حركة الفلوكسوس Fluxus الفنيّة: كل صوت موسيقي وكل تجربة معيشة لعبة أو سحر

حركة الفلوكسوس Fluxus الفنيّة: كل صوت موسيقي وكل تجربة معيشة لعبة أو سحر
حركة الفلوكسوس Fluxus الفنيّة: كل صوت موسيقي وكل تجربة معيشة لعبة أو سحر


حركة الفلوكسوس Fluxus الفنيّة: كل صوت موسيقي وكل تجربة معيشة لعبة أو سحر

تعريف:

تناولنا في مقالات سابقة الحداثة الفنية وما بعد الحداثة وما أنتجتاه من تيارات وحركات غارقة في العبث والمجون والتفلت والتفكيك، إلا أنّ أكثرها تطرّفاً وعبثيّة وسخرية تبقى حركة «الفلوكسوس» التي ما زالت تحتلّ الساحات الفنيّة الغربيّة بما تثيره من إشكالات في علاقتها مع المجتمع والأزمة المتولدة من نظرة الفنان لتلك العلاقة التي تزداد حدّة وغموضاً.

فقد أدّت حركة (التطوّر) الفني إلى أشكال جديدة للتعبير قائمة على علاقة بالتقدّم العلمي والتكنولوجي في ستينيّات القرن الفائت، وقد سُمّيت هذه التيارات بأسماء عدّة: الفنّ البصري والحركي والسبراني والسبرنتيكي... الخ. ولعلّ المنطق الأساسي لهذه التيارات يكمن في محاولة الفنان استثمار المعطيات الحسيّة البصريّة، وفي البحث عن مؤثرات المشهد المصوّر في عين الناظر أو المشاهد وما يولد فيها من إيهامات بصريّة مضللة.

لقد أنتج الفن المعاصر العديد من المدارس والحركات الفنيّة في الستينيّات تبلورت من خلال اتجاهات الفن الشعبي والبصري والمفهومي وفن الحدّ الأدنى «المنيمال آرت» والمساحات اللونيّة والفلوكسوس وفن الشكل والفن الفقير وفن الأرض وفن الجسد والبنى المبرمجة والعديد من الأشكال الفنيّة التي لجأت معظمها لاستخدام الأشياء المصنعة والمواد الطبيعيّة والسريعة التلف، فأصبحت كل الوسائل مباحة حتى جسد الإنسان الذي كان مقدّساً قبل أن يتحوّل إلى حامل فني لبعض الأساليب التي ذهبت بعيداً في تعذيبه ومعاناته (فن الجسد).

لغويّاً، تعني «الفلوكسوس» التغيير أو التدفّق to flow، وهي مأخوذة من مصادر أو مفهوم لاتيني»بانتا ري» Panta rei تختصر فلسفة «هيرقليطس» كما ظهرت في مقتطفات من شعره «النهر».

جاءت هذه الحركة امتداداً للحدوثيّة الأميركية «The Happining» المعروفة بأنشطتها الخارجة عن المألوف التي كان وراءها الفنان الألماني «جوزيف بويز». تألفت من شبكة دولية من الفنانين والملحنين والشعراء والمصمّمين. وهي امتداد للـ«دادائية الجديدة New Dada» ضمّت خليطاً معقداً من الموسيقى والرقص والتصوير والنحت والشعر وتخطيط المدن والعمارة والأدب... كان نشاطهم فوضويّاً، وكانوا راديكاليين بإيحاء من شعراء الدادا وتعاليم المؤلف الموسيقي «جون كيج John Cage»، الذي أعطى دروساً في الموسيقى لمجموعة من فناني الفلوكسوس كالفنان «ديك هيغنز Dick Higgins» الذي يقول إنّ «أفضل شيء حصل لنا في صف كيج كان الإحساس الذي زوّدنا به بأنّ كلّ شيء مُباح» وهو مبدأ من مبادئ فكر ما بعد الحداثة.

الفلوكسوس كالدادائيّة تطمح إلى التحرّر من مختلف انواع الكبت الجسديّ والعقلي والسياسيّ، تعبّر عن الفوضى، وترفض الحواجز المصطنعة بين مختلف الفنون، وبين الفن والحياة.

لا شكّ أنّ للتغييرات الكبرى التي شهدها العالم قد مهّدت لظهور الفلوكسوس كظاهرة غريبة منفردة تحاكي الحركات الفنيّة الحديثة التي شهدها العالم الغربي آنذاك. من هذه التغييرات النموّ الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وموجة الحروب التي شهدها العالم ووصول الإنسان إلى الفضاء الخارجي والتدخل الأميركي العسكري في فيتنام والانتشار السريع للأسلحة النووية وظهور التلفاز كوسيلة لإيصال الصوت والصورة إلى كل المنازل... يُضاف إلى كلّ ذلك بحث الفنانين عن وسائل تعبير جديدة تحاكي هذه التطوّرات والموقف منها الذي جاء بمعظمه رافضاً وساخراً... يقول أحد الفنانين متهكماً إنّ «فنجان القهوة يمكن أن يكون أكثر جمالاً من المنحوتات الفاخرة. ويُمكن لقبلة في الصباح أن تكون أكثر دراميّة من الدراما التي كتبها «فانسي بانتس». وقد تبدو أصوات حذائي المبلل أكثر جمالاً من موسيقى أورغ فاخر...».

كل صوت موسيقي

ابتدع مصطلح «الفلوكسوس» الفنان «ديك هيغنز Dick Higgins» في مقال له عام 1966. وتكمن أصولها في العديد من المفاهيم التي اكتشفها فنان السبرنتيك «جون كيج John Gage» في تجاربه الموسيقيّة التي أثّرت بالفنان الأميركي «جورج ماسيوناس G. Maciunas « (1931- 1978) الذي يُعتبر أوّل ناشط لتيار الفلوكسوس. الفنان «ماسيوناس» مهاجر ليتواني، تلقى تعليماً في تاريخ الفنّ والعمارة والموسيقى. خدم في الجيش الأميركي كمصمّم ماكيتات ونظم عام 1962 تظاهرة الفلوكسوس المعنونة «حفل كلّ موسيقى جديدة». حشد عام 1962 نحو خمسين شخصاً من عشاق الموسيقى في ألمانيا لمشاهدة حفلة موسيقيّة فريدة من نوعها حيث قام العازفون بتحطيم البيانو، الذي هو أداتهم الموسيقيّة. كان الهدف من وراء ذلك التعبير عن موقف رافض للمفاهيم الفنيّة التقليديّة والقول إنّ كلّ صوت هو موسيقى حين يكون على علاقة وطيدة بالأداة المستعملة: مطرقة، منشار... الخ. شجّعت الفلوكسوس على تجاهل علم الجمال، وفضّلت البساطة على التعقيد، على غرار الدادئية التي سبقتها. وقفت ضدّ الفن بالمعنى المتعارف عليه للفن وضدّ تجاره، أي ضدّ كل ما يتعلق بالطرائق المتداولة في عرض الأعمال الفنيّة وبيعها كملكيّة خاصّة محصورة بالمتاحف والمقتنين والنخبويّين المنفصلين عن المجتمع والحياة الشعبيّة. لم ترد هذه الحركة أن تفسّر الفن، بل اعتقدت أنّ على المتلقي أن يفهمه كيفما أراد بعد أن يُخاطب أحاسيسه. أكدت أيضاً على العلاقة الأساسية بين الأشياء والحوادث اليوميّة والفنّ. هي نتاج من الموسيقى التجريبيّة، وهي أيضاً فن جسدي. وهي حركة ضدّ الفنّ بالمعنى المتعارف عليه للفنّ الذي يُعتبر ملكيّة حصريّة للمتاحف وجامعي التحف. هي ضدّ النظام البرجوازي، تؤكد على وجود علاقة أساسيّة بين الأشياء والحوادث اليوميّة والفن. فيها عبثيّة وعشوائيّة. بالنسبة لفناني هذه الحركة «جورج ماسيوناس G. Maciunas»، «جورج بريشت G. Brecht «، «نام جون بيك Nam June Paik» (الذي هو أيضاً من أبرز فناني فن الفيديو)، «روبرت فيليوR. Filiou «، «جوزيف بويزJ. Beuys»، «وولف فوستيل Wolf Vostell» و«بن Ben»، إنّ كلّ تجربة معيشة يُمكن أن تتحوّل إلى لعبة أو سحر. إنّ أفعالاً بسيطة جدّاً ولا متوقعة ومعمّدة، كسكب ماء من وعاء أو تثبيت ملامس البيانو أو تعداد الحضور بصوت عالٍ، هي حفلات مقدّمة كما هي على المسرح من أجل دعوة الجمهور لمعرفة وفهم بأنه «لا توجد لحظة واحدة في الحياة لا تكون موسيقيّة»، كما قال «جورج بريشت». الأعمال غالباً ما تكون علباً لأشياء صغيرة للتداول، موضوعة بمجموعات، الهدف منها أن تكون مفسّرة كأجزاء صغيرة مدوّنة، تقترح بأنّ كلّ واحد يشرع في اللعبة، يُمكنه أن يُصبح فناناً. وهذه الرؤية، أو القول، كان قد سبقهم إليها الفنان الفرنسي «مارسيل دوشامب M. Duchamp»، ومن بعده فنان البوب آرت «آندي وارهول Andy Warhol». وكان الفنان «ماسيوناس» قد أسّس مجلة الفلوكسوس التي تعنى بأفكار الحركة وتطلعاتها، إضافة إلى دار نشر تمثّل رؤية واحدة هي الفلوكسوس.

لا تنغلق هذه الحركة ضمن مفهوم معيّن أو تصوير أو رسم أو مسرح أو أدب أو فيلم أو موسيقى بالرّغم من ولادتها من من رحم روّاد الموسيقى؛ فهي كفنّ الفيديو الذي لا ينغلق ضمن مادّة أو اتجاه معيّن، هي انصهار فنون وعلوم كثيرة. أمّا ما يُميّز الفلوكسوس إنها قليل من كلّ الأشياء التي قمنا بتعدادها. كانت الشكل الأوّل الفني بعد «الدادا Le Dada» التي اجتازت الحواجز بين الناس وعملت على اندماجهم.

بوادر الفلوكسوس مع جون كيج

هو فنان أميركي، مؤلف ومنظّر موسيقي وفيلسوف. صادق «مارسيل دوشامب» وفنان الفيديو الكوري «نام جون بيك». نبعت أفكاره من مخزون الدادائيّة. استخدم عمليات المصادفة لدمج الضجيج والصمت. وصل إلى قناعة بأنّ الفن يجب أن ينسجم مع الطبيعة وعملياتها. رأى أنّ «المصادفة» هي وسيلة تحرير الفنان من التقليد والعادة والذوق والأنا. أستخدم في أعماله الموسيقية الإيقاع والوقت كعناصر إنشائية بدلاً من النغمة المتعارف عليها. دمج أشياء عادية كعلب الصفيح والمكسّرات والمسامير وملاقط الغسيل وغيرها، مع الآلات الموسيقية التقليدية، أوصله الأمر إلى ابتداع البيانو المجهّز الذي يتيح لمقدّم منفرد أداء أصوات فرقة بأكملها. يرى هذا الفنان بأنّ الصمت غير موجود، وقد أشار من خلال تجربة له بأنّ وجوده في قاعة خالية من الصوت لا يزال يسمع شيئاً وهو صوت جهازه العصبيّ ودورته الدمويّة.

من الفنانين الذين تأثروا بأعمال وأفكار «كيج» نذكر الفنان الكوري «نام جون بيك Nam June Paik» الذي يُعتبرُ من أبرز فناني الفلوكسوس و«الفيديو آرت» ونشاطاتها الفوضويّة في بداية ستينيات القرن العشرين في أوروبا وأميركا.

هو مؤلف موسيقي وفنان كوري. وُلد في سيول Séoul عام 1932، أعطى صورة عن بهلوان. تعامل مع الفيديو وفن التجميع L`assemblage مبتكراً ما يُسمّى «الفيديو المنحوتة». درس الموسيقى بين الأعوام 1950- 1956 وتاريخ الفن والفلسفة في ثانوية طوكيو وفي ميونيخ بألمانيا، ثمّ درس التأليف الموسيقي في المدرسة العليا للموسيقى في فريبورغ Fribourg، وصادق الفنان جون كيج. اشتغل الأعوام 1958/ 1963 في استديو «كولوني Cologne» للموسيقى الالكترونيّة، واشترك عام 1962 في مهرجان فلوكسس في إحدى المدن.

يقوم عمله على رصف الشاشات المنتجة للصور والأضواء والأصوات، وذلك بالمئات، مبتكراً رايات فنية جديدة. هو مؤلف أيضاً وممثل لعدد من الأعمال التي تدخل ضمن الحدوثية، ومؤسّس لحركة النيو- دادا فلوكسس Neo- Dada Fluxus. يوصف بأنه بدويّ الفن المعاصر. من أشهر أعماله «البيانو الكامل، أو المتكامل Piano integral» الذي هو نتاج عمل عدّة حفلات أُقيمت بين الأعوام 1958- 1963؛ عمل تجميعي تألف من مجموعة منشور بيض وصور وزجاج وجرس درّاجة وصفارة إنذار ومكنسة كهربائيّة وجهاز راديو، رُكّبت جميعها مع البيانو وتعمل جميعها في وقت واحد، متكاتفة متآزرة، بحيث تصدر فوضى سمعيّة عندما تضغط على الأزرار.

وهناك أيضاً تجربة الفنان «جورج بريشت» أحد تلامذة «كيج» الذي شجّعه على التفتيش عن أساليب جديدة لممارساته الإبداعيّة كتوليد تأليفات موسيقية جديدة عن طريق الأصوات الجاهزة. أسّس عام 1965 مع زميله الإيطالي، العضو في حركة الفلوكسوس، «روبرت فيللو Robert Villo» ورشة عمل دائمة أسمياها «العلامة التي تبتسم». اهتمّ «بريشت» بعامل الصدفة لتحقيق أعماله. من أشهر أعماله «القطرة الحدث» (1962)، عبارة عن مصدر لتنقيط الماء وإناء فارغ ثبّت بحيث تسقط المياه فيه فينتج عن ذلك صوت متكرّر رتيب...

تعدّدت صفات واختصاصات الفنانين؛ فالفنان بنيامين باترسون Benjamin Petterson» كان عازف موسيقى. أما «جورج برشت» فكان كيميائيّاً. «روبرت واتس R. Watts» مهندساً. «يوكو أونو Yoko Ono» باحثة في الأدب والموسيقى. «أليسون نوكليس Alison Knocules» مصوراً. «ديك هيغنز Dick Higgins» موسيقياً وناشراً. «شارلوت مورمان Charlotte Moorman» مساعدة لنام جون بيك الذي كان بدوره عازف كمان. «وولف فوستيل» رسام دعايات. «توماس شميت Tomas Schmit» لم تكن له مهنة تذكر...

النساء والفلوكسوس

تتماهى هذه الحركة مع حركات الشعوب البدائيّة الغارقة في الأساطير والماورائيات. هذه الشعوب التي اتخذها المفكر «كلود ليفي شتراوس C. Levi Strauss» إطاراً لكتاباته وفرضيّاته وأفكاره. وقد لخصت «كوبوتا»، إحدى فنانات الفلوكسوس، ذلك بقولها إنها تريد أن تخلق انصهاراً من الفن والحياة، آسيا وأميركا، الديشومبيّة (نسبة إلى مارسيل دوشامب) وهمجيّة ليفي شتراوس... والفنانة اليابانية «شيجوكو كوبوتاShigeko Kubota» عُرفت بأعمالها الجريئة بعد انتقالها إلى نيويورك وتأثرها بالفنان «جون كيج» أثناء وجوده في اليابان وإقامته عروضاً موسيقية في طوكيو. عملت تحت شعار «العداء للفن»، وقد استخدمت الجنس كموضوع أساسي لأعمالها حيث جسد الأنثى برأيها يُمثل سلعة في وسائل الإعلام. فقد تحوّل جسدها إلى أداة حيث تحوّل «عضوها الأنثوي»، أو «فرجها»، في إحدى عروضها الفلوكسوسيّة إلى فرشاة رسم لتسخر من فناني الفعلانيّة الأميركيّة، أو «التعبيريّة التجريديّة» الذين يأتي على رأسهم «بوللوك» ومن بعده حدوثيّة «إيف كلاين»... دون أن نذكر الفنانة «كارولي شنيمان Carolee Schneemann» التي اشتغلت أيضاً على جسد المرأة لتستحضر جسدها العاري كمادّة فنيّة لإنتاجات غريبة وصور استفزازيّة. من أعمالها «متعة اللحم» و«طقوس جنسيّة» و«انصهار».. وأنتجت أفلاماً حول ممارسة الجنس مع عشيقها الملحّن. وهناك عملها «لفافة داخليّة» (1975) الذي جمعت فيه بين الإثارة الجنسيّة والقضايا السياسيّة. يقوم هذا العمل الإدائي العاري على سحب لفافة من داخل عضوها تحتوي على نصّ شعريّ راحت تقرأه على الحضور. ينتقد النصّ عملية استغلال الرجال للنساء. كانت ردّة فعل الجمهور سلبيّة، كما أعمالها الأخرى، لكنّ تأثيره كان يظهر فيما بعد مع مرور الوقت.

تأثرت «شنيمان» أيضاً بما حصل في العالم من أحداث وحروب ومجازر، فعبّرت عن سخطها وألمها عبر عروض منوّعة تناولت «حرب فيتنام» و«سلسلة من لبنان» وهي إنشائية فيديو تحمل عنوان «ممسحة الحرب» (1983) تناولت فيه الحرب في لبنان والاجتياح الإسرائلي عام 1982 والمجازر ضدّ الفلسطينيّين...

بيان الفلوكسوس

الفلوكسوس مختبر لنشاط فلسفي، وهي إحدى القضايا الأكثر إثارة للاهتمام، نمت مع فكرة الوسائط المتداخلة التي شكلت جذورها. بالرّغم من اعتماها على التكنولوجيا فهي تميل أكثر إلى الاتجاه الفلسفي عبر عملها على إيجاد حلول للمشاكل الفنيّة وتحديد مستوى التعقيد في أيّ عمل مُقدّم، وهو مفارقة تدعو للتوقف والتساؤل حول ماهيتها وإشكالياتها المتعدّدة، ولا سيّما أنّ جماعة الفلوكسوس لا يُمكن تحديد هويّتها أو إعطاء تعريف واضح ومحدّد لها لفهمهم وفهم أفعالهم ومن قام بها «من فعلها؟». هي سلوك وليست حركة أو أسلوب بالشكل المتعارف عليه فنيّاً. لا يمكن تحديدها أو تعريفها لأنّ هذا الشيء ليس مرغوباً فيه من قبل فنانيها، بل ليس أمراً ممكناً. وقد رفض «هيغنز» فكرة أنّ الفلوكسوس مجموعة محدّدة من الأشخاص الذين أتوا معاً في مكان ووقت محدّدين، مشيراً إلى أنها «ليست لحظة في التاريخ، أو حركة فنيّة؛ فالفلوكسوس هي طريقة صنع الأشياء وهي عادات وطريقة في الحياة والموت».

يصف الفنان «جورج بريشت» الفلوكسوس بأنها «مزحة ومتعة وصدمة... وهي سلوك اتجاه الفن، اتجاه اللافن، واتجاه العداء للفن من أجل نفي الأنا عند الفرد... هي خفيفة ولديها حسّ النكتة..». وقال آخر إنّ الفلوكسوس «يجب أن تكون تسلية، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست فلوكسوس. ويجب أن تكون بسيطة، وفنها صغير ونصوصها قصيرة وعروضها وجيزة». حاول الفنان «جورج ماسيوناس» إيجاد معان وتعاريف للكلمة معتمداً على قاموسه فكان بيانه الثلاثي الأجزاء الذي يُجسّد الأفعال التالية (الدعوة):

1- طهّروا العالم من مرض البرجوازية، «الفكريّة»، والثقافة المهنيّة والتجاريّة. طهّروا العالم من الفن الميّت، وفن التقليد، والفن الاصطناعي، والفن التجريدي، والفن الوهمي، والفن الرياضي. طهّروا العالم من «الأوروبيّة».

2- عزّزوا المدّ والجزر الثوري في الفن. عززوا الفن المعيشي. عززوا واقعاً غير فنيّ لتكونوا مفهومين من قبل جميع الناس، وليس من قبل النقاد والهواة والمحترفين فقط.

3- إدمجوا الكوادر من الثوريين المثقفين والاجتماعيين والسياسيين في جبهة واحدة وفعل متحد».

هي إذاً، أفكار راديكالية ثائرة كالتي جاءت بها الدادائيّة لكنها هنا أكثر عبثيّة وجرأة. وما يُلفت النظر في هذه الحركة هو عالميّتها وشمولها فنانين من أنحاء العالم المختلفة، ولم تكن حكراً على الأوروبيين والأميركيين، بل كان فيها الأسود والآسيوي، وأيضاً وجود عدد كبير من النساء بخلاف التيارات العبثيّة الأخرى.

إنّ وجود عدد من الآسيويين في عداد فنانيها يعود إلى تأثرها بفلسفة الزن الياباني التي تقوم على ضرورة أن يكون الفن في خدمة العقل وتحرير البشر من جميع أنواع العبوديّة وعدم الارتباط والنظام ونبذ اللغة واستخدام الشعر والمصادفة، وتعليم الفرد إفراغ عقله من الافتراضات، وهناك أيضاً امتداد ميتافيزقيّتها إلى مفاهيم الذات ونبذ فكرة العبقريّة...

إنّ تأثيرات الزن وفلسفتها ليست جديدة على الفن الغربي، ولم تقتصر على فناني الفلوكسوس، بل يعود الأمر إلى فنانين وشعراء كثر زاروا الزن وتأثروا بأفكاره أمثال الفنان «مارك توبي» و«إيف كلاين» و«مارسيل دوشامب» و«تريستيان تزارا»...الخ.

كثيرة هي أعمال الفلوكسوس أو ما يندرج تحت عنوانها والتي تحاول التعبير عن الانتماء للعصر والموقف منه مستعملة أساليب وصلت إلى حدّ العنف لتقد المجتمع وطروحاته. مهما يكن من أمر هذه الحركة التي توصف بالـ«فنيّة» يُمكن القول إنها حركة هدّامة مدمّرة، وراءها مجموعة من المهرّجين، وقد جاءت نتيجة التحوّل الفكري في مرحلة ما بعد ستينيّات القرن الفائت الذي ميّزت ظهور ما بعد الحداثة وما أنتجته من أفكار تفكيكيّة وجنونيّة أعطت للفن تعريفات لا يُمكننا الإزاحة عنها في حديثنا وتناولنا لتيارات تلك المرحلة التاريخية التي ما زلنا نرزح تحت تأثيراتها وعبثها ومجونها...

>>

* هذه الدراسة ظهرت في صحيفة السفير (السفير الثقافي) نهار الجمعة 11/5/2012

تعليقات: