معا ً الى الأبد - قصة مشوّقة

معا ً الى الأبد
معا ً الى الأبد


صلاح قادم من عالم الى عالم آخر مختلف عن عالمه الذي عاش فيه.

صلاح هذا الشاب الفقير الطموح، دخل الى احدى الجامعات التي يصعب على أمثاله الدخول اليها نظرا ً لكلفتها العالية ومصاريفها الباهضة. وكان السبب في وصوله الى هذه الجامعة تفوّقه في احدى المدارس الحكومية، الأمر الذي خوّله الحصول على منحة دراسية، وهو الفقير ماديا ً، الغني في أخلاقه ، وطموحه في الوصول الى ما يحب أن يصل اليه.

صلاح كان يأتي الى الجامعة بواسطة سيارة أجرة، بينما كان الآخرون كل ّ يأتي بسيارته الفاخرة الغالية الثمن. صلاح لم يكن يعر هذا أي اهتمام أو أي نوع من انواع الغيرة أو الحسد. كان كل همّه أن يكمل دراسته الجامعية وأن يكون من المتفوقين الأوائل، لأنّ هذا شرطا ً أساسيا ً كي يستمر في دراسته المجانية ويبقى مشمولا ً بالمنحة الدراسية، وعليه أن يستمر بتفوّقه والا ّ لما استطاع أن يكمل دراسته الجامعية. وكان له ما أراد بالرغم من بصمة الفقر الواضحة على ملابسه وحذاءه المتواضع.

لم يكن أحد يحسد صلاح على فقره، لكن كان الجميع يحسدوه على تقدّمه عليهم بكل الإمتحانات، وتقدّمه بكل المواد عكس الآخرين الذي كان كل همّهم متى يخرجون من الصف حتى يذهب كل منهم مع صديقته الى أماكن لا يستطيع صلاح أن يذهب اليها. ولعب القدر دورا ً مهما ً لصالح صلاح، إذ أنّ إحدى الطالبات في الصف كان مقعدها يلامس مقعده، وكانت هذه الطالبة من احدى دول الخليج العربي، تنحدر من عائلة راقية وثرية جدا .ً هذه الفتاة أعجبت بطموحه وذكائه، فحاولت أن تتعرف عليه وعلى أسرته وعلى وضعه المادي والاجتماعي وعن مكان سكنه،لكنّها حتى الآن لم تجري معه أي حديث في هذا الشأن، لكنّها كانت تنظر اليه باعجاب شديد واتّخذت قرارا ً في أن تقابله وتجلس معه لتعرف ولو الشيء القليل عن وضعه العائلي. أرادت أن تعرف كم أخ وأخت لديه ، أين يسكن، ماذا يعمل والده، وكيف هي أمه والى ما هنالك من أمور عائلية.

وفي احدى ساعات الفراغ كان الجميع يدخلون الى الكافتيريا التي كانت في حرم الجامعة، منهم من طلب البوظة وآخر طلب علبة سجائر وآخر نوع من الشكولا الفاخرة، لكن صلاح كان يجلس في مكان آخر على مقعد تحت شجرة ضخمة من الصفصاف يستفيء بفيها ةبيده كتابه الذي كان صديقه، وكان هذا الكتاب يعني له كل شيء فهو من سيقرر له مصيره، ولم يكن يهمه ما يفعل الآخرون. وبينما كان يقرأ اقتربت منه تلك الطالبة وجلست بجانبه من غير اذن منه ...

...

...وجلست بجانبه من غير اذن منه وبادلته بالتحية: "صباح الخير يا". ردّ عليها أنا اسمي صلاح أهلا ً بك تفضلي اجلسي. جلست الى جانبه ومن دون أي تردد عرّفت عن نفسها، أنا اسمي ليال لكنّي لست من بلدكم، هل تسمح لي بالحديث معك؟

صلاح: لا مانع عندي فلك ما تريدين.

ليال: من اين أنت، وأين تسكن؟

صلاح: أنا من كل لبنان، فأبي جنوبي وأمي شمالية وجدتي من البقاع، لكننا نسكن في بيروت من أجل لقمة العيش فأبي يعمل هنا .

ليال: وماذا يعمل والدك؟

صلاح: إنّه عامل بناء.

ليال: كم دخله الشهري؟

صلاح: ليس بالشيء الكثير، لكنّنا نعيش حياة كريمة بعيدة عن طيش الأغنياء ومطاعمهم الفاخرة وسهراتهم المكلفة. أنا لا يهمني كيف يعيش الناس أن هنا كي أكمل دراستي الجامعية بدرجة تفوّق، وأنا وصلت الى هذا المكان بمنحة دراسية، ولم آتي الى هنا من أجل أي شيء آخر، وليس لي أي علاقة بالآخرين. فهذا من يملك سيارة فاخرة وله صديقة، وآخر من هو ابن وزير أو نائب أو تاجر، كل هذا لا يشغل بالي ، فكل هذه الأمور ثانوية بالنسبة لي.

ليال: لكن الحياة بالنسبة لك صعبة، لا بل قاسية. وهل باستطاعتك مواجهة هذه الحياة بامكانياتك المتواضعة؟

صلاح: قلت لك لا تهمني هذه المظاهر، ولا أنظر لأحد منهم نظرة غيرة أو حسد.

ليال: لكنّني لم أرَك طيلة أيام فصلك الدراسي تغيّر لباسك أو حذاءك ولم تأتي حتى في أيام المناسبات مع ربطة عنق كما الآخرين.

صلاح: عزيزتي ليال، قلت لك أنا هنا لهدف واحد هو أن أكمل تحصيلي الدراسي ولا من أجل أي شيء آخر.

وبعد ساعة من الوقت عاد كل منهم الى صفه الدراسي. وبعد مضي بعض الوقت، خرج الجميع من القاعة مستقلين سياراتهم الفخمة للإنصراف من الجامعة،بما فيهم ليال. لكن صلاح وكعادته كان ينتظر على الرصيف أي سيارة أجرة تقلّه الى منزله، لكن هذا اليوم لم يكن كبقية الأيام، فبينما كان يتنظر، واذ بليال تفاجئه بسيارتها الفخمة وتطلب منه اللصعود معها لتوصله الى منزله. فبصوت لا يخلو من الخجل والكبرياء قالت له، صلاح تفضل اصعد معي وأنا سأوصلك أينما تريد.

صلاح: شكرا ً، شكرا ً.

ليال: لو سمحت تفضل اصعد ولا أقبل منك أي عذر.

صلاح: أعتذر منك لكنّني أسكن في مكان ليس لأمثالك ان تدخل اليه أبدا ً، فأنا اسكن في حي ضيّق جدا ً ولا يمكنك الدخول عليه ما دمت لست من أهله.

ليال: أنا مصرة أن آخذك معي الى حيث تسكن، فأنا متشوقة أكثر لرؤية هذا الحي والتعرف على أهلك.

صلاح:وبنبرة حادة، أنا أرفض دعوتك هذه وأرجوك دعيني شأني...

...

...وبعد رفضه القاطع من الذهاب معها تقول ليال لصلاح:

صلاح أنا مصرّة على ذلك. ونزلت من السيارة وفتحت له الباب، ادخل من فضلك.

لكن صلاح تمسك بموقفه الرافض وقال لها ربما في وقت آخر. وابتعد عنها وأوقف أول سيارة أجرة وصعد بها وغادر. لكن ليال لم تستسلم لعناد صلاح ومشت خلف السيارة التي تقلّه من غير أن يلحظها فوصلت الى الشارع الذي يسكن فيه وعرفت أين يقع منزله.

وفي صبيحة اليوم الثاني وكعادته، خرج صلاح من منزله الى الشارع وقد فوجئ عندما شاهد ليال بسيارتها تنتظره أمام منزله مرحّبة به، صباح الخير يا صلاح. أهلاً ليال ، لكن كيف وصلت الى هنا؟ وكيف عرفت مكان سكني؟ لم تجبه. أنا ذاهبة الى الجامعة تفضل اصعد معي، فحاول أن يعتذر هذه المرّة، لكن هذه المرّة لم تكن كما كانت في الأمس، بل أخذته من يده وأدخلته عنوة الى السيارة، وخرجت به في شوارع وزواريب ضيّقة حتى وصلت الى الشارع الرئيسي وراحت تحدّثه عن بلدها وكم هي جميلة، وعن قصر والدها وعن جميع أفراد عائلتها. كل هذا وصلاح لم ينطق باي كلمة ونظرت اليه قائلة: لماذا هذا الصمت تكلم ، قل أيّ شيء. وهنا بادرها صلاح : شكرا ً على مجيئك وعذرا ً على ما عانيته في هذه الرحلة حتى وصلت الى منزلي، أرجو أن لا يتكرر هذا ثانية، فأنا لا أريد أن أكون السبب في ازعاجك ولا تفعلي هذا مرّة أخرى.

ليال: صلاح أرجو منك أن تفهم جيدا ً أنا لا يهمني إن تعبت أو انزعجت، المهم عندي راحتك وأن لا تقف على الطريق لتجد سيارة أجرة لتصل بها الى الجامعة.

صلاح: هذه الوقفة على الطريق لا تزعجني وبالنسبة لي أمر عادي.

ليال: هذا بالنسبة لك لكن بالنسبة لي ليس بالشيء العادي فأنا سوف أمرّ عليك لأقلك يوميا ً الى الجامعة ومن دون أي اعتراض.

شعر صلاح بالإحراج من تصرف ليال ، وهو يحاكي نفسه يقول، أنا قد لا أوافق عل مثل هذا الطلب حتى لو أدى بي هذا الى عدم تكملة العام الدراسي. ونظر اليها ودموع الكبرياء تملأ عينيه وقال لها : أرجوك أنا لا أريد أن يكون لي أي علاقات خارجة عن نطاق الدرس والجامعة.

ليال: صلاح لا تكن مجنونا ً، فكّر جيدا ، فأنا لا يمكن أن أبتعد عنك بعد اليوم فقد أصبحت لي كل شيء.

يقاطعها صلاح قائلا ً: ليال أرجوك لا تكملي...

...

ليال: أرجوك دعني أكمل كلامي. صلاح، أنا أحبك. أفهمت حقيقة أمري واصراري على أن أكون الى جانبك دائما ً؟

صلاح: ليال، ما هذا الذي أسمعه منك، نحن مختلفين وكل منا آتي من عالم مختلف عن الاخر. أرجوك لا تكرري ما قلته مرة أخرى والا قد لا تشاهديني بعد اليوم حتى لو اضطررت أن أترك الجامعة أو أن أغير مكان سكني. ممكن لنا أن نكون صديقين ليس الا ّ، عدا ذلك قد لا يصب في مصلحتك أو في مصلحتي، فأرجوك أن تخرجي هذه الأوهام من عقلك وتخرجيني من قلبك كحبيب ولكن كصديق فأنا يشرفني أن أكون صديق فتاة خلوق ومحترمة مثلك.

ليال: لابأس يا صلاح، أصدقاء فليكن ذلك ولما لا. ومن ثم تحاكي نفسها قائلة، ما دمت سأكون الى جانبه في أي وقت أريد فهذا سيشعرني باالسعادة وأنا متأكدة أن الأيام سوف تغير أحاسيسه هذه ومفهومه للحياة والفوارق الإجتماعية التي يخشاها. ولا بد أن يأتي يوم ويبادلني الحب بالحب والشوق بالشوق.

وتمر الأيام وتنتهي السنة الدراسية الأخيرة، وينجح صلاح وليال في اختصاص الطب وكالهما يتفوقان في دراستهما ويتخرجان بدرجة جيد. ولأول مرة يتبادلان القبل بمناسبة هذه الفرحة التي غمرت قلوبهما بهذا التفوق وهذا النجاح المشرف لكليهما. وخرجا سوية الى أحد فنادق بيروت الضخمة، وصعدا الى الطابق العلوي من الفندق حيث يمتزج جمال البحر بشموخ الجبال في لوحة غاية في الجمال والروعة. منظر شاعري يخطف القلوب والأنظار.

ليال: هل يعجبك هذا المنظر؟

صلاح نعم يعجبني كثيرا ً انه رائع .

وكان صلاح مرتبك وكأنه في حلم لأنه لم يعتد مشاهدة ذلك الجمال من قبل سواء أكان من الخارج أو من داخل الفندق الذي نزل فيه. فأخذ ينظر تارة من النافذة ليستمتع بجمال الطبيعة الخلابة وطورا ً بفخامة الفندق وتنظيمه واللامتناهي. وفي تلك الأثناء كانت ليال تراقب كل تحركات صلاح ومدى دهشته واعجابه بهذا المكان سائلة اياه: هل أنت سعيد يا صلاح؟

صلاح: أجل، فأنا لم أكن أحلم أن أصل الى هكذا مكان وحتى لو بالأحلام.

ليال: سوف ترى مثل هذا المكان وأجمل منه أيضا ً، أعدك أن تبقى حياتك دائما ً جميلة وأن تكون أسعد رجل على وجه هذه الأرض.

ومرت ساعات لم تكن سوى ثوان على ليال، وكيف لا وهي بجانب أعز من دخل الى قلبها وحياتها. وخرجا معا ً من الفندق وأخذا يتجولان في شوارع بيروت يتبادلان الأحاديث وفي عيني ليال بريق من الأمل الذي لطالما انتظرته وهو مبادلة صلاح لها نفس مشاعر الحب التي تكنّها له. وصعدا بعدها الى الجبل حيث يحلو الحب والغزل..

...

...وفي احدى مطاعم الجبل، بين الشجر والماء المتدفق من أحد الينابيع، حيث الأنوار الخافتة والطبيعة الساحرة ونسيم الصيف العليل ، أمسك صلاح يدي ليال وبشيء من الخجل والإرتباك نظر اليها وبصوت مرتجف قال لها: ليال أنا أحبك، لا بل أنا متيم بك. وهنا كانت أجمل لحظة في حياة ليال وأجمل كلمة تسمعها، هذه الكلمة التي انتظرتها لسنوات طوال. لكن هذه الجلسة كانت بمناسبة وداع صلاح لليال وعودتها الى بلدها الأم.

كيف سيكون الوداع؟ لقد كان صعبا ً وحزينا ًمملوء بالدموع والعناق، وبصوت مليء بالألم قال صلاح لليال: ةسوف أهاتفك دائما ً وسأبقى أفكر بك الى أن أراك مرة أخرى. وانفكت أياديهم بعضها عن بعض ودخلت ليال صالة المسافرين ونظرت الى صلاح من خلف الزجاج والدمع يملأ عينيها . وفي هذه اللحظة أحس صلاح وكأنه وحيدا ً في هذا العالم، وبدون أن يدري أنهمر الدمع من عينيه عندما ابتعدت ليال الى الطئرة وهي على وشك الإقلاع. لحظات قليلة وحلّقت الطائرة في السماء فوق مياه البحر وعيني صلاح تسمرت نحو الطائرة حتى اختفت عن أنظاره. وها هي ليال والطائرة أصبحا خلف الأفق البعيد.

وجلس صلاح على أحد المقاعد في صالة المطاروطلب فنجان من القهوة علّه يطفئ تلك النار التي اشتعلت في قلبه وعقله. وبعد ذلك كان لا بد له من العودة الى البيت ليرتاح قليلا ً من ألم الفراق وعذابه. خرج الى الشارع وكعادته استقل أول سيارة أجرة تمر بجانبه لتوصله الى منزله، وعندما وصل رمى بنفسه المتهالكة على سريره وأغمض عينيه وعادت به ذاكرته لتضع أمامه كل المشاهد التي مرّت عليه مع ليال منذ اليوم الأول التي جلست فيه الى جانبه مرورا ً بكل الأحداث، حتى ركوب الطائرة. وعاد الى رشده بعض الشيء ليرى نفسه أمام واقع أقوى منه ، وهنا كان القرار الصعب الذي يجب أن يتخذه. فبعد تفكير عميق وجديّ قرر أن يبتعد عن ليال مهما تكن النتائج، لأنه كان يخاف أن يفصل بينهم ذاك الوحش المادي والطبقي، ولا يمكن له أن يتجاوز ذاك الواقع فهو ليس كما هي سواء من الناحية المادية أو العائلية.

وقد وصلت ليال الى بلدها ومنزلها وها هو صلاح ينتظر بلهفة سماع صوتها والإطمئنان عليه قبل أن يخبرها بقراره. وإذ بالهاتف يرن وها هي ليال تتصل به من الخارج.

ليال: (وبصوت لا يخلو من الحرقة والشوق) صلاح هذه أنا ليال لقد وصلت الآن لم يمر على وصولي سوى بضع دقائق.

صلاح: أهلا ً ليال الحمدلله على وصولك بالسلامة.

ليال: حسنا ً صلاح أنا سأتصل بك لاحقا ً ولكن أنت لا تتصل لأنني لا أريد لأحد من عائلتي أن يدري بعلاقتنا. أنا سأتصل بك كلما سنحت لي الظروف. وأقفلت الهاتف.

...

ولم تمض ِ سوى أيام قلائل، وإذ بجرس الهاتف يرن ولم يكن صلاح ينتظر أحد سوى ليال، وها هي الآن على الهاتف. وطال الحديث فيما بينهم وكل يحدث الآخر عن شعوره وشوقه الى لقاء يجمعهم قريبا ً جدا. واستمرت الإتصالات وتعمق الحب أكثر فأكثر وزاد الشوق والحنين كل الى الآخر. لكن صلاح عاد قليلا ً الى الوراء وتذكر عندما طلبت منه ليال أن لا يتصل بها أبدا ً وأنه فقط يستطيع أن يتلقى منها أي اتصال أو رسالة وهو لا يستطيع أن يبادلها بالمثل. وهن أدرك أن هذا الوحش المادي والطبقي قد بدأ يفترس أحلامه وحبه الذي كان أكبر من واقعه المرير. فما كان منه الا ّ أن أمسك الهاتف ورمى به في مكب النفايات وانقطع التواصل بينهم ولم يعد يعرف عن ليال أي شيء ، هذه الفتاة الذي أحبها الى حد الجنون، ولا عن بلدها أو حتى رقم هاتفها.

أما ليال لم تنقطع عن الإتصال به، لكن عبثا ً لم تعد تعرف عنه أي شيء. وتمر أيام وشهور وليال لم تستسلم وكل يوم تحاول عشرات المرات الإتصال به ولو كان من باب الخيال أن تلقى منه أي جواب. وعندما استسلمت لواقع لم تكن تريده أن يحصل فكرت بالسفر على أول طائرة قادمة الى بيروت وهكذا فعلت. فكانت من لهفتها أول الخارجين من الطائرة وسارعت في الخروج الى الشارع لتستقل أول سيارة أجرة توصلها الى منزل صلاح علّها تعرف سبب ابتعاده المفاجئ عنها. وعندما وصلت الى منزل صلاح فوجئت بأن المنزل قد أُزيل بسبب شق شارع مكان البناية التي يقطن بها صلاح. وعبثا ً حاولت أن تتصل به من خلال أصحابه بالحي الذي كان يسكن فيه فلا أحد يعرف عنه أو عن عائلته أي شيء، وسألت عنه في كل مكان لكن من دون جدوى لا أحد يعرف عنه شيء.

واستسلمت لواقع ليس من السهل أن تتقبله، وعاد بها الحنين الى أيام الدراسة، فذهبت الى الجامعة مهد حبها الأول، واتجهت الى الحديقة حيث المقعد الذي الذي جمعها ولأول مرة بحبيبها صلاح. وعادت الى ذلك الماضي الذي لا يمكن أن تنساه والى كل ما فيه من ذكريات، وجلست على ذلك المقعد لساعات طويلة حتى المغيب، لتنتقل بعدها الى الفندق الذي جمعهم لأول مرة في ذلك اللقاء الذي لا يمكن أن تمحوه الأيام. وباليوم الثاني اتجهت نحو الجبل ذلك المكان الذي اعترف فيه صلاح لليال بحبه لها حيث أكملا سوية ليلة لن تنساها طوال حياتها. فجلست على نفس الطولة التي جمعتهما، وهي ضائعة تائهة لا تدري ماذا تفعل. وقد مضى على وصولها الى بيروت عدة أسابيع ولم تستطع أن تعرف عن صلاح أي شيء. وهي مكسورة الجناح، خائبة الأمل عادت الى بلدها تاركة قلبها حيث كان حبها الأول لتعيش ذكريات ماض لا يمكن أن تنساه...

...

أما صلاح فقد استطاع أن يحصل على فرصة عمل في احدى دول الخليج كونه طبيب والتحق بعمله في احدى المستشفيات. بداية لم يكن يعرف أي شيء عن هذا البلد من قبل ومرّت شهور على وجوده في هذا العمل .صلاح لم يكن يعلم أن البلد الذي يعمل فيه هو بلد ليال ومن محاسن الصدف ولو كانت هذه الصدفة تحمل الكثير من المآسي وكانت مشيئة القدر أن تصطدم ليال بأحد أعمدة النوروتصاب بجرح بليغ تم نقلها الى المستشفى التي يعمل بها صلاح وفي ساعة متأخرة من الليل يرن جرس الهاتف من احدى الممرضات دكتور صلاح يرجى حضورك حالا ً هناك مريضة بحالة حرجة. ولم تمر سوى دقائق حتى كان صلاح داخل المستشفى واتجه مباشرة الى حيث توجد المريضة وما أن اقترب منها حتى شهق وكاد أن يرتمي أرضا ،ً لم يتمالك أعصابه عندما شاهد أن من يرقد على هذا السرير هي الإنسانة التي أحبته وأحبها، لم تكن سوى ليال. أجل ليال وهي في حالة اللاوعي، وما هي الا لحظات قليلة ويعود صلاح الى رشده وأدخلها فورا ً الى غرفة العمليات و أجريت لها عملية وأعيدت الى سريرها .

وفي صباح اليوم الثاني تعود ليال الى وعيها ، وعندما استفاقت وجدت نفسها على سرير داخل المستشفى، لم تكن تعلم ما حصل لها لكن كل ما عرفته من الممرضة أنها وأثناء قيادتها لسيارتها اصطدمت باحدى أعمدة الكهرباء،هذا كل ما عرفته عن سبب وجودها في هذا المكان ، وسألت عن الطبيب الذي أجرى لها العملية، فأجابتها الممرضة اسمه صلاح. وهنا أرتعش كل جسدها وأصيبت بحالة من الذهول وصرخت بأعلى صوتها ما هذا الذي أسمعه، وعاودت السؤال الى الممرضة، تقولين اسمه صلاح؟ فأجابتها الممرضة أجل يا أنسة. وهنا بدأت ليال تسأل نفسها هل يعقل أن يكون هذا الطبيب هو صلاح نفسه الذي أحبته وأن حلمها في رؤيته مرة أخرى في طريقه الى التحقق، أم أنه تشابه أسماء ليس الا ّ؟

ولم تمر سوى دقائق على هذا الحوار، وليال في حال ذهول وترقب ، واذ بالباب يفتح، وها هو صلاح وجها ً لوجه مع ليال التي لم تستطع أن تخفي فرحتها عندما شاهدته ولم تستطع أن تحبس دموعها التي انهمرت على خديها وانفجرت باكية وصرخت بأعلى صوتها وكأن شيئا ً من الجنون قد أصابها مخاطبة صلاح: صلاح، ماذا فعلت بي؟ وحاولت النزول من سريرها لكن وضعها الصحي لم يسمح لها بهذا، فمدت يدها المرتعشة كي تمسك بيده فاقترب صلاح وأمسك بيدها وجلس بقربها على السريرالتي تنام عليه.

ليال: أهذا أنت يا صلاح الذي أشاهده أم أنا في حلم ، تكلم يا صلاح.

لكن صلاح التزم الصمت وهو في حالة من الذهول ينظر اليها، وأيضا ً هو الآخر كان يشك في حقيقة هذا المشهد ويعتقد أن ما يراه هو فقط خيال العاشقين.

ليال: لماذا فعلت بي هذا يا صلاح؟ لماذا أردت قتلي وأنا التي أحببتك أكثر من أي أحد في هذا الكون؟ لماذا كنت قاسيا ً الى هذا الحد؟ هل تعلم ماذا حصل لي عندما انقطعت أخبارك عني؟ أنت لا تعرف حجم حبي لك وشوقي لأول لقاء جمعني بك في حديقة الجامعة تحت شجرة الصفصاف في بلدكم الحبيب لبنان، هذا البلد الذ أحببته أكثر من بلدي لأنك أنت منه، لماذا يا صلاح لماذا؟

لكن صلاح وبصوت خافت لا يخلو من الألم والخجل قال لليال: كان موقفي وتصرفي هذا نابع من حقيقة اسمها الفارق الإجتماعي والمادي الذي كان دائما ً الحاجز بيني وبينك،هو ذلك الوحش الذي لا يعترف بالحب والذي يميز دائما ً بين من هم أصحاب شأن وجاه ومال وبين من هم عاديو الحال مثل حالي، فأردت لحبنا أن يبقى ذكرى جميلة أفضل من أن يزول جراء مشاكل مادية وعائلية، فأنا أدري أنك ستواجهين مشاكل مع عائلتك بسببي وأنا لا أريد لك هذا.

ليال: لا يا صلاح، إن هذا الوحش المادي الذي تخشاه سوف نقتله بحبنا ونقتل معه أي مشاكل ممكن أن تأثر على هذا الحب الصادق والقوي الذي بيننا ونعود الى أصالتنا الإنسانية، فلا أحد يستطيع أن يبعدني عنك ولو اجتمعت كل الوحوش المادية والطبقية لن تنال من حبنا. وعندما أخرج من هنا وتعود لي عافيتي ، سوف تكون يا صلاح من أول الزائرين الى بيتنا، وسوف تتعرف أكثر فأكثر على عائلتي وسوف تكون من أكثر المرحبين بهم، كن واثق من هذا. واذا لم تستطع أن تنسجم مع عاداتي وتقاليدي الأسرية والاجتماعية، عند ذلك أنا سوف أنزل الى عالمك المتواضع ، كما أحب أن أذكرك بأنك طبيب وأنت دخلت الى المجتمع من بابه الواسع، وعليك ان تنسى هذا الفارق الذي كان يفصلني عنك قبل بضع سنوات عندما كانت هذه بداية معرفتي بك. أما الآن وقد أصبحت جزء مني ومن حياتي ومستقبلي، صلاح لا يمكن لأحد أن يبعدك عني أو يبعدني عنك، وحبنا لن تقتله أي ظروف، ونحن لبعض يا صلاح وسوف نبعى معا ً الى الأبد.

النهاية

تعليقات: