أحوال سوريا... وأحوالنا

ابراهيم الأمين
ابراهيم الأمين


أحوال سوريا... وأحوالنا [1] الموت المفتوح... وقلق الجوار من العدوى

ابراهيم الأمين

حتى اللحظة، نجح أعداء العرب في ضرب سوريا. عدم سقوط النظام لا يعني أبداً صمود الدولة. الجيش السوري، اليوم، يمثّل حجر الزاوية الذي يستند اليه الحكم. أما حزب البعث والمؤسسات المدنية، وحتى الجمهور الداعم، فانخرطت كلها في لعبة الصراع في النفوذ المحلي. هيبة السلطة التاريخية تعرّضت لنكسة قوية. أجهزة الأمن تواجه مأزق الترهل وعدم التحديث. الدماء التي تسيل يومياً تعزز الانقسام. والنتيجة: تراجع حاد في الاستقرار. تراجع اكبر في الدورة الاقتصادية. وتراجع أقوى في الحاجة إلى الدولة. هذا من فوق. أما من تحت، فلجوء جماعي إلى آليات الإدارة الذاتية التي تستفيد منها قوى المعارضة، لا سيما المجموعات المسلحة التي تثبت أقدامها حيث انتهت الدولة وغاب الجيش وتراجع الموالون.

أرياف سوريا كانت الأساس في الانتفاضة، وصارت الاساس في العسكرة. وهي الآن تمثل مراكز الحركة والتخطيط للمتمردين المسلحين. هذه الأرياف كانت رافعة ثورة البعث قبل عقود. عليها اتكل الراحل حافظ الاسد عندما ثبّت حكمه لاحقاً. وكانت عنصر التوازن الذي فتح الباب امام سوريا جديدة. لكن هناك العشرات من الأسباب المفهومة أو الموضوعية لتراجع حصة الريف من النمو الاقتصادي والبشري. ثمة أخطاء كثيرة قامت من جانب الحكم خلال عشرين سنة. أدت إلى انهاك الريف وتوزع أبنائه بين رحلة الزحف نحو أحزمة بؤس لفّت المدن الكبرى، وبين رحلة الهروب الى موقع البطالة الشاملة: تسرّب مدرسي، انهيار الخدمات العامة، وفوق ذلك، تسلط سياسي وأمني وحزبي وحتى طائفي، أدى الى تحول الريف أرضاً خصبة لأول انتفاضة شعبية تشهدها سوريا منذ زمن الاحتلال الفرنسي.

هذا النقاش، لم يعد له مكان الآن. الطاولة التي يفترض ان ترمى عليها ملفات المشكلات دفعت جانباً. استسهل النظام اللجوء الى القمع المباشر، بيما أخطأ المنتفضون في بيع حركتهم المطلبية الى اعداء لكل سوريا، من عرب وافرنج واستبداد عالمي. فكانت النتيجة، دخول سوريا في أتون حرب أهلية قاسية، لا مكان فيها للعقل، ويسيطر فيها الشر والغضب على كل شيء، ولا تبشّر نتائجها بخير.

بعد 17 شهراً على اندلاع الازمة، يعود السوريون انفسهم، كما المراقبون من بعيد، ليتباروا حول من كان صاحب الرؤية الثاقبة. الجميع يقول، اليوم، ساخراً: كنا حذرنا من الذي يحصل اليوم. لكن، لكل طرف مقدماته وخلاصاته السابقة والتالية على هذه العبارة. فريق الحكم والداعمين له يرددون ان المعارضين في سوريا لم يدركوا الفروقات عن بقية الدول العربية، وتجاهلوا المصالح الاقليمية والخارجية التي تجعلهم يدعمون أي احتجاج يقود الى تدمير سوريا. أما فريق المعارضين، فيكرر ان النظام تجاهل الحقائق على الارض، وكابر في نفي وجود مشكلة داخلية حقيقية، وحصر جهده في حل أمني ادى الى عسكرة الانتفاضة الشعبية.

وفي الخلافات، يدعو الموالون الى الهدوء، والقاء السلاح والخروج من الشوارع، والتوجه صوب «حوار واقعي» مع النظام، اما المعارضون فيدعون الى رحيل رأس النظام كمعبر الزامي امام تسوية مع بقية قواعده داخل الدولة وبين الناس.

في المحصلة، لا مؤشرات على تنازل متوقع من هذا الفريق أو ذاك. وتداخل المصالح الخارجية مع المواجهة الداخلية، ينقل الملف مجدداً الى الحرب الدموية. الكل يراهن على تبدلات جوهرية على الارض تفتح الابواب للمساعي السياسية. والى ذلك الحين، تبقى أبواب سوريا مشرعة لكل انواع القتل والتدمير، ولمواجهة فيها من الوحشية ما يبرر خشية حلفاء سوريا، والاعداء أيضاً، على مستقبل هذا البلد، بينما ترتسم على الارض، وبالدم، حدود دويلات مكتظة بالسكان او خالية لا فرق. سوريا التي نعرفها ماتت، وماتت معها كل الاحلام بدولة مدنية في هذا الشرق الطائفي.

ليس بعيداً كثيراً عن سوريا، اي عند حدودها الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية، توجد دول وشعوب، تدفع ثمن التخلي عن سوريا الموحدة.

العراق، يستعد لجولة احتراب طائفي جديدة. الحلف الذي يريد اسقاط النظام في سوريا يسعى الى قلب نظام الحكم القائم في العراق. أميركا نفسها، التي تحظى بامتيازات خاصة في عراق ما بعد صدام، صارت اقرب الى منطق اوروبا المسيحية، ودول الخليج السنية، التي تفضل العراق ممزقاً، على عراق موحد يحكمه الشيعة وتفرض ايران وصايتها عليه.

الأردن، غارق في مشكلة داخلية عميقة، بسبب الحكم الفاسد، وتراجع قدرة الدولة على توفير ضمانات العيش بعد فقدان ضمانات الاستقلال التام. لكن هذا الاردن، يكاد ينخلع بفعل عملية جذب يتعرض لها من حقلين مغناطيسيين قويين، حقل يريده طرفاً حاسماً في ضرب النظام في سوريا، ولو بالاجرة التي توفرها ممالك النفط، وحقل يخشى انهيار سوريا الحالية وامتداد نفوذ الاسلام السياسي الى داخل الاردن. والترجمة الوحيدة عند الاردنيين للاسلام السياسي هي تحول النفوذ الفلسطيني الى عنصر حاسم يقود الدولة. عندها، ستتحرك الولايات المتحدة ومعها كل الغرب وكل عربها، لتثبيت فكرة الوطن البديل، سواء على حساب الدولة الأردنية نفسها، أو على حساب فلسطين.

تركيا التي تفاخر بأنها من أعظم دول الأقليم، تشهد عملية «اسلمة» ستدفع الى الغاء مظاهر المساواة المدنية التي رافقت استبداد اتاتورك، وبعد نحو مئة عام على سقوط دولة الخلافة، عادت لغة التمييز لتسود بقوة بين اقليات طائفية ومذهبية وقومية واثنية، بينما تقود المغامرة البائسة لمنظري حزب العدالة والتنمية وسياسييه، الى اخطاء تجعلهم يعززون قبضة الحكم المستبد داخلياً. فتتراجع الديموقراطية ومعها الحريات العامة والخاصة. وتتحول الخصخصة الشاملة وسيلة وحيدة لحماية النمو في اقتصاد معرّض لضربة كبيرة، في حال خسر سوريا ومعها العراق وايران.

هذا بالاضافة، الى ان كل القيود التي كبحت جزءاً من قوة حزب العمال الكردستاني ستكون قد تفككت كلها قريباً. وستكون اراض سورية كثيرة قواعد لتحرك الثائرين الاكراد الساعين الى هوية وطنية مستقلة.

اما اسرائيل، الدولة المضطربة يوماً بعد يوم، فرأسها مليء بالاسئلة الوجودية، بقاء النظام، يعني تعزيز محور المقاومة الساعي الى اسقاط النظام الصهيوني. وسقوط النظام، يعني فتح الجبهة الشمالية على موجة احتمالات سلبية لاسرائيل، مهما كان شكل الحكم المركزي في دمشق. لكن المشكلة الاكبر لإسرائيل، تكمن اليوم في ان ميزتها التاريخية بشن حروب استباقية، ووقائية، لم تعد في متناول اليد، بل ثمة خشية من خطأ غير محسوب، يؤدي الى انفجار، تدفع اسرائيل ثمنه الاول والاكثر حجماً.

أحوال سوريا .. وأحوالنا [2] الثمن اللبناني الكبير وتكرار الخطأ الفلسطيني



ابراهيم الأمين

من بين كل العرب والجوار، سيظل لبنان والشعب الفلسطيني الاكثر تأثراً بالأزمة السورية.

الفلسطينيون عليهم انتظار نصيبهم من حصاد سوريا. السلطة الرسمية غير آبهة اصلاً لسقوط النظام في دمشق، وتبعيتها المفرطة للغرب وللاحتلال، تجعلها صاحبة مصلحة في ضرب المركز الحاضن لخصومها من قوى المقاومة. لكن قوى المقاومة، ولا سيما حماس منها، لم تعرف ادارة المركب منذ اندلاع الانتفاضات العربية. فجأة عاد عقل «الاخوان المسلمين» ليحل محل «العقل الحركي التجديدي» الذي كان خلف نشوء حركة المقاومة الاسلامية. لم يعد معروفاً، على وجه الدقة، خيار حماس الاستراتيجي: هل هو المقاومة ــــ وهذا له حساباته ومنها منع سقوط النظام ــــ أم التهدئة والركون الى متغيرات سياسية كبرى على تخوم فلسطين، تجعل معركة اسقاط اسرائيل أكثر سهولة (وهذا عالم افتراضي، فيه يضيع الوقت اكثر مما يثمر).

المشكلة ان الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الشعب الفلسطيني نفسه ضائع الآن. وفيما كان الجميع يعتقد بأنه اتعظ من تجربة لبنان، وغادر منطق «طريق القدس تمر عبر عمان او بيروت او خلافه...»، وبادر بعد انتفاضتي 1987 و2000 الى خلق واقع المقاومة المباشرة من قلب فلسطين، ها هو يعود الى المنطق نفسه، وصار الشعار أكثر تعميماً: «طريق القدس يمر عبر سقوط الانظمة». وفي سوريا، تجرّأ ناشطون معارضون للنظام، من الفلسطينيين المقيمين هناك، برفع الشعار مع وضوح اكبر «طريق تحرير فلسطين يمر عبر اسقاط النظام السوري».

لكن الخطر ليس في تشتيت الاولويات، بل في اقحام اللاجئ الفلسطيني ــــ في كل الدول العربية ــــ في مشكلات هذه الدول الداخلية، ومن زاويتها الاكثر خصوصية المتمثلة بواقعها السيادي. وبدل ان يشعر المرء بحافزية وحماسة لدى الشعب الفلسطيني لتحسين شروط اقامته في هذا البلد العربي أو ذاك، صار يلمس تورطاً فلسطينياً أكبر في المواجهات الداخلية، التي تقوم اصلاً على قاعدة مذهبية وطائفية. وبدل ان يبقى الفلسطينيون اساساً لحماية هويتنا العربية المضادة لهذه الانقسامات، تحول قسم كبير منهم الى عنصر حيوي في هذا الانقسام. والغباء عند اصحاب هذه النزعة، يكمن في اعتقادهم بأن فشل الهوية العربية في تحويلهم الى مواطنين من الدرجة الاولى حيث يقيمون، يحتم اللجوء الى الهوية الدينية التي تتيح لهم اندماجاً كاملاً، وهو الامر غير الحقيقي، والذي سيبرز في كل دول المنطقة، بصور لا تقل خطورة عن صورة الفلسطيني في الاردن ولبنان.

وماذا عنا نحن اهل لبنان العظيم!

تبقى النكبة الكبرى في لبنان. الكيان الوهمي الذي يعلّمنا التاريخ، كل يوم، انه لا شيء من دون فلسطين حرة، وانه لا شيء من دون سوريا مستقرة. ها هو لبنان، ينقاد بخطى حثيثة، وبدفع من ابنائه، قبل الدفع الخارجي، صوب الانهيار التام، حيث لا تبقى دولة ولا شراكة ولا محبة ولا من يحزنون. وحيث تسيطر المجموعات بكل الوجوه الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية والقبلية والجهوية.

اللبنانيون انخرطوا جميعاً، ومن دون استثناء، في المعركة السورية الداخلية، كانوا ولا يزالون يدركون حقيقة واحدة: وجهة الحكم في سوريا تحدد وجهة الحكم في لبنان، لكن، بدل ان يجد اللبنانيون في الأزمة السورية مدخلاً الى توحد، ولو مرحلياً، واستخدامه رافعة لوقف النزيف في سوريا، سارع اللبنانيون الى نفخ عضلاتهم، والى عرض خبراتهم في الحروب والتقاتل وبث الاحقاد، وافكار التخريب والتقسيم والوحشية. صار اللبنانيون يوزعون فرقهم بحسب مصالحهم غير المتقاطعة عند علم يدل على لبنان. بل أظهروا كل ما عندهم من انقسام ونفور، وصاروا يستعدون بأسرع مما كان متوقعاً، لتقمّص الازمة السورية بوجهها القبيح، حيث العمل الطائفي والوحشية، استعداداً لجولة جديدة من الحروب العبثية.

وبدل ان تقتصر خدمات بعض اللبنانيين على النصح والمشورة. تراهم، اليوم، ينخرطون في اقذر الادوار التي ستودي بلبنان، فتجعله منقسماً على صورة اي انقسام تنتهي اليه سوريا، او محكوماً من فريق اذا انتهت ازمة سوريا الى تولي فريق غالب مقدرات الحكم والبلاد.

كابر اللبنانيون وهم يعرفون ان اي اضطراب سياسي في سوريا، سيدفع بنحو ثلاثة ملايين سوري على الاقل الى النزوح صوب لبنان، من العمال والفقراء ومهمشي الارياف، الى اصحاب رؤوس الاموال التائهين بحثاً عن مصرف او مصنع او سوق استثمار، وصولا الى الاقليات التي تبحث عن امان اضافي لها.

كابر اللبنانيون وتجاهلوا، ان اقتصادهم الفعلي يقوم على شراكة سوق الاستهلاك مع سوريا، نحو ربع مليون لبناني فقدوا فرصة الحصول على سلة الاستهلاك الغذائية بالاسعار السورية، ونحو نصف مليون لبناني، فقدوا القدرة على الاستفادة من برامج الدعم لقطاعي الطاقة والصحة في سوريا، والموسم المقبل، سيشهد اول عملية تهريب للسلع الغذائية وللمازوت باتجاه الشرق لا الغرب، كما سيخسر الفقراء على طول حدود لبنان مع سوريا من الذين لا يعرفون الا المستوصفات مكاناً للعلاج، فرصة الحصول على ادوية سورية الصنع، بأسعار تقل عن نصف السعر في لبنان. وسيخسر لبنان سوقاً لتصريف نحو ربع ما يستورد من سلع اجنبية كانت معدة للتهريب الى سوريا. وسيكسب في المقابل مخازن اضافية من الاسلحة والمتفجرات، والآلاف من المقاتلين الساعين الى الاستراحة او الاستقرار. وسيتحول الاختلاط اللبناني ــــ السوري الجديد، عنصر خلل اضافياً في التركيبة الطائفية والمذهبية، ولن يستفيد من هذه اللعبة، سوى بضعة آلاف من اللبنانيين على شاكلة أمراء الحرب وتجار البشر.

لكن المغامرة الاكبر هي في استعداد فريق 14 آذار لتقديم خدمات تتجاوز الملف السوري، وتلامس حد اثارة الفتنة الهادفة الى جر «حزب الله» نحو الداخل اللبناني. ليس بقصد مبارزته وهم يعرفون النتيجة سلفاً، بل بقصد جعله يتصرف على ان اسرائيل ليست هي العدو الوحيد الذي يجب حشد الطاقات والامكانات ضده. وسيترافق ذلك، مع محاولة لتكرار خطأ كمال جنبلاط التاريخي، عندما قرر عزل المسيحيين، باسم عزل الكتائب، وهي حالنا اليوم مع نغمة تقول بعزل الشيعة باسم عزل حزب الله. علماً ان الشارع في الساحات اللبنانية، لن يكون منقاداً لاي جهات او شخصيات من الصنف الذي يفتح الافق نحو لبنان جديد، بل هي من صنف القاذورات النتنة التي لم نجد كنسها يوم اعلن عن وقف الحرب الاهلية.

قد يكون مفيداً للجميع، ومن دون استثناء، العودة الى مشاهدة الجزء الاخير من مسرحية زياد الرحباني «بخصوص الكرامة والشعب العنيد». يومها، تخيل زياد أهل البلاد والاقليم في صور قاسية نرى اليوم قسماً منها، لكن ما وصل اليه من نتائج، يجعلنا نخاف على أشكالنا وهويتنا!.

تعليقات: