هكذا توقف التقدّم في العديسة ومركبا

مقاومون على أهبة الاستعداد للمعركة (صورة خاصة بـ «الأخبار»)
مقاومون على أهبة الاستعداد للمعركة (صورة خاصة بـ «الأخبار»)


عزل الإسرائيليون القرى الجنوبية بعضها عن البعض الآخر، فافترقت الجارتان مركبا والعديسة لبعض الوقت، خاض خلاله شباب المقاومة في البلدتين مواجهات ضارية مع الاحتلال كبّدته أكثر من 60 قتيلاً، فضلاً عن الدبابات والجرافات التي دمِّرت.

كيف دارت هذه المواجهات؟ هذا ما يرويه مقاومان شاركا في صدّ العدوان في البلدتين الواقعتين عند الحدود مع فلسطين المحتلة.

مركبا: كمينان محكمان

كان جنود اللواء غولاني، وحدة إيغوز، يعتقدون أنهم سيثأرون لرفاقهم التسعة من اللواء نفسه الذين قتلتهم المقاومة في بلدة مركبا عام 1998. لكن عدد القتلى ارتفع هذه المرة، فالبلدة الآن في قبضة أبنائها الذين هم على استعداد للدفاع عنها. أكثر من 20 جندياً إسرائيلياً سقطوا في بلدة مركبا بين قتيل وجريح، باعتراف العدو الإسرائيلي، في كمينين محكمين للمقاومة في العشرين والسابع والعشرين من تموز 2006.

لا تبعد مركبا سوى عشرات الأمتار عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وتمتد شمالاً باتجاه وادي السلوقي. هي تختلف في جغرافيتها العسكرية عن غيرها من القرى والبلدات المحيطة بها، كما يقول أحد شباب المقاومة: «تلال البلدة مرتفعة، تشرف على الأودية والقرى المحيطة بها. فتلة وردة في الشمال الشرقي تشرف على بلدتي الطيبة والقنطرة ووادي الحجير، وتشرف تلّة القبع في الجنوب الغربي على وادي السلوقي وأطراف بلدات مجدل سلم وشقرا وبني حيّان وحولا. وكانت قوات الاحتلال قد أقامت فيها موقعاً عسكرياً غادرته عام 1997، تاركةً أمر إدارته لعملائها، بعدما تعرّض للعديد من العمليات العسكرية».

في الأسبوع الأول من الحرب بقي الهدوء النسبي يخيّم على البلدة مع بعض القصف المتقطع، وعندما قرّر العدو دخول البلدة بدأ بالقصف العنيف والمركّز، ليدمر العديد من المنازل، وخصوصاً عند جهتها الشرقية. عندها استعدّ المقاومون للمواجهة، فزادوا من جهوزيتهم العسكرية متأهبين لإنزال. مرّت ثلاثة أيام عنيفة جداً بسبب القصف المنظّم، سبقت محاولة الدخول الإسرائيلي إلى البلدة في العشرين من تموز.

في صباح هذا اليوم توقف القصف ليبدأ الجنود الإسرائيليون التقدّم. وعند الساعة الثانية عشرة والنصف مساءً، وصلت مجموعة من المشاة إلى منطقة الكمين الأول الذي أعدّه المقاومون في الجهة الشمالية للبلدة. فقد سلك الجنود المشاة طريقاً فرعية ضيّقة، على جانبيها بعض المنازل الحديثة الخالية من السكان. وعلى بعد 40 متراً من الجنود المشاة تمركزت مجموعة من المقاومين داخل أحد المنازل في انتظار وصول الهدف الذي عدّوه سهلاً ولا يحتاج إلى أكثر من مجموعة.

يقول المقاوم أبو علي: «أطلقنا النار على الجنود بغزارة، فاستشهد أحد المجاهدين، وبقي الآخرون يطلقون نيرانهم مستخدمين رشاشات فردية، سلاح (آر بي جي) وأسلحة متوسطة لمدة أكثر من عشرين دقيقة، إلى أن تأكدنا من مقتل الجنود الذين يبلغ عددهم سبعة أو ثمانية جنود». واللافت كما يقول أبو علي أن المقاومين كانوا يسدّدون نيرانهم أمام الجنود مباشرة، لكن هؤلاء كانوا يطلقون النار إلى الطابق العلوي للمنزل من دون أن يستطيعوا تحديد هدفهم، «كانوا خائفين ومرتبكين فيما يطلق المقاومون نيران رشاشاتهم من الخارج أمام مدخل المنزل، ومن شرفة المنزل أطلقوا قذائف (آر بي جي)».

بعد الكمين الأول، أصيب الجنود الإسرئيليون بحالة من الهيستيريا، فراحوا يقصفون البلدة بشكل عشوائي وعنيف. وعلى مدى سبعة أيام حاولوا التقدّم باتجاه وسطها، يقتربون من منزل إلى منزل على مساحة نحو 500 متر. يقول أبو علي: «في السابع والعشرين من تموز كانت الجهوزية العسكرية في أعلى مستوياتها، وكنا على علم بأن عدداً من الجنود الإسرائيليين أصبحوا داخل البلدة. تقدّمت مجموعة من أربعة جنود أمام دبابة ميركافا، على الشارع العام قرب وسط البلدة، معتقدين أنهم يدخلون أرضاً محروقة بعد القصف الذي طال كل الأمكنة. كانت مجموعة من المقاومين قريبة جداً منهم، تنتظرهم في منزل دمرت جزءاً منه الطائرات الحربية من دون أن يؤدي ذلك إلى مغادرتهم نقطة الكمين. أطلقوا نيرانهم سريعاً، فقتلوا الجنود المشاة، في وقت أطلق فيه أحدهم ثلاث قذائف (آر بي جي) على الدبابة المصفحة، قذيفة على جنزير الدبابة فشلّت حركة سيرها، واثنتين على البرج، ما أدّى إلى انفجار الدبابة وقتل طاقمها».

بعد الكمين الثاني في مركبا، كان الأمر كافياً لمنع الإسرائيليين من إعادة محاولات التقدم، فتراجعوا إلى الخلف ولم يستطيعوا الوصول إلى هدفهم في تلة وردة، وبقي الأمر كذلك حتى وقف العدوان.

العديسة: 40 قتيلاً

الحديث عن المواجهات التي خاضها المقاومون في العديسة يعني الحديث عن 40 إسرائيلياً قتلوا، فيما لم يسقط إلا شهيد واحد للمقاومة هو حسين رومل شري (17 عاماً)، الذي أصرّ على الالتحاق بصفوف المقاومين في البلدة، رغم أنهم رفضوا ذلك في البداية إلى أن تأكدوا من قدرته وجهوزيته العسكرية.

عدّة مجموعات من المقاومين كلّفت الدفاع عن بلدة العديسة، في انتظار ساعة الالتحام مع العدو. كان الالتحام الأول في اليوم الخامس عشر للحرب، عندما حاولت دبابة ميركافا الدخول إلى البلدة باتجاه تلة العويضي الواقعة بين العديسة والطيبة، أمطرها المقاومون بقذائفهم فدمرت تدميراً كاملاً مع طاقمها المؤلف من سبعة جنود.

يقول (أبو حيدر) أحد المقاومين، الذين تصدّوا للعدو في العديسة: «بعد 36 ساعة من ضرب الدبابة عاد الإسرائيليون لسحب من قتل من جنودهم، وتمركزوا في خَلّة بين بلدتي العديسة والطيبة، تحت وابل من القصف المدفعي والحربي، لتصبح البلدة محاصرة من جميع الجهات، لكونها تقع على الحدود. سيطروا بعدها على تلّة جلّ الحمارة قبالة بلدة كونين».

وفي صباح اليوم السادس والعشرين للحرب، تقدّمت دورية من الجنود المشاة من فلسطين المحتلة باتجاه بلدة العديسة، «قررنا السماح لهم بالتقدّم إلى أن وصلوا إلى داخل البلدة قرب منزل محاط بالمقاومين. كان عددهم 15 جندياً. أطلقنا عليهم نيران القذائف والرشاشات الفردية والمتوسطة من دون أن نلقى أي رد منهم. بل كنا نسمع أصواتاً باكية وصراخاً بصوت عال. منهم من كان يردّد «إيغوز.. إيغوز..»، وآخر بدأ يشتم بالعربية. لقد أصيبوا جميعاً بين قتيل وجريح».

ابتعد رجال المقاومة عن المكان متجهين إلى نقطة تقع قرب مخفر درك البلدة حيث كان عشرات الجنود الإسرائليين قد بدأوا التقدّم في محاولة للتوغل أكثر في البلدة. يقول أبو حيدر: «كانوا أكثر من مئتي جندي، أطلقنا عليهم الرصاص والقذائف الصاروخية، فأصيب منهم أكثر من عشرين جندياً. حاولنا الانسحاب، لكن الشهيد حسين رومل فضل البقاء والالتحام معهم بغية تغطية خروجنا من المعركة وبقي يقاتل حتى استشهاده».

في ظهر اليوم ذاته، وبعد وابل من القصف العنيف للبلدة، يذكر أبو حيدر: «تقدّمت قوة من المشاة باتجاه البلدة، كان الجنود يصرخون ويطلقون نيرانهم يميناً وشمالاً، فقد طغى الخوف عليهم بعد الموت الذي أصاب رفاقهم. اقتربوا من منطقة الكمين الثالث، ودخل ستة جنود إلى أحد المنازل، فأطلقنا النيران عليهم. أصيبوا جميعاً ووقعوا أرضاً». حاول المقاومون الانقضاض على كلّ تقدّم آخر، فاضطر الإسرائيليون للتراجع وتمركزوا في الأطراف، وبقي الأمر على حاله إلى حين وقف العدوان.

يستطرد أبو حيدر قائلاً: «تصوّر أنه في كلّ هذه المعارك التي فقد فيها الإسرائيليون عشرات الجنود لم نفقد إلا شهيداً واحداً أبى أن يغادر المعركة، وكان قد بكى كثيراً لأنه لم يستطع الالتحاق برفاقه في بنت جبيل ومارون الراس. وقد ختم قراءة القرآن قبل استشهاده. وكان والده يتصل بنا ليتأكد من أن ابنه يقاتل جيداً». يتابع: «كان الجنود مقهورين، نمرّ بالقرب منهم صدفة، لكنهم لا يروننا أو يتجاهلون ذلك. في بداية الحرب كان منظرهم مخيفاً، لأنهم يحملون العتاد والأسلحة المتطورة، لكن عند أول التحام معهم تبيّن لنا أنهم جبناء، يلتفّ بعضهم على بعض من دون أن يطلقوا النار علينا، وكانوا أغبياء إلى حد أنهم يدخلون منزلاً واحداً معاً وهم بالعشرات».

هنا دارت مواجهات الكمين الأول في مركبا (داني الأمين)
هنا دارت مواجهات الكمين الأول في مركبا (داني الأمين)


تعليقات: