صيدا الوفيّة لتاريخها قاومت على طريقتها

نازح من أبناء الشهابية في حديقة صيدا<br>(أرشيف ــ رويترز ــ علي حشيشو)
نازح من أبناء الشهابية في حديقة صيدا
(أرشيف ــ رويترز ــ علي حشيشو)


أدّت صيدا أم الجنوب وعاصمته دوراً متميزاً خلال فترة الحرب الإسرائيلية. وخلافاً للاعتقاد السائد بأن وظيفة المدينة اقتصرت على توفير مقوّمات الصمود للنازحين من المدن، كانت شريكاً فاعلاً في المواجهة. تشهد على ذلك الكمائن الليلية التي جهّزها مئات المقاتلين متوزعين في مجموعات لمواجهة إنزالات محتملة قد تقوم بها إسرائيل. وتحوّلت المدينة إلى خط إمداد يرفد المقاومين ببعض المتطلبات اللوجستية وفرته «عيون أمنية» سهّلت أيضاً إقامة آمنة لقيادات وكوادر في «حزب الله»

ما هي إلا دقائق معدودة تلت بيان «المقاومة الإسلامية» الذي أعلن خبر أسر جنديين صهيونيين في عملية نوعية للمقاومة، حتى تجمع عشرات الشبان الصيداويين في ساحة النجمة وسط مدينة صيدا مطلقين سيلاً من المفرقعات ابتهاجاً وموزعين الحلوى، هاتفين «هلق وقتك يا سمير...». وقال البعض إن الاحتفالية الصيداوية بعملية الأسر سبقت احتفالية الضاحية وبعض مناطق الجنوب.

هذا الواقع ليس جديداً على مدينة صيدا ودورها التاريخي في المقاومة. مدينة تأبى إلا أن تكون في قلب الصراع لا على هامشه، وخصوصاً إذا كان مرتبطاً بالقضية الفلسطينية والصراع العربي ـــــ الصهيوني، وهي التي قاد شهيدها معروف سعد بعضاً من رجالها عامي 1936 و1948 إلى هضاب فلسطين لقتال المحتلين.

«هنا نكون أم الصبي ونقطة على السطر»، يقول القيادي في التنظيم الشعبي الناصري محمد كرجيه. بينما يرفض الصيداوي نبيل المكاوي «أبو حبيب» كلمة «تضامن» مع أهل الجنوب في معرض الحديث عن ذكريات عدوان العام الماضي ودور المدينة، إذ «هل باستطاعة الإنسان أن يتضامن مع ذاته؟ هناك آخر قد يتضامن معنا»، مستخدماً كلمة «نحن واحد، شركاء في المواجهة والانتصار».

ولعل ما يقوله المكاوي، وهو صاحب استديو بقي مفتوحاً طوال فترة الحرب لتوفير الخدمات للعديد من الإعلاميين الذاهبين الى خطوط النار، يعكس دور المدينة الذي كان أبعد من مجرد عمل «جمعية خيرية إنسانية» تهتم بإيواء النازحين أو الوافدين (كما شاعت التسمية) من الجنوب وتوفّر لهم المساعدات وفرص إقامة. فإلى أهمية هذا الموضوع، أدت المدينة دوراً مقاوماً بامتياز، من خلال تشكيلها قاعدة خلفية ولوجستية تحمي ظهر المقاومة وتمدّها بالمطلوب لوجستياً وتحتضن مقاومين، فضلاً عن الانخراط المباشر في العمل المقاوم الذي تجسّد في تشكيل مجموعات مقاتلة بالتنسيق بين ثالوث الجيش اللبناني وحزب الله وفصائل المقاومة الوطنية في المدينة (التنظم الشعبي الناصري والحزب الديموقراطي الشعبي ومجموعات إسلامية).

ووضعت هذه الأحزاب الوطنية خطة مواجهة أُوكل أمرها إلى النائب أسامة سعد وتضمنت في ما تضمنته نصب كمائن ولا سيما خلال الليل حيث كان ينتشر المقاتلون على طول الشاطىء الصيداوي تحسباً لأي عملية إنزال وهو احتمال كان يرتفع منسوبه مع الإخفاقات الجدّية للجيش الإسرائيلي في أرض المواجهة.

في المدينة كان بخور المقاومة وطيفها حاضراً وإن لم يختبر شبابها المقاوم، ممن لقّموا بنادقهم، القتال، لكنهم كانوا «حاضرين ناضرين» وبثياب الميدان. «العدو لم يمنحنا هذه المرة شرف تجديد مقاومتنا له»، يقول صلاح ش. الذي كان واحداً من المقاومين الذين خاضوا مواجهات مع الاحتلال في الفترة بين 1982 ـــــ 1991 في إطار «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، ومقاوماً ضد العملاء على جبهة كفرفالوس ـــــ عين المير: «كان حزب الله يردّ على طلب قيادتنا السياسية ورغبتها في إرسال مقاتلين إلى الجبهات بالقول «عن جد نحن مرتاحون... عندنا زيادة في عدد المقاومين، الوضع ممتاز ولا تقلقوا، وما بدو مين يقول لنا عن شباب صيدا».

ويفاخر كثيرون ممن كلفوا بمهمات تنسيقية مع قيادة المقاومة، بأن حجم الاختراق الأمني المعادي للمدينة كان محدوداً والعيون الأمنية التي زرعت للمراقبة ورصد حركة «العملاء المفترضين» ولتوفير حركة تنقل آمنة ولحماية مراكز النازحين من أي خروقات، أدّت دورها بفعالية ما أتاح عدم انكشاف الوضع على نطاق واسع. فكثير من المسائل الميدانية بقيت خارج «أنظار العدو» الذي لم يتوانَ عن استهداف أوضاع وأهداف أقلّ أهمية منها في أماكن أخرى.

وبموازاة «المقاومة الصيداوية» التي لم تمتحن، توزّعت في المدينة مقاومات أخرى. فقد بدأت أطراف صيداوية لها امتدادها التاريخي تعدّ العدة بعد الأسبوع الأول من العدوان وتضع خطط طوارىء «إعاشية وصحية» لصمود طويل الأجل. وفي السياسة وعلى رغم الخطر الأمني فإن اجتماعات الأحزاب والقوى اللبنانية والفصائل الفلسطينية بقيت مستمرة وكان يحضرها شخصيات قيادية في حزب الله. أما على المستوى الإعلامي فقد تولّت لجنة إعلامية مهمة إصدار البيانات وطباعة القصاصات وتوزيع صور المجازر والملصقات والمنشورات التي كانت تتخذ شكل الرد على مضمون المناشير التي تلقيها الطائرات الإسرائيلية، فضلاً عن «دبلوماسية» ثورية خاطبت مئات المنظمات الأهلية العالمية وقوى تقدمية ويسارية لرفض العدوان وتنظيم الاحتجاجات، ونجحت في توفير مناخ متضامن لا بأس به عبر زيارات وفود عربية وأجنبية متضامنة في عزّ

العدوان.

وتبقى التجربة الصيداوية في إيواء النازحين هي الأكثر تمايزاً وإن كان الانقسام السياسي الحاد في المدينة سحب نفسه على العمل الإنساني. فقد اهتم فريقان في المدينة بإيواء النازحين ومساعدتهم. وفيما آثرت معظم الجمعيات والمؤسسات الأهلية والتطوعية العمل بالشراكة الكاملة مع بلدية صيدا، عملت مؤسسة الحريري وبعض الجمعيات الصديقة لها بشكل مستقلّ.

وبذلت فرق المتطوعين والجمعيات الأهلية بمختلف تنوعاتها جهوداً استثنائية لتوفير مقوّمات الصمود. وفيما تضاربت الأرقام الحقيقية لعدد النازحين الذين توزعوا في المدارس الرسمية والخاصة وبعض المراكز الحكومية ومراكز الجمعيات الرياضية والكشفية والثقافية والصحية وبعض المنازل، فإن من المؤكد أن المدينة احتضنت العدد الأكبر من النازحين، ويرجح أن يقارب عدد من نزحوا الى المدينة مئة ألف، وهو رقم كبير، إذا ما قيس بعدد سكان المدينة، جعل الجميع متوجساً من قصف إسرائيلي قد يسبب مجازر مروّعة.

ويشير منسق المؤسسات الأهلية ماجد حمدتو الى أن بلدية صيدا والمؤسسات الأهلية والصحية أعدّت منذ اللحظة الأولى للحرب الصهيونية خطة طوارىء لإيواء النازحين وشكلت فرق عمل ولجان إغاثة واتُّخذت كلّ التدابير التي تكفل توفير مقومات الصمود، وارتكز جهد البلدية ورئيسها والجمعيات والمؤسسات الأهلية على اعتبار هؤلاء الوافدين بين أهلهم وأحبّتهم، وقد خُصّصت غرف في بلدية صيدا لرؤساء عدد من البلديات الجنوبية لمتابعة كل المستلزمات العائدة للنازحين، ويلفت المنسق الى برامج ترفيهية للأطفال النازحين وأعمال تدل على الهمجية الصهيونية، مؤكداً أنّ المدينة كانت تقوم بعمل وطني بامتياز ومقاومة من نوع آخر.

بدورها شكلت مؤسسة الحريري، التي أدارت العديد من مراكز إيواء النازحين، «هيئة الرئيس الشهيد رفيق الحريري للإغاثة والصمود» بإشراف النائب بهية الحريري، وأخذت الهيئة على عاتقها المتابعة اليومية لأوضاع النازحين، فألّفت الفرق التي تديرها غرفة عمليات مقرّها في مجدليون، والتي كانت تتابع أوضاع النازحين وترعاهم بشكل يومي وتمدّهم بالحصص التموينية والوجبات الغذائية ومواد التنظيف وحليب الأطفال والخبز والفرش والأغطية وتوفر المعاينات اليومية للمرضى في المراكز والأحياء. كما كانت الرعاية الصحية تشمل مئات الكشوفات والمعاينات المجانية كل يوم، وتوفير الدواء والعلاج، ونقل المرضى إلى المستشفيات ومساعدة المسنين. وأيضاً شملت الرعاية متابعة أوضاع النساء الحوامل وحالات الولادة التي كانت تشهدها بعض المراكز وفي البيوت وتزويد المنازل والمراكز بالمياه، وفتح حمامات السوق القديمة في صيدا أمام النازحين للاستحمام، وتجهيز مراكز النزوح بـ«أدواش» للاستحمام.

أما ساحة النجمة حيث مبنى البلدية، فقد تحولت ملتقى لأبناء الجنوب، يرى فيها النازحون ساحة قريتهم ويترصدون أخبار المعارك ومن بقي على قيد الحياة من أقاربهم ومن استشهد. قبل عام وقفت في هذه الساحة حاجة وقد أنهكتها رحلة النزوح لتطلب من أحدهم «الله يوفقك ويرضى عليك يا ابني معك تلفون بدي اطمئن عن بعض أفراد عائلتي في بنت جبيل». وعندما حملت الهاتف راحت تقول: «طمّنونا عنكم... والله؟ الله أكرمه بالشهادة... الله يرحمه كان طالبها من زمان». قالت الحاجة السبعينية هذا الكلام برباطة جأش وعندما استُفسرت عمن يكون ذاك الذي استشهد أجابت إنه ابن شقيقها من آل بزي أحد كوادر المقاومة.

وفي أحد مراكز التهجير في صيدا (قصر العدل القديم الذي استُخدمت حتى غرفة نظارته) وقف الطفل حسين عبد المنعم من عيترون ليرسم مجموعة من الأفراد ويكتب تحتها «عائدون». وبدا أشخاص علي مديرين ظهورهم للواقع الدولي والعربي الذي تواطأ مع العدوان.

ومن قصص النازحين في صيدا تلك المرأة التي جاءها المخاض وولدت طفلاً سمته رعد تيمناً بصاروخ رعد الذي ذاع صيته آنذاك، امرأة أخرى من آل بيضون من بنت جبيل وقفت أمام عدد من الإعلاميين وبينهم أجانب بينما كانت الأنباء الإسرائيلية تتحدث عن احتلال مدينة بنت جبيل، وقالت بثقة متناهية «إنهم كذابون... وأراهن على كل ما أملك بأن بنت جبيل ستكون

مقبرتهم».

نازحات وصلن إلى مدينة صيدا في 26 تموز 2006<br>(أرشيف ــ أ ب ــ محمد الزعتري)
نازحات وصلن إلى مدينة صيدا في 26 تموز 2006
(أرشيف ــ أ ب ــ محمد الزعتري)


أطفال نازحون في صيدا (أرشيف ــ خالد الغربي)
أطفال نازحون في صيدا (أرشيف ــ خالد الغربي)


تعليقات: