أقنعة ..

أقنعة ..
أقنعة ..


.. لا أعرف لماذا يتغيّر النّاس وتتبدّل صورهم, وأي قوّة للمال والسلطة تلك التي تنفذ إلى سرائرهم, فتقلبهم من حال إلى حال, وتجعلهم رهائن ما يملكون, وأسرى صفات بها يتجمّلون..

حدثني صديق لي عن عليّ (عليه السلام), حين كنّا نرتشف القهوة المرّة ذات مساء, وما أحلى العودة لعليّ حين تضيع الحقائق, و تكثر الأحاجي, حين يتلبّس الوجه البشريّ أقنعة زيف ورياء ..

قال الصديق : كان عليّ إنساناً بحقّ, وأعظم صور إنسانه تجلّت في فترة حكمه القصيرة, فلقد جسّد بالفعل لا بالقول نظرته للحكم, ورؤيته للسلطة, فكان الحاكم العادل الذي لا يبيت مبطاناً وحوله بطون غرثى وأكباد حرّى, وكان الزاهد بالسلطة, وما هي عنده إلا كورقة في فم جرادة تقضمها, أو كنعلٍ بالٍ لا قيمة له ..

لم يحتجب عليّ سلام الله عليه في قصور مشيّدة, ولا حال الجند والحرّاس بينه وبين النّاس, وإنّما كان سهل الإذن يدخل عليه أهل الحاجات فيستمع شكواهم, ويقضي حوائجهم, يجيب سائلهم, ويغني عائلهم, ويغيث ملهوفهم, وينتصر لمظلومهم, دون منّة أو تثاقل..

يبدأ الكلام عن عليّ ولا ينتهي, ومن تجربته الغنيّة ننتقل إلى تجاربنا الحاضرة, لنتعرّف على وجوه تلبّست أقنعة, ونفوس تلوّثت جبلّتها فعمت عن إدراك حقيقتها ..

"سبحان مغيّر الأحوال", نقولها عندما ننظر في سير بعض من عرفناهم, ممن كانوا يتّسمون بالتواضع والطيبة والتقرّب إلى النّاس, ولكن بعد أن حطّ المال في جيوبهم, أو تقدّمت مفردة ثقيلة أسماءهم, بتنا نشكّ إن كنّا قد رأيناهم, أو سبق لنا أن شربنا كأس الودّ معهم في سالف الأيام ..

يالسطوة الطّقوس أو ما يسمّونه " البرستيج" الذي يحيط به هؤلاء أنفسهم, فبينما كنتَ تتعثّر بهم أيام البساطة على المفارق وفي الطّرقات وفي السّاحات, ولا تكاد تفقدهم في أفراح الناس وأتراحهم, ولم تكن بحاجة إلى إذن مسبق وإجراءات معقّدة لزيارتهم, أو تعاني الملل ليخرج إليك أحدهم بعد طول انتظار..

بعد هذا التواضع كلّه تنقلب الأمور بسحر ساحر, ويصبح فلان بعيد المنال, فلا تجده حيث كنت تملّه, وهيهات تراه متى شئت لقياه, وهو بحكم الصّفة أو وطأة الثروة لم يعد بمستوى الخلق, ولا يناسبه أن يجلس على مقاعد الفقراء كي لا تتغبّر بدلته الأنيقة, كما لا يليق بمركزه أن يشارك بتشييع "فلان" صديق طفولته, وجاره الملاصق في الزاروب القديم مقابل التّرعة الموحلة, التي لطالما لوّنت وجهيهما.

لقد بات صاحبنا محاطاً بأسوار عالية, ولضرورات ما بات لزاماً أن نأخذ موعداً مسبقاً جدّاً لننعم ببركات طلّته البهيّة, وهيهات دون توسّط الشّفعاء أن تحظى برؤيته.

أعجب يا أحبائي من مقارنة بسيطة, فقد تعلّمنا منذ الصغر أن نخاطب الله ربّ البشر دون مواعيد مسبقة, وندعوه في كلّ وقت وآن, وعرفنا أنّ الله لا يحتجب عن خلقه طرفة عين, وقد كنّا وما زلنا نسيء أدب التخاطب معه جلّ شأنه حين نلحّ عليه في قضاء حوائجنا, وإطفاء نيران مشتهياتنا المستعرة, ونيل مطالبنا التي نريدها لا عن جدارة واستحقاق وإنّما عن جرأة ووقاحة ..

ومع كلّ هذا يسعنا لطف الله العظيم, وتحدونا الأناة والرحمة إلى المزيد من التوثّب, وينظر الرحمن بعين المودّة إلينا ويدعونا إلى موائده, ويحفّزنا على طرق أبواب السّماء حيث نشاء !..

أما جبابرة الأرض, أو الآلهة المفوضون كما يظنّون أنفسهم, فحالهم تختلف, فهم أصحاب مقام ورفعة لا يدانيهما مجد وارتفاع, ولا يليق بجلال أعتابهم أن تدنّسها أكفّ الضعفاء ..

لقد تناسى هؤلاء أصل خلقتهم, وربما اتّسع خيالهم إلى درجة ظنّوا معها أنّهم مداميك الأرض وأعمدة السّماء, وأن الوجود مستقرّ بوجودهم, وأنهم أولياء النّعم وأمناء مخازن الخير كلّه, فتنافشوا كالطواويس الغبيّة, وغاب عنهم أنّهم من تراب, وإلى التّراب يعودون ..

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو

Cheikh_kanso@hotmail.com

تعليقات: