رحمةً بعقولنا ..


.. قبل أيام وبمحض الاتّفاق وقعت يدي على نسخة من القرآن الكريم, إلّا أنّها كانت نسخة مختلفة عمّا عرفناه وعهدناه من النّسخ الموجودة عندنا, ليس لأنَّ متن السّور والآيات فيها مختلف عمّا هو موجود في القرآن المحفوظ, بل لأنَّ الهوامش التي تضمّنتها والتقسيمات التي احتوتها أثارت استغرابي واستنكاري في آن معا, ففي هذه النّسخة يتحوّل القرآن الكريم كتاباً للخيرة ويصبح المصحف (مصحف الخيرة ), وعلى صفحاته تذيّل الآيات القرآنية بنتائج محسومة إمّا شرّاً وإمّا خيرا, وبأوامر ونواهٍ (افعل, اترك), ( الخيرة جيدة, الخيرة سيئة) ويبني المؤلّف أحكامه القطعيّة على ما يستوحيه ويفهمه, أو بعبارة أوضح على ما يتخيّله أو يسقطه على الآيات المباركات, وتنسحب استنتاجاته المبرمة تلك على جوانب مهمّة في حياة الفرد, ومحطات رئيسيّة في مسيرته, كأمور الزّواج والتّجارة, ومباشرة بعض الأعمال والمشاريع أو تركها.

ولقد لفت نظري حين قراءة بعض نتائج الخيرة التي يدوّنها المؤلف في مصحفه, التّشابه الشديد من حيث الأسلوب والمضمون بين توقعاته وبين ما تقدّمه لنا الأبراج اليوميّة من حتميّات آنية, أو مبرمات مستقبليّة, جادت بها قريحة المنجّمين والمشعوذين .

وأراني ملزماً بتقديم نموذج توضيحيّ مختصر ليتسنّى لقارئي الاطّلاع أولاً والمقارنة ثانيا:

ـ برج " الثور" : عاطفيّاً: حان الوقت لإنهاء فترة العزوبيّة والتفكير بجدّية بالارتباط بمن تهواه, مهنيّاً: تتلقّى وعوداً عديدة, والنجاح سيكون في متناول يدك .

ـ مصحف الخيرة ( صفحة 55/66 ) الزواج : سترزق صالح الأولاد مع العلم أنّك لا تُصَدِق, ولكن الله تعالى سيساعدك, لا تستصعب الأمور لكي تحظى بهذا الزواج. المعاملة : جيدة بادر إلى هذا العمل بسرعة, ولكن عليك بمراعاة الأمور الجانبيّة, فيها الربح الكثير مع الإتقان.

وطبعا فإنّ النتائج في "مصحف الخيرة" لا تكون على وتيرة واحدة, ففي الصفحة 143 :

المعاملة : سيّئة, فيها الخسارة الكبيرة, لا تفعل, فيها الندامة .

الزواج : سيّء, مع العلم أنك لا تُصَدِق, ولكن فيه طعنة لشرفك, وإهانة لكرامتك وشخصيتك .

وبعد هذه المقارنة البسيطة ـ ومن موقع العدالة ـ لنا أن نطالب صاحب "مصحف الخيرة" بالدليل الذي اعتمده في اسقاطاته تلك, كما طالبنا سابقاً وما زلنا نطالب أصحاب التوقّعات والأبراج بالأدلّة على مدّعياتهم.

ومن منطلق العدالة أيضاً لنا أن نؤاخذ صاحب "مصحف الخيرة" كما نؤاخذ المبصّرين والمنجّمين, لما لأحكامهم واستنتاجاتهم من أثر نفسيّ كبير على بسطاء النّاس الذين يؤمنون بهم ويتّبعونهم, ولما تتركه هذه الأقاويل من خيبة وحزن حين تضيع معها الآمال الجميلة التي حلموا بها, مع ما تخلّفه تلك التوقّعات أيضاً من مخاوف وهواجس تحسّباً للشرور التي بشّروا بها وصاروا يترقبونها كلّ حين .

كما لا بدّ من التنبيه أنّ "مصحف الخيرة" يسقط الأوهام على الناس و يجعل لها سنداً داعما, ومصدراً موثوقاً ألا وهو القرآن الكريم, بحيث أنّ العامّة يأخذونها أخذ المسلمات ويؤمنون بها إيمان اليقينيات .

وهنا تكون المشكلة أكبر, لأنّه من غير الجائز التوهين بالقرآن الكريم الذي هو وحي السماء ودستور البشريّة, وتحويله كتاباً للتبصير, بحجة أنّ الخيرة من السنّة, وتحت مسمّى الخيرة يتمّ تسطيح عقول النّاس وتعطيلها لتتبع توهّمات وافرازات الخيال الواسع .

ثم ألم يكفينا ما يلجأ إليه بعض الدجّالين الذين ينهبون أموال السذّج مدّعين أنّهم يطّلعون على مشاكلهم من خلال القرآن الكريم ( يفتحون القرآن) وأنّهم بمقدورهم حلّ المربوط, وجلب المفقود, وعمل السحر, وتسخير الجنّ, وإرغام الزّوج على حبِّ زوجته, أو العكس من خلال (الكتابة), ألا يكفينا باطل هؤلاء المسترزقين, حتى يعمد البعض الآخر إلى تأطير القرآن العظيم إلى حدّ يجعل منه أداة لتعطيل العقول, وشلّ الإرادات, والتقاعس عن إعمال الفكر, والاكتفاء بإملاءات الخيرة المزعومة ؟!

ولست هنا في وارد التحقيق حول مشروعيّة الخيرة وأدلتّها, وحدود العمل بها والاعتماد عليها, ولا أدّعي الاختصاص بذلك, ولكنّني وباختصار أقول إنّ الروايات الواردة في كتب الأحاديث حول الخيرة موضع أخذ وردّ بين العلماء, وليست من مقطوعات الصّحة سنداً ودلالة, كذلك فإنّ الخيرة على فرض مشروعيتها فهي ليست كاشفة عن الواقع المتيقن, لأنّه في كثير من الأحيان تكون نتيجة الخيرة مخالفة لمجريات الواقع سلباً وإيجابا!.

كذلك فإنّ المورد الذي تصحّ فيه الخيرة هو مورد التحيّر, وعدم قدرة العقل على اتّخاذ قرار, وذلك بسبب تساوي الاحتمالات, كما لو فكّر شخص بشراء قطعة أرض أو الإقدام على عمل ما, وبعد إعمال العقل, واستشارة أهل الرأي, والتأمّل الكثير, وقع في حيرة شديدة بحيث لم يستطع معها أن يرجّح جانباً على آخر, فهنا يتوّكل على الله تعالى, ويعتمد الخيرة كمخرج له من هذه الحيرة, ويرجو من الله التوفيق على قاعدة الدعاء, وليس على سبيل استكشاف الغيب !..

إلّا أنّ الملاحظ في مجتمعنا أنّ هناك الكثير من المصابين بهووس الخيرة, حتى تحوّلت عندهم إلى حالة مرضيّة, ووسواس قهريّ ملّح, فترى البعض يعمد إلى الخيرة لتحديد نوعيّة الطعام التي يريد أن يأكله, أو نوعيّة اللّباس الذي يريد أن يلبسه, أو حتى مضمون الكلام الذي يريد أن يتفوّه به !.

وبالعودة إلى القرآن الكريم الذي نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى دليلاً ومرشداً, وهادياً وناصحاً, ودواء لأدوائنا, وسبيلاً إلى وعينا وقوّتنا, ووحدتنا كمسلمين, كما نحتاجه نظاماً يحكم واقعنا, وقانوناً ينظّم حياتنا, في هذا الوقت الدقيق يعمد البعض ولو عن غير قصد إلى إيجاد هوّة شاسعة بين القرآن الكريم وبيننا, وتظهير القرآن الكريم بمظهر سطحيّ لا يلبي طموحاتنا, وليس هذا الفعل إلّا استخفاف, نرجو فاعله الرّحمة بنا وبعقولنا ..

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو Cheikh_kanso@hotmail.com

تعليقات: