قانا الثانية... أو الجميلة التي لم يعتقها الوحش

تبكي الشهداء في احتفالات الذكرى الاولى لمجزرة قانا أمس (حسن بحسون)
تبكي الشهداء في احتفالات الذكرى الاولى لمجزرة قانا أمس (حسن بحسون)


من 18 نيسان 1996 إلى 30 تموز 2006، عشر سنوات وجرح قانا لا يلتئم. كلما حاول أبناء هذه البلدة، وجاراتها، التعالي على آلامهم عاد الوحش يعمل سكينه فيهم.

كان يكفي أن يقال «قانا» صباح ذلك اليوم لتتحرّك المشاعر بطريقة مختلفة. هي لا تختلف عن الدوير أو عيترون أو عيناتا أو حداثا أو النبي شيت أو سلعا.... لكن اسمها قانا.

لم يكن ما حصل فيها مجرد «مجزرة» خطفت حياة 27 من أبنائها، بل شكلت أيضاً نقطة تحوّل في الحرب. الأهالي النازحون نزلوا إلى ساحة رياض الصلح غاضبين. صرخوا أمام بيت الأمم المتحدة. الفنانة جوليا بطرس انضمت إليهم وأرسلت رسالتها الشهيرة إلى الحكام العرب. كان يجب أن يكون اسمها قانا حتى تقرّ هدنة ليومين... هدنة لم تجعل الوحش يهدأ، وخصوصاً أن معالم خسارته كانت تتضح يوماً بعد يوم.

ــ 1 ــ

قبل عشر سنوات استدّل الوحش على الجميلة قانا وتمادى في تشويهها حتى أفرز للموت مكاناً ثابتاً في عيون أطفالها ولافتاتها وأسماء أحيائها المليئة بالقصور، مستقوياً بذلك على الضلع المكسور في جسدها.

في المرة الأولى، استفرد بعشرات المساكين الذين احتموا بنفوذها ولم يملكوا الخروج من فم التنين فابتلعتهم نيرانه. وفي الثانية، افترس حياً اسمه على مسمّى، حي الخريبة، فتمكّن من مساكين وأبناء مساكين حتى يقول قائل من قانا إن «الوحش قد ينسى قانا إذا هجرها المساكين».

ــ 2 ــ

في عام 1993: أصيب سعد الله بلحص خلال غارة على منزله في صدّيقين. استشهدت زوجة ابنه غالب الحامل، وحمل هو آثار الإصابة في قدمه.

في نيسان العام 1996: انضمت العائلة المؤلفة من الوالدين و13 ابناً وابنة، إضافة إلى أبناء أحدهم الخمسة، إلى اللاجئين في مقرّ الجنود الفيدجيين في قانا. وفي اليوم الرابع لوصولهم، دوّى انفجار. بعد دقائق، زحف سعد الله إلى الخارج ونادى على ابنه مرهج لكي يتفقد إن كان أحد من إخوته يستجيب لندائه. دخل مرهج إلى «معرض» الجثث الممزّقة والمشوّهة. اكتفى بنظرة واحدة قبل أن يخرج مطرِقاً.

نجا من أسرته علي الذي استشهدت زوجته وثلاثة من أطفاله، ومرهج وخليل ونجيبة ومحمود، فيما استشهدت زوجته زينب مرعي وأولاده غالب (30 عاماً)، وفياض (25 عاماً)، ونائلة (20 عاماً)، وفاطمة (15 عاماً)، ومحمد (12 عاماً)، وزهرة (10 أعوام)، وخديجة (9 أعوام)، وأمل (8 أعوام)، وإبراهيم (7 أعوام).

ومنذ ذلك الحين، يعيش الحاج الثكلان فجيعته عاماً بعد عاماً. بداية كان يزورهم صباحاً في مقبرة الشهداء في قانا. وفي المساء يدور حول جدران البيت حيث علّق صورهم ويغرق في عويله حتى استدعاه علي للعيش معه وترك بيته المليء بالذكريات. لكن جسده النحيل كان يستجيب تدريجاً لكلّ ما في الدنيا من وجع وقهر ويأس. لم ينذرهم لله، كالسائد، فرحاً ومفتخراً ومستعداً للمزيد. أوقف زمنه عند ذلك التاريخ. لا عمل ولا زواج. ولو قيّض له لأوقف حياته.

ومذاك أيضاً، يكبر ابنه الأصغر محمود (16 عاماً) ويحيا على العطف، محاولاً تخطّي الدقائق الخمس تلك التي فصلت بين باحة لعب وصالة عرض لجثث مشوهة، وولدت رجلاً كان للتو طفلاً.

قبل أيام، أخبره أخوه مرهج بأنه عندما حمله من بين أمه وإخوته الشهداء وركض به إلى الخارج لم يلحظ أنه هو، بل داس على شيء طريّ فأحس أنه ينبض فسارع إلى إنقاذه. أما محمود فأخبره أنه لم يكن مغمياً عليه حينها بل رأى كل شيء وخصوصاً أمه وهي تشدّ غالب في بنطاله ليبقى بجانبها. ماتا على هذه الصورة.

ــ3ــ

اليوم صباحاً: سعد الله (67 عاماً) يدخل يومه الثلاثين في المستشفى وإلى جانبه ابنه محمود الذي يرعاه. شرايين قلبه لا تستجيب للعلاج، تسدّها أكوام من الحزن والحسرة تكفي 14 شخصاً. تتنفّس رئتاه في أنبوب الأوكسجين آهات عمرها أحد عشر عاماً، فتكاد تثقبه. هو يريد أن تكون هذه المرة الأخيرة التي يمكث في المستشفى حيث يمضي عادة أياماً وليالي معدودة. لكن صحته لا تمهله البقاء طويلاً خارجه «إذاً فليكن الاحتمال الثاني»، يتمنّى.

أما محمود، فسيقرأ طوال النهار في الجرائد عن ذكرى مجزرة قانا الثانية وسيشاهد على التلفاز استعادة مشاهدها. قد يغرق وحيداً هو الآخر في مجزرته الخاصة ويستعيد حاله في عيون حسن شلهوب (5 سنوات) وحسن هاشم (4 سنوات) اللذين أحسّ بنجاته حقيقةً بنجاتهما من الموت، أو قد يرى من مقعده هذا تفاصيل حياتهما المقبلة إلى سنوات عدة.

اليوم صباحاً: محمد قاسم شلهوب يروي القبور السبعة منذ الفجر. بعد عام واحد على المجزرة، عاد لصلابته المعهودة لكن بتجهّم ونقمة مرعبين يشبهان الحداد الذي يعتري جسده النحيل وعينيه وتجاعيده التي تتكاثر بسرعة. لكنه أفضل حالاً الآن، أقلّه لم يعد يقفل بابه على نفسه ويرتمي في أحضان أمه وزوجته وأطفاله الخمسة المعلّقين صوراً على كل الجدران، وإذا خرج يطاردونه في كل مكان. ربما لم ينسهم، بل لعلّ ما برّد ناره في ضلوعه قليلاً هو انشغاله بتقبّل تعازيه من الحكومة اللبنانية التي تضامنت معه وقلّصت إلى الربع قيمة تعويضه جريحاً من «الهيئة العليا للإغاثة» التي استدعته بدورها بعد ثلاثة أشهر لتتّهمه بالتزوير مع اثنين من الناجين، بسبب ادّعائه بأنه جريح وليس بجريح.

أما «الحسنان» فيوزّعان نشاطهما الطفولي الساعي لاستعادة أشياء من الماضي غابت منذ عام. حسن شلهوب يلعب مع صغار آخرين في ساحة الحي، ثم يروح بحذر إلى ساحة القبور المجاورة بين الحين الآخر، كأن عليه ألاّ ينسى حاله في اللعب أو لعلّه يروح يكمل اللعبة مع أخته زينب وأصدقائه يحيى وجعفر وزهراء وعلي ولو في قبورهم. أما أمه فتتحيّن رؤية أحد المصورين لتطلب منه إرسال صور المجزرة إليها، وخصوصاً ابنتها عند انتشالها جثة وزوجها وابنها حسن جرحى. هم يتهرّبون وهي تصرّ. تحاول إقناعهم بألا يقلقوا بشأنها وبأنها قوية. تجمع المجلات والجرائد التي نشرت الصور ولا تنفكّ عن التحديق فيها. ماذا تفعل أم زينب، هل تتبارز مع القهر، أيّهما يقتل الآخر أولاً؟

أما حسن هاشم فمشغول «بشك الدخان». فرحه غريب لعله يفوق براءة أطفال يعيشون في كوكب آخر غير قانا. يخبر عن وقائع المجزرة بالتفصيل كأنه يروي «ليلى والذئب». يركض ويلعب ويضحك عالياً ويأتي بصور أبناء عمّه الشهداء ليراهم الجميع ولا ينسى صورة أبيهم «الشهيد المجاهد» الذي استشهد قبلهم بأسبوع واحد. ماذا في داخل حسن غير الطفولة؟ كيف يحسبها هذا الصغير الناجي؟ لعلّه يرى أنه «مش فارقة» في كل الحالات. يعيش وحيداً تربّيه جدته وعمّتاه بعدما انفصل أبوه المسافر عن أمه البعيدة.

اليوم صباحاً: يستفيق حي الخريبة عند الفجر كعادته، يصلّي على القبور التسعة والعشرين. ثم يتحضّر ليوم استقبال طويل. زوّار وكاميرات وأكاليل وتصاريح فوق الأرض. سيقفلون جميعاً عند نهاية العرض ليأتي دور الزوّار المقيمين في كل مساء. ثم يقفل المساء عليهم بانتظار يوم جديد يفلت فيه محمد قاسم شلهوب من مصير سعد الله بلحص ويتهيّأ للحسنين والصغار الآخرين سماء أوسع من سماء محمود لا تجعل لهم ثالثاً، فيصبحون هم محموداً جديداً.

حي الخريبة في اليوم التالي لوقوع المجزرة<br>(أرشيف ـ ـوائل اللادقي)
حي الخريبة في اليوم التالي لوقوع المجزرة
(أرشيف ـ ـوائل اللادقي)


تعليقات: