مارسيل خليفة في صيدا: ثورة البداية وثوّار الحاضر

مارسيل خليفة والى جانبه أميمة الخليل. (رويترز)
مارسيل خليفة والى جانبه أميمة الخليل. (رويترز)


لا حاجة لدى مارسيل خليفة الى ان يثبت شيئاً لأحد، فله من الحضور والارث والموقف ما يكفي مسيرة عمر ونضال عقود، وفيه من الثبات ما يدل الى ان الشجرة التي ترتقي عالياً، لا تنمو بعيداً من جذورها. حمل الكثيرون عليه في الأعوام الماضية من منطلق انه "خرج" عن نشأته وصبغته الفنية الاولى. لكن خليفة عاد اول من امس الى صيدا بعد أعوام طويلة على أمسيته الأخيرة فيها، ليحيي في ملعبها البلدي الذكرى الـ 29 لانطلاق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية".

عاد الى صيدا كالولد الى حضن أمه، والمغترب الى أرضه، والشيوعي الى ساحته الحمراء، والمقاوم العائد الى جنوبه. كان كل هؤلاء وأكثر، غارقاً في ما يشبه الحنين الى الأغنية الأولى والوتر الأخير والنغمات الممتدة بينهما. تغير الكثير منذ إحياء مارسيل ذكرى انطلاق الجبهة في ملعب الصفاء بوطى المصيطبة عام 1984، لكن ذكرى بيان 16 أيلول وعبارة "يا أبناء بيروت البطلة، يا أبناء شعبنا اللبناني العظيم في الجنوب والجبل والبقاع والشمال" ما زالت في الأذهان. حياهم في بداية الأمسية، من "أهلنا في الجنوب" الى "كل المناطق"، الآتين لسماع "المحمل بتراث فني وموسيقي، نابع من آمال شعبه (...) حاملاً قيماً نبيلة للدفاع عن وطنه ضد العدوان الاسرائيلي والفساد وقمع الحريات ومصادرتها" كما جاء في تقديم عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي ريمون كلاس.

كان في إمكان مارسيل ان يؤدي اغنية واحدة لتكون الأمسية وكأنها عقود من العمر. لسان حال الحاضرين في المدرجات "يا بحرية"، لا أكثر، يقابلها رد هادىء من خليفة "الأمسية طويلة، خلوها للختام". لا يرى الناس أبعد من مارسيل الانسان والصوت ووتر العود. هو الفرد الذي يغني عن أوركسترا وأحلام كثيرة. صال وجال في العالم، وصاغ الكثير من المفاهيم التطويرية لعزف العود. رافقه مع أوركسترا، وكتب كونشرتو وطوّر وجدّد، وكلما عاد الى وطنه، يطالبه الناس بما غنّى منذ 30 عاماً، والجمهور يردد "شيوعي، شيوعي". ربما هي نوستالجيا الحنين الى ماضٍ صنعه الناس، ورأوا في ذواتهم قدرة فعلية على التغيير. ربما محاولة لتكرار الزمن، والتحية الى "الثوار من المحيط الى الخليج" مع "انهض يا ثائر"، و"عصفور" الذي لم يفته توجيهها كما دائماً "الى السجناء العرب في السجون الاسرائيلية، والسجناء العرب في السجون العربية".

غنى مارسيل بصوت ملؤه تعاطف مع قضايا الناس وثوراتهم الدائمة توقاً الى الحرية، ولم تزده الأحلام المنكسرة سوى عذوبة اضافية فرضها العمر وتبدل الأزمنة. "ما هو العالم بعدك يا ثائر" يقول، ليعطي انطباعاً ان الثوار هم في جوار الملعب لا على بعد مئات الكيلومترات منه. ميزته حمل القضية. وشاح داكن يختصر كل شيء. "بين ريتا وعيوني بندقية" أربع كلمات تنوء بعبء نضال مستمر منذ 63 عاماً، وما زال الوعد بالعودة صامداً. "لبسوا الكفافي ومشوا" عبارة تختصر مسيرة عشرات الآلاف على درب نضال كلما طال، كلما قدم منبع شهدائه المزيد، وكلّ منهم "منتصب القامة". كانت فلسطين حاضرة في كل كلمة، ومنها اغنية فلسطينية يقول مطلعها "يمّا موّيل الهوا يما مويليا، ضرْب الخناجر ولا حكم النذل فيَا"، الى حيفا التي "من هنا بدأت"، و"تعاليم حورية" آخر ما كتب محمود درويش قبل الرحيل. حتى "جواز السفر" أفردت في نغماتها مكاناً للحن النشيد الوطني مع بيانو رامي خليفة...

يعيش الصيداويون أكثر من غيرهم "يا بحرية"، وفي الملعب البلدي المجاور للبحر، تصبح للقلعة والمينا و"ريّسه" معانٍ كثيرة. لا تعود مجرد أغنية. هي نمط حياة يعكس التقاسيم السمحة لـ "معروف القلعة" على وجوه كل الصيادين في الميناء. للبحر في عرف هؤلاء رائحة غير تلك التي يفوح منها عبق التلوث. بحرهم حياة وروح وقبضات تعرف كيف تحول أحلامها (وذكرياتها) وقائع يومية وإصراراً مستمراً على ان تغيُّر كل شيء لا يمس في الجوهر شيئاً. بعيد منتصف الليل، كانت مراكب الصياديين قد بدأت تجول في عرض البحر، بحثاً عن لقمة العيش، ووفاءً لمن حمل أمانة الصيادين حتى الرمق الأخير. في الملعب، كان مارسيل يغني، و"الميادين" تعزف تقاسيم اضافية، وحماسة جمهور المدرجات قد استحالت موجاً.

* كريم أبو مرعي

مارسيل خليفة في صيدا
مارسيل خليفة في صيدا


تعليقات: