهار». وتشير سعد الى انه نظرا لحجم الاعباء في تلك الفترة «خاصة أننا كنا نرعى ونشرف وننظم عمل 22 مركزا من مراكز المهجرين، شكلنا غرفة عمليات خاصة بنا وبالمؤسسات والجمعيات الشقيقة للاجتماع صباح كل يوم من أجل وضع خطة عمل ثم نعود لنلتقي مساء ونقيّم عملنا ونضع خطة لليوم التالي».

وتلفت سعد الى أن عدد المتطوعين في مؤسستها والجمعيات الشقيقة وصل الى 450 متطوعا، واكبت عملهم «من قبلنا، اتصالات دولية وعربية ومحلية لتأمين التبرعات، وحصلنا على مساعدات عينية وغذائية وأدوية ومساعدات مالية تم توزيعها وفق جداول وبيانات أعلنا عنها في حينه».

وتشير سعد الى أن عمل المؤسسة لم ينته بعودة النازحين الى قراهم، فعلى امتداد شهرين كل سبت وأحد من كل أسبوع كانت المؤسسة تؤمن لهم المواد الغذائية والمعاينات والادوية والفرش وأدوات التنظيف وخلافه.

وتؤكد منى سعد أن مؤسسة معروف سعد خرجت من هذه التجربة الاخيرة بخبرة إضافية كما « اكتشفنا أيضا بعض الثغرات في عملنا وذلك يعود للحالة النفسية الصعبة جدا للنازحين وقد تعلمنا كيف نتعاطى معهم وعلمتنا هذه التجربة أن نخضع المتطوعين لدورات تدريبية في مجال علم النفس وفي كيفية استيعاب الحالات النفسية للنازح وكيف نصل الى مقاربة هذا الوضع من دون أدنى تأثير على معنويات أو كرامة النازح المعيشية والاجتماعية».

«هيئة الرئيس الشهيد رفيق الحريري للإغاثة والصمود»

في اليوم الرابع للعدوان الإسرائيلي، أطلقت النائبة بهية الحريري «هيئة الرئيس الشهيد رفيق الحريري للاغاثة والصمود» وحددت مهمتها بتعزيز صمود الأهالي وإغاثتهم وتأمين الظروف الانسانية والصحية لهم مع الحفاظ على كرامتهم في أماكن نزوحهم. وأعادت إحياء جهاز المتطوعين الذي كانت المؤسسة قد أنشأته في العام 1984 في صيدا إبان الاحتلال الاسرائيلي للمدينة.

وشكلت الحريري غرفة عمليات وكانت تتواصل على مدار الساعة مع المشرفين الميدانيين عليهم في المراكز والأحياء للاطلاع على أوضاع العائلات النازحة واحتياجاتهم وتأمين ما يتيسر بالتنسيق والتعاون مع الجهات الرسمية والأهلية والانسانية. ويقول مصدر في الهيئة ان العمل الاغاثي المباشر أصبح أشبه بكرة الثلج المتدحرجة في مواجهة كرة النار المتنقلة، وراح عمل الهيئة يتطور يوميا.

وبدأت الهيئة أولاً باستحداث وتجهيز مراكز لاستقبال النازحين من بينها قاعات مساجد ومدارس خاصة ورسمية، وتم توزيعهم أيضاً على بيوت وأحياء في صيدا وضواحيها.

ومن الناحية الصحية، كانت الهيئة تقوم بالرعاية اللازمة بالتعاون مع مديرية الصحة الاجتماعية في مؤسسة رفيق الحريري عبر مستوصفاتها ومع «أطباء المستقبل» وفريق الإسعاف الأولي في جهاز المتطوعين.

كما شملت الرعاية الصحية متابعة أوضاع النساء الحوامل وحالات الولادة التي كانت تشهدها بعض المراكز (حوالى 1200 امرأة كن حوامل أو على وشك الولادة)، وتنظيم أنشطة تربوية وترفيهية للأطفال والأولاد في مراكز النزوح.

وساهمت الهيئة أيضا في إجلاء آلاف الرعايا العرب والأجانب والمواطنين المحاصرين في معظم مناطق وقرى الجنوب الى صيدا ومنها الى بيروت، وكانت أبرز عملية إجلاء قد نفذتها هي لمن تبقى من عائلات وأهالي مروحين ويارين والبستان والظهيرة وأم التوت وقانا.

كما أُرسل عدد من جرحى ومصابي العدوان للعلاج في بلدان عربية وأجنبية بمبادرة من السيدتين نازك الحريري وبهية الحريري.

تعليقات: