عندما صاح عدنان الحركة «راحت عيلتي»

إخراجات قيد تسجّل مرورهم على هذه الحياة (أرشيف ــ يونس الزعتري)
إخراجات قيد تسجّل مرورهم على هذه الحياة (أرشيف ــ يونس الزعتري)


يوم جديد من العدوان كان كفيلاً بأن تتّشح بلدة النميرية (النبطية) بدماء أطفالها لتلتحق بركب أخواتها من القرى الجنوبية التي تنقلت فيها المجازر واحدة تلو الأخرى...

إنه التاسع والعشرون من تموز 2006. كان بداية يوم عادي في حياة عدنان الحركة وعائلته المؤلفة من زوجته سوسن مهدي وأبنائه الثلاثة: علي ورضا وهادي وابنته رنيم. هو لم يفكر في مغادرة بلدته النميرية لأنه موظف في الدفاع المدني، و«لم يكن خائفاً»، ولأجل ذلك رفضت زوجته أن تتركه وحده، وترحل هي والأولاد.

يروي عدنان بعض تفاصيل الساعات الأخيرة من «ملحمة» صموده وعائلته، يتلوها كأنها سفر صبر في إرادة الحياة: «كان نهاراً عادياً وهادئاً، الساعة تقترب من الواحدة بعد الظهر، أدّيت فريضة الصلاة وقرأت بعدها الدعاء. جلست قليلاً مع ابني الصغير هادي، كانت يده مكسورة، بدأ بتقبيلي بكثرة، وكأنه كان يودّعني. بعدها تنبهت إلى أن جاري يخرج من البيت بسيارته، فأردت أن أوصيه على بعض الأغراض، إلا أنني لم ألحق به، لذلك قررت الخروج بنفسي. ربما لو كنت استطعت مكالمته لبقيت في البيت وكان مصيري من مصير عائلتي».

تتخطى الساعة الثالثة والربع، يخرج عدنان برفقة جاره في سيارة شحن «لم يخطر ببالي أن منزلي في دائرة الخطر، لكن شعرت بأنني أنا المعرّض للخطر بركوبي سيارة كبيرة».

يصل عدنان إلى دكان على جانب طريق النميرية، يبعد نحو كيلومترين عن منزله، «اشتريت خبزاً وبعض الأغراض. وأنا في طريق العودة وقد صارت الساعة الرابعة إلا ثلثاً، سمعت دويّ انفجار كبير، رجّحت أن تكون غارة إسرائيلية استهدفت مركزاً للجيش في البلدة، أو قطعت طريقاً ما. أكملت طريقي لأجد أحد أصدقائي جالساً عند مدخل منزله، توقفت لإلقاء التحية عليه، وأسرّيت أمامه أنني لا أريد أن أتأخر كي لا تقلق زوجتي عليّ بعد هذه الضربة». في هذه الأثناء مرّ شاب من البلدة، وأخبرنا أن البيت الذي يسكنه نايف بدير، قد استهدف بغارة للطائرات ودُمّر بالكامل، «فضربت على رأسي، وصرخت: راحت عيلتي».

يركض الجميع نحو البيت الذي تقطنه عائلة عدنان الحركة، ومعهم عدنان، في لهاث يحدوه الأمل أن يكون ثمة ناجون تحت الردم، «وإذا بالبيت كومة حجار، شي متل الكذب، لا شيء يوحي أنه كان قبل أقلّ من نصف ساعة منزلاً يضج بالحياة. لم يبق لي شيء من رائحتهم أو ذكرى منهم. في المكان لا شيء غير الحطام والركام، ودخان وفرق إنقاذ». وبين ما يجري على الأرض والواقع الذي لا مفرّ منه «أدركت أنّ كل شيء انتهى بالنسبة إليّ وأن عائلتي ذهبت ولن أراها ثانية».

يكمش الجَلَد وجه عدنان، يحصر انفعال حزن لم تخفه عيناه اللتان يسرح بهما نحو المجهول، كأن الصور تعبر في لحظات «قدر أولادي أن يموتوا جميعاً، حتى رنيم الكبيرة».

وما قصة رنيم حتى سبقتها الـ«حتى»؟

يردّ بصوت متهدّج «رنيم ابنتي البكر من زوجتي الأولى، كانت تمضي الصيف عند بيت جدتها لأمها، وعندما قرّرت العائلة النزوح، لم ترض أن تترك البلدة، وآثرت أن تعود معي إلى البيت، فكأنها اختارت قدرها، أن تستشهد مع إخوتها».

يبقى عدنان فترة طويلة غير مصدّق ما جرى معه، «وكأنه حلم، أنا وحدي من دون زوجتي وأولادي؟ فقدت كل شيء؟ أسئلة كثيرة طرحتها على نفسي بعد الحادثة. لمت نفسي لأنني بقيت كل هذه الفترة في البلدة ولم أنزح، هل ظلمت أولادي؟ هل أوصلتهم للموت بيدي؟ ولكنني في نهاية الأمر اقتنعت بأن هذا قدري، فأنا إنسان مؤمن والموت حق، الله أراد ذلك».

يحاول عدنان في حديثه أن يخفّف عن نفسه ويقنع المحيطين به أن الفرق بين الحياة والموت مجرد لحظات، وأن قدر أطفاله وزوجته الموت، حتى لو هرب بهم إلى آخر الدنيا. ويروي قصة عائلة من بلدة المروانية المجاورة كانت تنوي التوجه للاختباء في إحدى الشقق العائدة لقريب لهم في البناية المستهدفة، لكون النميرية كانت آمنة، بيد أن دردشة مع أقارب لهم داخل البلدة أخّرتهم نحو ربع ساعة، وأنقذتهم بالتالي من الموت.

عدنان تزوج مرة أخرى في 12 كانون الثاني 2007. زوجته الجديدة حامل في شهرها السادس، يقول: «لن أبقى طوال عمري واضعاً يدي على خدي، فالحياة استمرارية، وأنا بزواجي الجديد أوجّه صفعة لإسرائيل، وأتحدّاها مبرهناً أنّ إرادة الحياة أقوى من حقدهم».

لم يبق لعدنان الحركة من ركام البيت المجبول بأشلاء عائلته، غير ميدالية نالتها ابنته رنيم التي كانت تحلم بأن تصبح بطلة رياضية قبل أن ينال منها الإجرام الاسرائيلي، كذلك محفظة مدرسية عائدة لأصغر أطفاله هادي، وبقايا من صور تشكل جميعها بالنسبة إليه «معيناً على البقاء، وأثراً يذكرني بأسرتي التي كانت ذات يوم».

شهداء مجزرة النميرية: زوجة عدنان الحركة سوسن مهدي (31 عاماً)، وأولاده: رنيم (17 عاماً)، علي (13 عاماً)، رضا (11 عاماً)، هادي (8 أعوام)، وجارهم في المبنى نايف بدير الذي يعمل تاجراً لعلف الحيوانات، وكانت عائلته غادرت المبنى قبل أيام وظلّ هو مصرّاً على البقاء والصمود.

تعليقات: