«العشيرة» تنتفض لماضيها: حاضرنا هو الشرذمة

خلال الإعلان عن «الجناح العسكري» لعشيرة آل المقداد (أرشيف ــ هيثم الموسوي)
خلال الإعلان عن «الجناح العسكري» لعشيرة آل المقداد (أرشيف ــ هيثم الموسوي)




أعادت «انتفاضة» آل المقداد إلى أذهان الكثيرين الصورة القاتمة التي يرسمونها عن العشائر، بفعل الروايات التي تُحكى عنها. صورة يراها أبناء العشائر ظالمة بحقهم، هم الذين لا يملكون سوى القيم والتقاليد. لكن ما الذي بقي منها اليوم، في ظل مدنيّة الدولة وأحزاب القرن الـ 21؟

رامح حمية

«ممنوع مرور قوافل السجناء لدى السلطات العثمانية وبأيديهم أصفاد أو أغلال، فبمجرد دخولهم عقارات بلدة طاريا، لا بدّ من فك وثاق المكتوفين منهم، على أن يعاد تكبيلهم بعد خروجهم من البلدة». هذا عرف ساد أكثر من مئتي عام أيام الاحتلال العثماني، بعدما أصدر الباب العالي «فرماناً» شدّد فيه على فكّ أغلال المساجين لدى مرورهم في أراضي بلدة طاريا، «إذ لا يمكن مرور «ملهوف» في أراضي آل حمية من دون إغاثته وتقديم العون له»، كما يقول صباح حمية ابن بلدة طاريا. «إغاثة الملهوف والمغلوب وحمايته وإكرامه»، بحسب الرجل الذي ناهز الثمانين من عمره، «هي إحدى الخصال المتوارثة لدى عشائر بعلبك ـــ الهرمل، وهي غيض من فيض العادات والتقاليد والقيم التي لا تزال تتوارثها العشائر، كالكرم وحسن الضيافة والشجاعة والنخوة وإصلاح ذات البين وغيرها».

يعترض أبو علي على الصورة السلبية التي ترتسم اليوم في مخيلة البعض عن العشيرة، بحيث تبدو كأنها «بعبع مخيف خارج عن القانون، ما انفك شيبه وشبابه يحملون أسلحة ويطلقون النار على كل من يمرّ بدارهم أو بلدتهم أو أرضهم». يذكّر بأن العشيرة ليست إلا «عائلة تأتلف في ما بينها بأفراد ينحدرون من أب واحد، يتزاوج بعضهم من بعض، ويتكاتفون ويتضامنون في أعمالهم ومصالحهم، ويعملون من أجل ردّ الضيم عن أفرادها، فيتداعى الكلّ للجزء والجزء للكلّ، شأنهم شأن أية عائلة وإن كانت صغيرة».

كامل زعيتر أحد وجهاء عشيرة آل زعيتر لا يخالف حمية في رأيه، فيؤكد أن العشيرة «ذات قيم وتقاليد»، وهي عبارة عن «حكومة مصغّرة لها رئيسها ووزراؤها، يتداعون لاتخاذ قراراتٍ الهدف منها الذود عن مصالح أفرادها بصبغ سلوكية تضامنية، بالإضافة إلى حل المشكلات والخلافات التي تنشأ داخل العشيرة أو خارجها».

الرجل التسعيني الذي يسجل له القدرة على «رأب الصدع وإصلاح ذات البين، لا في عائلة زعيتر فقط، بل بين عائلات أخرى»، يوغل بعينيه الغائرتين في ذاكرة الأيام لينبش صوراً من الماضي العشائري بأفراحه وأتراحه ومصالحاته. ويذكّر بصولات العشائر البقاعية وجولاتها في مقاومة الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي، «برجالات تلك المرحلة وطفّارها الذين سطروا بطولات على امتداد المنطقة، من بعلبك إلى وادي فيسان في جرود الهرمل».

وإذا كانت العشائر تاريخياً بدأت منذ «تفرّع العرب بين قحطان وغسان وعدنان»، كما يؤكد ياسين علي حمد جعفر، فما الذي بقي منها اليوم في ظل مدنية الدولة وأحزاب القرنين العشرين والواحد والعشرين؟ وهل لا تزال تحتفظ في ما بينها بمكانة الزعيم أو وجيه العشيرة؟

لا ينكر جعفر أن حال العشائر اختلفت عما كانت عليه سابقاً، «فما كان يعرف بالمرجعية الواحدة اندثر ولم يعد موجوداً» كما يؤكد. وما كان يسمى «الزعيم أو وجيه العشيرة، الذي كان يملك في يده سلطة اتخاذ القرار والكلمة الفصل، لم يعد له وجود نتيجة التآكل الداخلي في العشيرة الواحدة، وتشرذمها إلى مجموعات بشرية يتفاوت حجمها بحسب مقدرتها على فرض رأيها إذا تمكنت من ذلك، وعلى بت الخلافات وإدارة شؤون مجموعة العشيرة».

ومما لا يخفى أن بعض أبناء العشائر سارعوا، مع ظهور الأحزاب، إلى الانخراط فيها. وفيما بقي البعض ضمن العشيرة، إلا أن هذا الأمر أدّى بحسب جعفر إلى «انتفاء الاستقلالية لدى العشائر، وتسبّب بخلل في موازين العشيرة، محدثاً شرخاً كبيراً فيها، وخصوصاً مع بقاء القسم الآخر خارج تلك الأحزاب وتخبّطه في ظل غياب الدولة بإنمائها وخدماتها وغير ذلك».

هذا الأمر أضعف سلطة القرار في العشيرة الواحدة، التي تعتبر «العنصر الأساسي» فيها. فالزعامة بحسب رأيه بمثابة «النواة التي توحد العشيرة». هي التي تتخذ «قرارات إعلان الحرب على الآخرين أو وقفها، والمصالحات بين الأطراف المتخاصمين، فضلاً عن تحملها في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية رعاية كل المصالحات ودفع الديّات الخاصة بالقتل».

من جهته، يرى مفلح علّوه أن حالة التشرذم التي تعيشها العشائر سمحت بوجود «قرارات مختلفة في العشيرة الواحدة»، بعد غياب «الزعيم والوجيه أو الشيخ». وباتت اجتماعات العائلة قائمة على فاعلياتها لاتخاذ قرارات «لم تعد ملزمة كما في السابق، وإنما قائمة على مقدار الاحترام والتجاوب في بعض الأحيان» يقول. وعليه، لا يرى علّوه أن كل قرارات العشائر اليوم باتت صائبة، ففي كثير من الأحيان تكون «مخطئة وجائرة، لكونها تبنى في بعض الأحيان على معلومات ومعطيات محدودة غير كافية أو مخطئة». ويستند في رأيه إلى الكثير من التصرّفات التي تسيء إلى العشيرة وقيمها وتقاليدها، «ومنها جرائم الثأر حيث يقتل فيها أشخاص لا علاقة لهم بالقاتل، في الوقت الذي تشدّد فيه قوانين العشيرة على عدم قتل أي كان في عائلة القاتل»، مستشهداً بالآية القرآنية: «ولا تزر وازرة وزر أخرى». ومن التصرفات التي لا يرضى عنها علّوه «دفع الديّة عن القاتل»، الأمر الذي يشجعه من جديد على ارتكاب غيرها من الجرائم، فيما يسعى البعض الآخر إلى دفع الأموال للقضاء لإخراج موقوف، يتكلم بأسف شديد.

في المقابل، يرى زعيتر أن جرائم الثأر تتحمل مسؤوليتها، في جزء كبير منها، الدولة اللبنانية لأنها «تتقاعس عن اتخاذ الخطوات القانونية الجدية للاقتصاص من القاتل»، الأمر الذي يسمح ببقاء هذه الجرائم، التي تطال في الغالب أبرياء.

لكن اللافت، بحسب زعيتر، أنه على الرغم من حضور الأحزاب، وحالة التشرذم العشائرية وغياب الزعيم الأوحد فيها، إلا أن غالبية المصالحات «لا يمكن أن تتم بغياب وجهاء العشيرة على اختلافهم وتعددهم».

وكان النائب السابق الراحل علي حمد جعفر قد وضع مع عشائر وعائلات القرى المجاورة «ميثاقاً»، يشدّد فيه على أن «الثأر ليس حالة قتل فقط تنفذ ضد أيٍّ كان، بل أرسى عهداً وقانوناً لا يعاقب فيه إلا صاحب الجرم دون عائلته، بالإضافة إلى تسليم العشيرة ابنها القاتل للسلطات الأمنية، وذلك انطلاقاً من المبدأ الذي آمن به جعفر الوالد للخروج من الفوضى الموجودة في العشائر والانخراط أكثر في مؤسسات الدولة بغية المحافظة على تقاليد العشائر الحقيقية وقيمها، وإبعاد الصفات غير الجيّدة التي باتت تلصق دائماً بالعشيرة وأبنائها» يقول نجله ياسين.

أما حميّة فيرى في جرائم الثأر بصورة عبثية وتجاه أي فرد في عائلة القاتل «أمراً مسيئاً»، ولا يجد تشبيهاً له إلا في «إساءة استعمال السلطة من قبل المسؤولين في الدولة».

رجالات العشائر البقاعية يحاولون أمام كل هذا تصويب صورة العشيرة، وإظهار تلك القيم الجميلة التي تعتبر ركائز أساسية، بقصد إبعاد تلك الصور البشعة التي تلصق بالعشائر مع كل تصرّف عنفي.

عصبية الطوائف والأحزاب والدولة

إذا كانت العشائرية عبارة عن «عصبية عائلية»، ونعت يستخدمه البعض للإشارة إلى نمط في العقلية والمشاعر والتفكير، فإن صباح حمية يرى في المقابل أن عصبية العشيرة القائمة على رابطة الدم والقربى، «أرحم بكثير من عصبية المذاهب والطوائف، ومن العصبية السياسية والحزبية في لبنان». ويوضح أن اللبنانيين من أبناء الطائفة والمذهب «ينتصرون لطائفتهم، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين»، فيما لا يمكن «أي حزب أو سلطة سياسية إلا التفكير بعصبية تجاه مصلحة محازبيهما ومناصريهما أولاً، والاستئثار بالسلطة والنفوذ محاصصة للمحسوبيات ثانياً، على حساب أبناء الوطن المحايدين» يقول.

لا يتوقف أبو علي، القوميّ منذ نعومة أظفاره عند هذا الحد، بل يصل «بالعصبية اللبنانية» إلى حدود «تغليب المصالح الشخصية والفردية على تلك الوطنية والقومية»، حتى أصبحت حياة الفرد في لبنان قائمة على «التشرذم والتعددية في كل شيء، في العشيرة والطوائف والأحزاب».

...

..

.

المقداديون والجيران في لاسا: شهر عسلٍ دائم



جوانا عازار

في لاسا، «مقداديون» كثر. كانوا كغيرهم من السكان هناك. لا يتفوقون على أحد، كما لا يتفوق عليهم أحد. بقي هؤلاء على ما هم عليه، إلى أن خطف حسّان ـ أحد أبناء هذه العائلة ـ في سوريا. عندها، حدث الفرق. استعاد المقداديون زخم العشيرة التي لها بات لها متحدث رسمي وجناح عسكري يخطف مقابل الواحد عشرات. هذا «الصيت» لعائلة المقداد، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، لم يؤثر على علاقة هؤلاء بجيرانهم لا من أبناء لاسا ولا من البلدات المجاورة في منطقة جبيل. فهنا، لم تؤثر الأجنحة العسكرية على العلاقة بين الأهل والجيران، وآل المقداد «ما عندهم مشكلة مع حدا من أهلنا وجيراننا». هذا ما يصرّ على قوله الناطق الرسمي باسم العائلة ماهر المقداد. وفي اتصال مع «الأخبار»، عاد ليؤكد أن «مشكلة العائلة مع سوريا وليست مع الأهل في لاسا أو أيّ منطقة أخرى بأي شكل من الأشكال، ونحن لبنانيون ونقاتل تحت هذا اللواء، وأهل لاسا المسيحيون منهم متضامنون معنا قبل الشيعة». ليس الناطق الرسمي باسم العائلة هو المقدادي الوحيد الذي يؤكد على هذا «التعايش والسلم في لاسا وجوارها»، فثمة مقداديون كثر يعرفون بأن «الحادثة لم تؤثّر على العلاقة بين أبناء هذه المنطقة، لا مسيحيين ولا مسلمين، فهؤلاء لم يشعروا يوماً بحاجز بينهم، والفورة الطائفيّة الموجودة اليوم في لبنان لم تجد يوماً لها موطئ قدم بين أبناء البلدة»، يقول الدكتور محمد المقداد.

ما قاله الرجل، وقبله ماهر المقداد في كثير من المناسبات، بثّ الراحة في نفوس أبناء البلدات المجاورة ورؤساء بلديّاتها. فرئيس بلدية قرطبا ورئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مارتينوس يعرف أنه مهما جرى «تبقى جبيل رمزاً للتعايش»، واصفاً ما حصل بـ«ردّة الفعل التي لم يحبّذها البعض، إلا أنها لم تفعل في أهل المنطقة شيئاً، فمنطقة جبيل هي عنوان العيش المشترك الذي يحافظ عليه الأبناء، وتبقى حادثة الخطف خارج المألوف وبعيدة عن أهالي لاسا والبلدات المجاورة». مارتينوس المرتاح من ناحية التعايش، ينقل عن رئيس بلدية لاسا عصام المقداد «أن لا شيء يمكن أن يؤثّر على عيشنا، على أمل أن تصل قضية المخطوفين إلى خاتمة سعيدة».

ما لم يؤثر في نفوس أهالي قرطبا لم يؤثر تالياً في نفوس أبناء الرويس، إذ يتحدث رئيس بلدية الغابات والرويس بشارة القرقفي عن «عدم تأثّر جرد جبيل بقضية الخطف، حتى أنه فينا نقول ما في شي أبداً». وعلى ما يبدو أن هذا الأمر سيبقى سارياً «فلا خوف أبداً من تأثيرات لاحقة»، يتابع. وهو رأي يتوافق تماماً مع رئيس بلدية يانوح ملكان البعيني الذي وصف القضية بـ«الوطنية، التي لم تدخل زواريب الطائفية في بلدات جبيل».

هذه التأكيدات عاد وكرّرها نائب جبيل سيمون أبي رميا، مشيراً إلى أن «أبناء جبيل يلتزمون بالعيش الواحد فعلاً وليس شعراً وكلاماً، وتبقى المنطقة بعيدة كل البعد عن أية تداعيات سلبية». وكذلك قال نائب جبيل السابق فارس سعيد، فلا «خوف ولا تخوّف في منطقة العيش المشترك جبيل، وليس هناك استعداد لنقل أجواء الشغب من الضاحية الى جرد جبيل».

والدليل أنه «بجبيل ما بتمشي». سعيد الذي أشار إلى أن التواصل مع آل المقداد حصل من جميع الأطراف، أكد أن «النظام السوري بيفلّ وأبناء لاسا وقرطبا والضيع المجاورة بيبقوا عايشين سوا، والأبناء في بلداتهم والحجر بمحلّه قنطار». وعن العائلة، قال سعيد «متواضعين، ممكن أن تنافس مثلاً عائلة برو على رئاسة البلدية وأن تقيم توازناً جردياً مع عائلة زعيتر، أما أن تهدد مجلس التعاون الخليجي والاتّحاد الأوروبي وسوريا والرأي العام اللبنانيّ وحلف شمال الأطلسي، فمن أين لها هذا؟». ويختم بإجابة مبطنة «هذا الأمر كثير عليها، ففي صفوف آل المقداد عينهم من يعارض بدوره عملية الخطف».

...

..

./

على فكرة



ينقل مدير ثانوية الملاك الحارس، ورئيس بلدية بلاط، الياس موسى عن الكاتب أحمد أبو سعد أن بلدة لاسا هي المنشأ الأول لآل المقداد. في حين يوضح الدكتور محمد المقداد، أن «تواجد آل المقداد في لاسا يعود إلى أيام العباسيين، حيث كانت العشائر منتشرة في المتن وكسروان وجبيل والبترون وطرابلس، ومنهم عشيرة آل المقداد». وبعد الانتشار «انتقل الشيعة من جبل لبنان إلى منطقة البقاع وبقيت أقليات في جبل لبنان، وهذا ما حصل مع العائلة».

تعليقات: