كيف صمدت «المنار» أمام أطنان القنابل «الذكية»؟


مازال حديثنا مستمراً عن الذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلي على لبنان، والذي نعيش ذكراه في مثل هذه الأيام الخوالد. فقد مضى عام كامل على ذلك الإعجاز التاريخي والنصر الإلهي الذي صنعته المقاومة الإسلامية في لبنان الصيف الماضي من خلال ملاحمها البطولية وأسطورة صمودها أمام أكبر قوة عسكرية في المنطقة، عندما استطاع بضع مئات من الشباب المقاوم تمريغ أنف العدو الإسرائيلي وكسر شوكته وإسقاط «بعبع» نظرية الجيش الذي لا يقهر!

اليوم، وضمن سلسلة المقالات التي نخصصها للحديث عن بعض جوانب ذلك النصر التاريخي في ذكراه الأولى، سنتناول صمود قناة «المنار» الفضائية التي كان لها دورها الرئيسي في صناعة ذلك النصر. فالمعركة الإعلامية الضروس التي خاضتها المنار عبر الأقمار الصناعية طوال فترة العدوان، لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية التي خاضها المقاومون على أرض المعركة، إذ كانت «المنار» جزءاً أساسياً من أدوات ما بات يعرف بالحرب السادسة!

إيهود يعري، كبير محللي القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، قال في حديث تلفزيوني: «يجب علينا إسقاط قناة (المنار)»! وأضاف: «هذه القناة تلعب دوراً كبيراً في الحرب النفسية ضدنا، إنها تستخدم ما تبثه القنوات الإسرائيلية من أجل إضعاف معنوياتنا، يجب إسكات قناة (المنار)، ولا أعرف لماذا تستمر في البث حتى الآن»! أما داني ياتوم، رئيس الموساد السابق، والذي كان ضيفاً في أحد البرامج الحوارية في القناة العاشرة الإسرائيلية، فقد وجه خطابه إلى القيادة السياسية والعسكرية بالقول: «اضربوا هذه القناة، اضربوا قناة نصر الله، اقصفوا الانتينات، والمقرات، ولا تكتفوا بقصف البنايات، اقصفوا تحت البنايات، تحت الأرض، إنهم يختبئون تحت البنايات المقصوفة». (حسب المركز الفلسطيني للإعلام).

الحكومة الإسرائيلية أدركت من جانبها خطورة هذا السلاح الإعلامي الذي يمتلكه «حزب الله»، خصوصاً بعد أن أثبت فاعليته على الداخل الإسرائيلي وعلى الرأي العام العربي والدولي، وتحديداً منذ اندحار القوات الإسرائيلية عن لبنان عام 2000، وحتى قبيل بدء العدوان الثاني في الصيف الماضي، فكان القرار في تل أبيب بوقف بث «المنار» مهما كلف الأمر! البداية كانت في اليوم الثاني للعدوان، عندما شنت الطائرات العسكرية هجماتها الصاروخية على مبنى قناة المنار. وفي اليوم الخامس للعدوان، تحول مبنى قناة «المنار» إلى ركام بفضل أطنان القنابل الذكية (الأميركية الصنع) التي انهمرت عليها وسوّت طوابقها الخمسة بالأرض! المفاجأة الأولى التي أذهلت الجميع بعد هذا القصف الوحشي للمنار، أن أحداً من طاقم القناة لم يصب بأذى! أما المفاجأة الثانية التي أدهشت العدو الإسرائيلي والعالم أجمع، أن بث قناة «المنار» لم ينقطع لأكثر من دقيقتين فقط! فقد ظلت «المنار» صامدة في وجه العدوان الإسرائيلي، واستمرت في تغطيتها المتميزة لأحداث الحرب بالصوت والصورة من قلب المعركة، حتى بات السؤال الذي شغل عقول الجميع آنذاك: من أين تبث قناة «المنار» برامجها؟

هاتان المفاجأتان (وهما على سبيل المثال لا الحصر) أعطت العالم كله فكرة عن مدى الجهوزية التي تعيشها المقاومة في لبنان على مستوياتها كافة، وهو ما أشار إليه مدير العلاقات العامة في المنار إبراهيم فرحات بقوله: «منذ بدء الحملة العالمية لوقف بث القناة، عبر الأقمار الاصطناعية الأميركية والأوروبية، شعرت القناة بضرورة إيجاد استوديوهات بديلة، وحرصت على تأمين كل المستلزمات البشرية واللوجستية لذلك، لأنها كانت متأكدة من همجية العدو، وقدرته على تخطي كل المواثيق الدولية التي تحمي الإعلام». وأضاف فرحات: «كل شيء مختلف خلال الحرب، فرق العمل، تقسيماتها، أسلوب العمل، بالإضافة إلى المراسلين، إذ يعمل على تجهيزهم وتدريبهم بشكل يثبت قدرتهم على العمل في دائرة النزاع»! ولذلك اعتبر الإسرائيليون ما جرى خلال الحرب الإعلامية مع قناة «المنار» بأنها من أشد الحروب الإعلامية وطأة في تاريخ إسرائيل! ويقول البروفيسور غابي فايمان، الأستاذ في قسم الإعلام في جامعة حيفا: «إسرائيل واجهت في هذه الحرب خصماً إعلامياً ذكياً ومتطوراً ذا قدرات إعلامية وبنية تحتية إعلامية لم تعرف إسرائيل مثيلاً لها في تاريخها». وأضاف فايمان «أن (حزب الله) كان خصماً أشد ذكاءً من جميع الخصوم بسبب التكنولوجيا الإعلامية المتطورة التي امتلكها في الأعوام الأخيرة، والتي جعلت الحرب في صيف 2006 الحرب الأشدّ إعلامية من أي حرب سابقة في تاريخ الدولة العبرية». (صحيفة «الأخبار» اللبنانية)!

في واقع الحال، إن الحديث عن «المنار» يمكن أن يطول لصفحات طويلة بعد صمودها الأسطوري أمام أطنان القنابل الذكية، لكن ما ذكره السيد محمد عفيف، مدير الأخبار والبرامج السياسية في «المنار»، عن قصة نجاة «أبطال» المنار، لصحيفة «السفير» اللبنانية، يستحق أن نتوقف عنده، ونحن نعيش في رحاب الذكرى الأولى لعدوان تموز يوليو، وهو ليس سوى غيض من فيض المشاهد المعبرة والقصص البطولية لأبطال المقاومة الإسلامية التي لن تمحى من ذاكرة التاريخ!

يقول عفيف: «قبل الحرب، كنا نعلم أنه لو وقعت الحرب لسبب من الأسباب، فـ(المنار) هدف. وكنا نعلم منذ عام 2000 أن إسرائيل ستشن حرباً. وكما تحضّر العسكر، كان مطلوباً أن يتحضر (المنار)، أن يعمل خطة. وهكذا كان. كل شيء كان جاهزاً: خطة ألف وخطة باء»! ثم يضيف عفيف: (عرفنا أن الضربة الأولى هي بمثابة إنذار شديد اللهجة. فأخذنا احتياطاتنا، وابتدأ فريق الهندسة يجهز هذا الاستوديو الذي نحن فيه الآن كاستوديو احتياط، أو مركز رقم واحد: بشكل يكون لدينا إمكانية للبقاء على اتصال بالوكالات العالمية، وأن نكون قادرين على البث». ويتابع عفيف سرد أحداث تلك اللحظات التاريخية: «بين أول ضربة وليل 16 تموز يوليو التي دمّر فيها الطيران الإسرائيلي المبنى بالكامل، كنا مازلنا نبث من الاستوديو الرئيسي في (المنار)، لكن كانت تنازعنا عواطف: نترك أو لا نترك؟ أنا كنت أريد البقاء. ثم ان في المبنى تسهيلات تقنية هائلة، وكان الاستوديو الجديد قد كلفنا نحو المليون دولار. لكن الإخوان في أمن المبنى ومسؤوليهم ضغطوا عليّ لأخرج فاتصلت بالسيد»! ويمضي عفيف بالقول: «قلت للسيد أنا مرتاح هنا، لا أرغب في الخروج. لكنهم يضغطون عليّ لإخلاء المبنى. قال لي: أنت المسؤول عن هذه العملية، خذ قرارك ولا تخافوا الله حاميكم»!

ويضيف عفيف: «بقينا. ثم، فجر الأحد، ونحن نذيع نشرة الأخبار بالليل سقط علينا الصاروخ الأول. مبنى المنار مكوّن من مبنى طولي وآخر عرضي ملتصق به: قصف الطولي بكامله. المبنى العرضي هو الاستوديوهات. مكتبي عند نقطة التقاء المبنيين، لكنني كنت بمكتب الحارس. وإذ بالسقف يقع علينا. انبطح الشباب فوراً تحت الطاولة، ورمى أحدهم بنفسه فوقي. تفقدنا بعضنا ثم نزلت إلى الاستوديو لتفقد الشباب. الحمد لله لم يصب أحد: فقط بعض الخلل وسقوط بعض القطع من السقف. قلت لهم: اهداوا الآن، وصرخت لمسؤول الأمن ليبدأ بإخلاء الشباب من المبنى. صرفت من باستطاعتي الاستغناء عنه، وأبقيت مجموعة وقلت لهم: أنتم استشهاديون... أريد مهندس صوت، مسؤولاً عن الـ(ميكسر)، مذيعاً، محررين وعامل (نيوز بار) وأنا. كنا أقل من عشرة»!

ويتابع عفيف: «في هذه اللحظة ونحن متجمعون لنناقش من يبقى استشهادياً ومن يمشي، طلع الصاروخ الثاني، وسقط على المبنى. فصرخت بأحد الشباب أن يأتيني بأوراق مهمة من مكتبي، فذهب وعاد ليقول: ما في مبنى أصلاً. على الفور أخذت قرار إخلاء الجميع».

تعليقات: