وليد غلمية.. سكتت أوركسترا الأصوات

الموسيقي وليد غلمية
الموسيقي وليد غلمية


غيّب الموت أمس رئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفتوار) الموسيقي وليد غلمية بعد صراع مع المرض وجراء أزمة قلبية مفاجئة في الجامعة الأميركية حيث كان يعالج، فسكت القلب الموسيقي نهائياً.

غيابٌ مفاجئ وحقيقي حتى الجرح والحزن، هو وليد غلمية من أولئك الأصدقاء المبدعين، الذين جسدوا زمن الشغف والثقافة والمعرفة والتفجر والإبداع ودمغوا الحياة الفنية والمهرجانات ببصماتهم وأصواتهم على امتداد 48 عاماً وأكثر.

خبر مزعج رحيل وليد غلمية، وكافرٌ هو الموت الذي يلملم أشياء الموسيقى والأحلام، من النوع الذي حلم به غلمية في عمر 6 سنوات الى تسلمه رئاسة المعهد في بنية قائمة ضخمة حققت انجازات على صعيد المناهج والبرامج التعليمية والحفلات والطاقات في مسيرة غيّرت الكثير من الأشياء في المنحى الكلاسيكي التقليدي.

استمر وليد غلمية الى حين وفاته وجه الكونسرفتوار المؤسس وهو واضع رؤياه وهويته وكادره وعناوينه ومواضيع حفلاته واتجاهاته الى إصداراته الموسيقية: وقد بدأ التأليف الموسيقي الاحترافي من عام 1963 منذ كلف بمهرجانات بعلبك الدولية.

لم يستطع أن يعرف غير الموسيقى والكونسرفتوار حتى النهاية. وكانت الموسيقى ما هو حقيقي في حياته تسمع صوته عالياً، مجسداً مهرجاناً بحد ذاته في مهرجانات "بعلبك" و"الأرز" و"بيت الدين" و"جبيل" و"البستان" و"نهر الوفاء" وفي الندوات واللقاءات والحفلات.. دائماً حاول تجديداً وجديداً في أعماله الموسيقية التأليفية والمقطوعات الموسيقية التصويرية والأوركسترالية والسمفونية والغنائية وموسيقى الأفلام السينمائية والمسرحيات وآخرها سمفونيته السابعة التي أطلقها أخيراً.

الأهم أنه كان صاحب تجربة إدارية مميزة حقيقة (وغير شكل)، اختراقاً على السائد في مهمة ليست سهلة جمعت الى فروع المعهد الجغرافيا اللبنانية كاملة بجهودٍ كبيرة متوازنة ومتداخلة وشاقة.

رحل وليد غلمية "الظاهرة" بكل معاركها الموسيقية الشرسة والمتميزة والخصبة، حيث مزج الواقع الموسيقي بعناصر الحياة وبنى دعائم جمهوريته الموسيقية.

حاول توظيف مسار حافل بالعطاء في خدمة فكرته ومؤسسته وسُمّيت بعض المراحل باسمه وبجهود متتالية وبمحطات قوية لا تتلاشى بحيوية وعناد وإصرار واضح كرجل مؤسساتي بامتياز. هو الذي جسد في الكونسرفتوار حيويات إدارية جديدة بنضارة وتمكن وليونة واتقان. أخصبت طاقة شبابية إبداعية موسيقية هائلة.

نفتقد كثيراً وليد غلمية. لكن رهانه لم يخسر، وهو احتفظ بلحظات عالية وشراكات وصداقات وعداوات أحياناً.. لكنه جسد مرحلة مهمة رائعة يبدو أنها بدأت تتبدد بكثير من روافدها ومكوناتها وأسمائها وتطلعاتها وخبراتها ومنصاتها ومشاعرها وعلى مساحة مع الارث العربي الموسيقي الشرقي والمخزون الثقافي الكبير، الى الانفتاح على الابداعات العالمية من دون حدود.

وليد غلمية نفقده، نسمع موسيقاه، وكل أملنا بالمؤسسة، وجهه وبأوسع ابتسامة اذا ما أحيطت بعناية كبيرة وباستمرار لكل الحياة الفائقة والزاخرة بالضوء والموسيقى والحواس والجنون والابداع وبكل الأشياء من تلك الطبيعة اللبنانية المؤانسة.

وليد غلمية مواليد مرجعيون في العام 1938، عازف ومؤلف موسيقي وقائد أوركسترا ورئيس المعهد العالي للموسيقى الكونسرفتوار ومؤسسه الى حين وفاته. دخل "دليل الأعمال البيوغرافية العالمية" في العام 2010 عبر منحه "الميدالية الذهبية" من المؤسسة الأميركية الدولية.

وردة ينعى الراحل

نعى وزير الثقافة سليم وردة الموسيقار الراحل وليد غلمية وتقدّم من اللبنانيين عموماً والموسيقيين خصوصاً وعائلته بأحر التعازي.

وجاء في بيان وردة: "غيّب الموت مساء اليوم (أمس)، رئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) الدكتور وليد غلمية بعد صراع مع مرض عضال. وبرحيل الموسيقار غلمية يفقد العالم الموسيقي اللبناني والعربي أحد أبرز شخصياته المعاصرة والمبدعة حيث قدم للمكتبة الموسيقية أبرز الأعمال الأوركسترالية من القطار الأخضر الى المتنبي الى تجربته الكبرى في المهرجانات اللبنانية على صعيد بناء مسرحيات غنائية لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم".

كما نعت وزارة الثقافة "الراحل الكبير".

وتُقبَل التعازي بالراحل قبل الدفن أيام الأربعاء والخميس والجمعة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى السادسة مساء في صالون كنيسة مار نقولا للروم الأرثوذكس في الأشرفية على أن يُقام الجناز له يوم السبت الواقع في 11/6/2011 عند الساعة الثانية عشرة ظهراً في كنيسة مار نقولا في الأشرفية ومن ثم يُنقل الجثمان الى جديدة مرجعيون ويوارى في الثرى في مدافن العائلة عند الثالثة عصراً.

...

..

.

وليد غلمية عاشق باخ والفلكلور العربي

المستقبل - الخميس 9 حزيران 2011 - العدد 4021 - ثقافة و فنون - صفحة 21

سحر طه

خبر صادم هو رحيل وليد غلمية. نكاد لا نصدق الأمر، ولا يمكن تخيل "الكونسرفتوار اللبناني"، او مشهد "الموسيقى الكلاسيكية" الشرقية او الغربية من دون حضوره أو قيادته.

ذلك ان حضوره طاغ دوماً ونشعر بوجوده سواء كان حاضراً في الصالة اثناء العروض او لم يكن. دائماً ننتظر منه حدثاُ ما او تصريحاً صريحاً او لاذعاً، والأهم، انتظار الجمهور اطلالة تلك القامة المهيوبة على الخشبة، سواء في "كاتدرائية القديس يوسف" في مونو حيث يقود الاوركسترا السمفونية اللبنانية، او في صالة "بيار ابو خاطر" ليقود "الأوركسترا الشرقية". او حضوره في احدى لجان المهرجانات التي كان عضواً فعالاً فيها.

كان على الدوام يهجس بإيجاد ثقافة موسيقية في لبنان لتوازي ما هو حاصل في دول الغرب، ولطالما واجه صعوبات وتحديات جمة ومتنوعة، في هذا البلد العجيب في تناقضاته، لكن لا شيء استطاع أن يحد من اندفاعه وإيمانه به، بل وإيمانه بشعبه الذي يتوق دائماً الى ثقافة موسيقية متقنة وهذا ما تمكن من تحقيقه خلال عشر سنوات منذ ان أسس "الأوركسترا السمفونية اللبنانية" والتي باتت خلال هذا العقد ثقافة جماهيرية شعبية ينتظر عشاقها مواعيدها الموسمية بشغف وترقب، وكانت صالة "كاتدرائية القديس يوسف" في منطقة مونو من بيروت، تغص الى الخارج بالرواد وفي مواعيدها المنتظمة والدقيقة.

اذن أرسى الراحل غلمية ثقافة السماع للموسيقى الكلاسيكية لدى شرائح توسعت يوماً بعد يوم خلال عشر سنوات، لتصبح هذه الموسيقى اليوم ضمن أجندة الكثير من اللبنانيين الذين وجدوا فرصة الاستماع الى ما كانوا سمعوه مسجلاً مثلاً على اسطوانات، او في عروض لاوركسترات أخرى، في انحاء العالم.

ومن ناحية أخرى شجع تأسيس الاوركسترا السمفونية والاخرى الشرقية الكثير من الشباب على دراسة آلات لم يكن كثيرين يتجرأون على دراستها لعدم وجود اوركسترا غربية، او ان الفرق الموسيقية الشرقية كانت تستعين بأسماء بعينها مع المطربين فحسب، لذا اصبح لكل عازف متخرج على آلة ومتقن ومتفوق مكاناً في هاتين الفرقتين.

في المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة "مهرجان البستان" للإعلان عن امسياتها التي مرت في شهر شباط، أثار وليد غلمية موضوع إنشاء "دار أوبرا" في لبنان، وناشد الدولة بالعودة الى تنشيط الموضوع، حيث ان قرار مجلس الوزراء عام 1976، خصص الأرض المزمع إنشاء دار اوبرا عليها وهي موجودة في منطقة العدلية وقال ان مواصفاتها تلائم انشاء الدار حيث الارض بعيدة عن الرطوبة والضجة ويسهل وصول الرواد إليها، وتمنى على الإعلام مساعدته لدى مجلس الوزراء لإعادة إحياء القرار وتطبيقه. وكانت غصة عالقة في عبارات غلمية حين قال ان كل البلاد العربية بات لديها دار أوبرا، "أبو ظبي"، "قطر"، "الشارجة"، "دبي"، وغيرها إلا لبنان، هل يعقل هذا؟".

وهنا شددت ميرنا البستاني رئيسة لجنة مهرجان البستان، "...بأن لا تهتم الدولة بتمويل إنشاء "دار الأوبرا"، لأننا باستطاعتنا أن نجد ممولين لها، فقط يعطوننا الأرض ونحن نتكفل ببناء المشروع، وطرح مسابقة لتصميم دار الأوبرا".

إذن كانت تطلعات الراحل ان يبقى لبنان منارة للإبداعات، ولم يكن يدير أذنه لأي كلام او جدال يثار في كل خطوة يخطوها.

ربما شكا بعض الموسيقيين والطلاب من صرامته حد القسوة احياناً، لكن يعرفون ايضاً أن المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه تتطلب هذه الصرامة، لأن الغالبية من شعبنا اعتاد الفوضى وعدم احترام المواعيد وتحمل المسؤوليات من هنا كان لا بد من ربّان صارم يقود السفينة الى بر الأمان بيدين من حديد ان تطلب الأمر.

وهنا لا بد من الاشارة ايضاً الى ان استاذ الموسيقى في المعهد الموسيقي كان يشكو الفاقة. فرواتب الموسيقيين مذلة لم تكن تكفي مصروف الجيب، وحين استلم غلمية المعهد، عمل بجهد لكي يكون راتب الاستاذ في المعهد الموسيقي يتلاءم وموقعه الاجتماعي وعمله وجهوده ومع تأسيس "السمفونية الغربية" و"الاوركسترا الشرقية" بات لهم مردود مادي ايضاً وبهذا بات الموسيقي يفخر بعمله ويجتهد اكثر في عطائه.

ومن ناحية اخرى، افسح المجال أمام مؤلفات الموسيقيين اللبنانيين الشباب لتأخذ طريقها الى جماهير الصالات، عبر عزفها في الأوركسترا الشرقية اللبنانية، اضافة الى القطع الموسيقية من مؤلفين لبنانيين كانت طي الأدراج، وهو ابرزها في الامسيات الموسيقية الى جانب اشهر المقطوعات التي كتبها مؤلفون من العالم العربي.

اضافة الى تقديم مؤلفاته المبنية على اسس فلكلورية وتوزيعات هرمونية وايقاعية شعبية تكاد تقترب من اسلوب المجري بيلا بارتوك ومواطنه زولتان كودالي فيدراسة واستلهام الالحان الشعبية والفلكلورية المحلية وصياغتها ضمن اساليب معاصرة حداثوية في تراكيب كانت تلهب حماس الجمهور بشكل دائم.

التقيت الراحل اوائل العام الماضي لمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس "الأوركسترا السمفونية اللبنانية" وكان فخوراً وخائفاً في الوقت عينه، ولهذه المشاعر المختلطة اسباب وقفنا عليها ملياً، وقد بات اسمها منذ ذلك اليوم "الاوركسترا الفلهارمونية اللبنانية" بعد ان فاق عددها المائة.

يومها منح "الوسام المذهب" من رئيس جمهورية النمسا، قلدته إياه سفيرة النمسا في لبنان. وكان يحضر نفسه والاوركسترا معاً لمرحلة جديدة من التحدي ومنافسة فرق عتيقة عمرها عشرات بل مئات ربما من سنوات الخبرة الادائية العالمية، لكنه كان يأمل بأن تكتب عنواناً آخر للبنان عبر الإبداع الموسيقي الذي يمثل مدى رغبة المجتمع والدولة معاً في الحياة وتخطي الصعوبات من أجل أن تكون لديه على غرار الدول المتقدمة "أوركسترا فيلهارمونية" يعلو اسمه من خلالها وليس عبر عناوين الحرب أو السياحة والطبيعة والمطاعم فحسب.

اذن هاقد رحل المايسترو وليد غلمية عاشق باخ والفلكلور العربي، وهنا نقتطف بعض محطات بارزة من الحوار الذي دار يومها مع الراحل، في اوائل كانون الثاني 2010.

[ في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات تأسست الأوركسترا السيمفونية الوطنية اللبناينة، ما هي التوجهات أو الطموحات من أجل مستقبل الأوركسترا واستمراريتها وقد بدأ العالم الغربي يلتفت إليها لتقديم عروضها في بعض الدول، هل آن أوان عبور الأوركسترا السمفونية حدود الوطن الى العالم لكي تأخذ مكانها الطبيعي بين أوركسترات سيمفونية سبقتها بسنوات، ولماذا لم تقدم عروضها بعد في العالم العربي؟؟

_ اليوم تخطو الأوركسترا السمفونية خطوات جادة بعد عشر سنوات من تأسيسها، إذ اتخذت قراراً وتمت الموافقة عليه لتصبح "الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية" بداية العام 2010 وعدد أعضائها 112 عازفاً يؤهلها لتصبح أوركسترا فيلهارمونية.

وبالفعل كما أسلفتِ فقد آن الأوان لتتخطى حدود الوطن رغم أن الإمكانات المادية غير متوافرة حالياً إذ يتطلب الأمر ميزانية كبيرة، ومن ناحية ثانية يبدو أن ليس في نية الدولة تحمل أعباء الأوركسترا ورفع اسم لبنان كدولة عبر أوركستراها السمفونية

أتمنى من دولة الرئيس سعد الحريري أن يكون السند الداعم للأوركسترا "الفلهارمونية اللبنانية" كما كان والده الشهيد سنداً فولاذياً في إنشاء "الأوركسترا السمفونية اللبنانية".

وللتذكير فقط فإن إسرائيل أسست أوركسترا سيمفونية عام 1936 أي قبل تأسيس دولتها، علماً بأن الأوركسترا اللبنانية أصبحت بمثابة وزارة للخارجية اللبنانية لأننا تفاعلنا وتعاطينا مع كل سفارات العالم وللأوركسترا علاقات مع كل البلدان العربية والغربية. وتعتبر كأي أوركسترا أوروبية جيدة رغم صغر عمرها، وهذا بشهادة أبرز قواد الأوركسترا الذين قادوها لسنوات وآخرهم المايسترو الايطالي ماركو غيداريني الذي قاد الأوركسترا في أمسية عيد الاستقلال في السرايا الحكومية، حيث أبدى إعجابه ووصفها بأنها مطواعة واعتقد أن هذه دعاية هامة للبنان الذي بات حاضراً على الخارطة الدولية من باب آخر، غير السياسة والمشاكل والحروب، بل موجوداً على الأجندة الثقافية الموسيقية في العالم.

من هنا أتمنى على الدولة أن يكون عندها النية والخطط لكي تبعث الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية في جولات الى مسارح العالم في إطار التبادلات الثقافية وبخاصة في بلاد الاغتراب كي يفخر اللبناني بأصوله.

وفي البلاد العربية أيضاً المعاناة نفسها التي نعانيها وهي عدم تخصيص ميزانيات لهذا نوع من العروض فالتبادل بيننا وبينهم عبر الأوركسترات يحتاج الى دعم مالي من الدولة.

وفي الآونة الأخيرة تلقينا رسالة من بيتر تيبوريس المدير العام للبرامج والإنتاج في مسرح "كارنغي هول" في نيويورك، وفيها دعوة لاستضافة الأوركسترا على المسرح لثلاث أمسيات في 29 و30 و31 أيار 2010.

وجاء في رسالة تيبوريس، قال: "وصلني من قائدة الأوركسترا جوانا مدور ناشف قرصاً مدمجاً، فيه أمسية كاملة للأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية. وبعد مشاهدتي إياه يسعدني أن أهنئك على أداء هذه الأوركسترا الرائعة، فأعضاؤها عزفوا بقيادتك في دقة موسيقية وشغف فني وحرارة أدائية وذكاء تعبيري. وإنني مغتبط جداً بقيادتك هذه الأوركسترا، والتأني في تفاصيل الأداء، وخصوصاً في أعمال شوبرت. إن أعضاء الأوركسترا محظوظون بأن تكون أنت قائدهم، لذلك، يسعدني ويشرفني أن أستضيف الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية على "مسرح كارنغي هول"...

لكن، يستطرد غلمية: للأسف كان في التفاوض جهة ثانية، لبنانية أميركية، بدا كأنها تسعى لتحصد انتصاراً وسمعة لها في هذا الموضوع، لذلك كان لي موقف صارم ورفضت الأمر كلياً، لأني أردت أن يكون الانتصار للأوركسترا اللبنانية وليس لأحد أو لجهة معينة.

[هاجس التأليف الموسيقي

[ بالعودة الى الطفولة والبدايات، ما الذي رسّخ لديك رغبة التأليف الموسيقي بحيث ضمت الاسطوانة الأولى "من ليالينا" عام 1967 مقطوعات موسيقية صرفة، وكنت مشاركاً في تأسيس مهرجانات "بعلبك" و"بيبلوس" فما الذي تتذكره؟

_ أولاً ولدت في "جديدة مرجعيون" المعروف حبها للثقافة والعلم، في بيت كان من أهم موجوداته الكتاب والمجلة والغرامفون. والدي كان تاجراً ويجلب بعض الآلات الموسيقية من ضمن ما يجلبه، وعيت على مندولين وكمنجة في البيت. توفي الوالد باكراً، كنت في السادسة من عمري ويقولون إنني كنت "شيطاناً".

الوالدة رحمها الله قالت إنها كي تعيد إليّ هدوئي وسكينتي كانت تشغّل لي أسطوانة على الغرامفون فأقف ساكناً أمام الاسطوانة بلا حراك. بعمر ست سنوات بدأت دراسة الموسيقى مع مبشّر سكن في بلدتنا "جديدة مرجعيون" وفي السابعة من عمري كنت أقرأ النوتات الموسيقية.

كان السؤال الملح منذ صغري: أنا كشرقي هل يجب أن أسمع أغنية طوال الوقت" سؤال بكل عفويته كان يتردد في بالي، وكنت أريد أن أسمع موسيقى شرقية لا أغنية. وبعد أن أنهيت علومي الموسيقية حتى مرحلة البحث الموسيقي بقي السؤال الأهم: لماذا موسيقانا غير درامية؟ أي لا تعبر عن حالة إنسانية عظيمة؟ لماذا نربط الموسيقى بالكلمة والقصيدة، هل اللغة هي الصيغة الوحيدة للتعبير؟

وقبل إصدار اسطوانتي الأولى "من ليالينا" بدأت بكتابة موسيقى "الشلال" لمهرجانات بعلبك الدولية وهي أربع افتتاحيات موسيقية، كانت تعتبر المرة الأولى التي تقدم فيها موسيقى صرفة في المهرجانات. ثم كانت حفلات "مهرجان بيبلوس" حيث كانت المعادلة تقديم ثلث الحفلة موسيقى وثلث غناء وثلث حوار.

كان لدي مطلق الحرية في العمل على ما أريده في المهرجانات. عملي في المهرجانات جزء كبير منه تأليف وتلحين أفادني وأوصلني الى ما أنا عليه بطريقة طبيعية ربطتني بجذوري حيث أن مؤلفاتي السمفونية في ما بعد وضعت فيها كل شرقيتي.

الوحيد الذي اشتغلت على التراثي والشعبي والسمفوني

هناك شيء أنفرد به. الكثيرون عملوا في المهرجانات في لبنان على صعيد شعبي وتراثي. أنا الوحيد الذي اشتغلت على الشعبي والتراثي والسمفوني. مثلاً، في بعلبك كانت تقدم لي الحركة الثالثة من سمفونيتي الرابعة "الشهيد" ثم دخلت في "مهرجان بعلبك" كقائد أوركسترا لمدة سنتين ورافقنا التينور بلاسيدو دومينغو في إحدى هذه الحفلات.

[ في البدايات كتبت موسيقى "مسرحية مجدلون" لروجيه عساف وأخرى ليعقوب الشدراوي وميشال نبعة وريمون جبارة وموسيقى تصويرية لبعض الأفلام وصولاً الى كتابة السيمفونيات وأخيراً قيادة أوركسترا سيمفونية، كيف تقرأ هذه المراحل والتطور الذي مررت به كموسيقي؟

- أجد أن هذه المراحل جاءت بتسلسل طبيعي عبر السنوات وكانت الكتابة الموسيقية هي الهاجس كما أسلفت، لذا بعد كتابات عديدة وتجارب لسنوات كان لا بد من الوصول الى كتابة السمفونيات والتي ضمت أبعاداً تاريخية عربية صميمة كعنصر أساسي، فمن سمفونية "القادسية"، الى "الشهيد" و"المتنبي" و"المواكب" على سبيل المثال استوحيتها من نصوص جبران خليل جبران وهكذا غيرها، واليوم أعد لسمفونيتي السادسة اسميتها "الفجر" إشارة الى بداية عصر اليقظة، وفي هذه الكتابات تبتكر لغة، تمزق لغة، تغمر وتدمر، تحب وتكره، تخلق وتقتل، تزرع وتحرق وهكذا...هكذا ابحث دوماً عن إضاءات ولمحات في تاريخنا أحولها الى لغة موسيقية.

نفتقد عازفين على آلة العود بعد رحيل

سلمان شكر وجميل بشير

[ وماذا عن الكونشرتات، لم تكتب مثلاً كونشرتو للعود والأوركسترا أو غيرها من الآلات، لم تلج هذا العالم بعد ما السبب؟

- مسؤولية فرقتين أوركستراليتين ليست بالمهمة السهلة، ناهيك عن مسؤولية المعهد الوطني وغيرها، كل هذه المهمات أخذت من وقتي الكثير، لكن حان الوقت لكتابة الكونشرتات بالفعل، فآلة القانون من أجمل الآلات الشرقية. وبالنسبة لآلة العود فبرأيي بعد سلمان شكر وجميل بشير نفتقد وجود عازفين على الآلة.

[ في أحاديثك وعملك يبدو تركيزك الدائم على الأوركسترا الضخمة، لماذا؟

-الأوركسترا تعتبر الحدث الموسيقي الأهم لأي شعب أو بلد. هي الباعث على التطور في كل شيء. الباعث على نشوء مؤلفين موسيقيين وعازفين وقائدي أوركسترا ونقاد وصالات وتربية الذوق لدى الجمهور وغيرها من أمور هامة تسهم في النهوض والثقافة والتوعية، قد لا يعيها الكثيرون. الأوركسترا بمثابة كرونولوجيا متكاملة لتحديد سلسلة من الأحداث في زمن ما وتاريخ ما. لذا عبثاً نحاول تطوير الموسيقى والبلاد من دون وجود أوركسترا. الأوركسترا، هي التي وعِبرها تتطور الموسيقى.

العزْف المنفرد على آلة ما جميل ومطلوب وجيّد، لكنه كشكل من أشكال الموسيقى لا يُسْهم في تطويرها، وعندما نقول، تطوير الموسيقى، نعني أن هذا يدخل في البناء الموسيقى، وانتقاء المادة الموسيقية، والتعبير، وتشكيل تنوُّع "الطنينات" للآلات الموسيقية ولتنفيذ أعمال تأليفية مبتكرة وملائمة للعصر.

[ كيف تنظر الى دور الدولة في الديمومة الثقافية ودور المجتمع المدني والمبادرات الفردية؟ ودور الحروب المتكررة في تدني الكثير من الابداعات؟

- الحرب أثرت كثيراً بلا شك، أو كانت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل. ومهما يكن من أمر الدولة ضعيفة أم قوية، لا يمكن أن نبقى مكبلين ومتكلين على المبادرات الفردية والمساعدات الخارجية التي قد توقف دعمها في حال بدأت تشعر بالخسارة وعدم الربح. وبالتالي هذه المساعدات دائماً تنطلق من معايير في البداية تكون ايجابية لكنها قد تتغير وتتبدل تبعاً للربح الشخصي. لذلك أطلب من الدولة أن تكون هي المبادرة والداعمة من دون أن يعني ذلك وضع يدها على العملية الإبداعية، فالرقابة سوف تقضي على الإبداع، لكن في الوقت نفسه من دون دعم الدولة كل الإرادات الفردية تذهب سدى.

لبنان بلد حلو وجميل جداً لكن كثيراً ما يعتمد على الفردية في المجالات الإبداعية وهذا شيء خطير لا استقرار فيه، فالاستمرارية ضرورية وعلى الدولة أن تحرص على ديمومة الحياة الإبداعية مهما كان على كاهلها من جبال وتراكمات وأولويات..

[ مسرح الأونيسكو للهدم

[ والمسارح قلت إنها في لبنان لا تصلح للموسيقى؟

- قلت هذا وبصراحة أولها مسرح "الأونيسكو" وهو تابع لوزارة الثقافة، أي الدولة، يجب أن يُهدم لأنه لا يليق بالوزارة. وقد أصبح مخصصاً للخطابات السياسية فحسب إذ أنه لا يصلح لتقديم العروض المسرحية أو الموسيقية. ولا غرابة أن نخصص مسرحاً بمساحة "الأونيسكو" للخطابات، إذ أن العملية الإبداعية العربية لطالما كانت وما تزال مرهونة بالمواقف السياسية، ولطالما نشهد "أهرامات" أو "قامات" فنية قائمة أساساً على الايديولوجيات السياسية، هذا يقف وراءه الحزب الفلاني وذاك التيار العلاني، مغنون وملحنون وموسيقيون يختفون في أوقات الإنزواء ويبرزون في أوقات الحاجة اليهم كبوق سياسي لقضية ما، هو الدجل بعينه مع الاسف.

[ عام 1991 تسلمت مسؤولية رئاسة "المعهد الوطني العالي للموسيقى ـ الكونسرفتوار" ومنذ ذلك الوقت تطور المعهد بحيث بات يقدم مناهج أكاديمية لدراسة الموسيقى العربية وآلاتها، العود والقانون والناي. ما الذي ينقص المعهد بعد ليصبح له صداه في الخارج وجاذباً لطاقات من بلدان أخرى؟؟

- أذكر حين استلمت المعهد الوطني أن عدد طلاب آلة القانون كانوا ثلاثة، اليوم هم أكثر من ستين. وطلاب العود قلة باتوا اليوم بالمئات، وكذلك الآلات الايقاعية الشرقية وغيرها. فقط لدينا مشكلة في التوجه نحو دراسة آلة الناي القصب، وقد أصدرت قراراً بإعفاء أي طالب يرغب بدراسة الآلة رغبة في استمرار وجودها بين آلاتنا الشرقية وبات العدد ربما عشرين طالباً اليوم. وطبعاً الكثير من التغيرات حدثت.

منذ استلامي المعهد وانا احاول التركيز على الاتقان وعدم ترك الامور وخاصة في دراسة الموسيقى الشرقية على عواهنها وعلى فطريتها، بل على الدارس ان يتقن المناهج قبل ولوجه عالم المهنة وان يكون حاملاً لثقافة وعلم وتقنيات مثل اي دارس للعلوم الغربية واشدد على الالتزام في ادق التفاصيل: التزام بالوقت والتمرين والملاحظات وروح الجماعة بعيداً عن الفردية وتشجيع الطلاب للعمل ضمن الفريق ضمن خلقيات وقوانين المعهد لذا نشهد اليوم اجيالاً من المتخرجين متقنين ومحترفين وملتزمين.

[ تقول انكم اول من وضع مناهج للآلات الشرقية مثل العود والايقاع وغيرها؟ رغم اننا نجد منهجاً للعود وضعه جميل بشير في الستينات ومناهج غيرها في مصر وتونس؟

- صحيح، جل المناهج العربية اما قديمة أو انها تعاني نقصاً في نواحٍ معينة. نحن وضعنا مناهج متكاملة للآلات الشرقية فمثلاً منهج جميل بشير للعود هو لمرحلة متقدمة يعني ان الطالب يجب ان يكون درس العود لسنة أو اكثر كي يبدأ بمنهج جميل بشير فيما نحن وضعنا منهجاً يبدأ به الطالب من الصفر وصولاً الى تخرجه والتوصل لمهارة معينة. بالنسبة لآلة القانون فعربياً يطبق نفس منهج العود، وهذا لا يمكن إذ للعازف ان يستخدم اصابعه العشرة بدلاً من اصبعين فقط.

[ أداء التقاسيم ممنوعة

[ لماذا تمنع التلميذ من أداء التقاسيم طوال فترة دراسته وأداءاته في الامسيات؟

- التقاسيم نوعان واحد يكتب ويدون من دون ايقاع أو ما يسمى ارتجال لحني وانا افضل تسمية "ارتجال" على "تقاسيم". والثاني من دون تدوين ويعزف تعبيراً حسب رؤية وإحساس العازف اي ارتجال على السجية. وهذا النوع الثاني ممنوع قبل أن ينال الطالب شهادة البكالوريا النهائية. وسبب منعه من ادائها هو ان التقاسيم نوع من التأليف فإذا لم يمتلك الطالب تقنيات العزف وتعرف على إمكانات الآلة بشكل كامل سوف تأتي ارتجالاته قاصرة ولن يتمكن من التعبير عن أفكاره التأليفية بشكل جيد في حين كلما تمكن العازف تقنياً تمكن من اداء افكاره وتنفيذها بشكل اكثر ابداعاً. وعادة عند الموسيقيين الشرقيين يكون هذا الارتجال ناتج عن احساس آني لكن اذا فقد التقنية سيعجز عن التعبير عن احساسه وما ينفذه سيكون ناقصاً.

كل التأليف الكبير يبدأ بالتقاسيم أو ما اسميه الارتجال، لكن البنائية فيه على قدر امكانات العازف. الكونشرتو تقاسيم بتقنيات خطيرة جداً. والتقاسيم جزء من تراثنا، لكن التقنية تساهم في منح العازف تعبيراً اكبر عن افكاره.

وعلى سبيل المثال آلة القانون فيها اثنان وسبعون وتراً فهل من المعقول العزف على ست اوتار فقط وبأصبعين وانا عندي عشر اصابع؟ علماً أن آلاتنا الموسيقية ذات صوت وإمكانات نبيلة لكن طريقة العزف هي التي تحط من قدرها وقيمتها..

وكنت اجريت من قبل دراسة حول علاقة الفكر الفلسفي العربي بالموسيقى العربية من خلال التقاسيم.

[ لماذا لا تعلمون التقاسيم اذن طالما هي جزء من تراثنا وهي بدايات التأليف الموسيقي؟ وطالما هناك تقاسيم تدون للعازف بالنوتة؟

- لا يمكن ذلك، اذا علمنا التقاسيم مشكلة كبيرة نقع فيها وهي خسارة الابداع الذاتي للعازف والاحساس الانساني، وسوف يقدم الجميع نسخاً مطبوعة ومشوهة. لان كل مؤلف سيفقد عملية التخيل حين يبدأ بكتابة معزوفته، فالمؤلف السمفوني يبدأ ايضاً بتخيل النوتات ارتجالياً الى ان يكتبها في عملية بنائية.

الموسيقى التقليدية العربية كلها مصدرها العراق

[ هل صحيح مقولة الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب ان كل الموسيقى في المنطقة العربية تشبه بعضها إلا العراق؟

- صحيح واعتقد ان الموسيقى التقليدية العربية كلها مصدرها العراق. عبر التاريخ عرفنا مثلث بغداد حلب بيروت هذا المثلث هو الركيزة الاساسية للموسيقى الشرقية ومصدر هام جداً عريق وحضاري تاريخي قديم، ولا شك ان مصر لها تاريخ عريق ايضاً، وهذه البلدان بسبب جغرافيتها وقربها من بلاد فارس وتركيا صار التلاقح والتلاقي ونعلم مثلاً ان الخديوي حين زار الاستانة اخذ معه وفداً كان من ضمنه عبده الحمولي وهناك سمع الاخير موسيقى تركية وحفظ تنقلاتها وسلالمها وعاد الى مصر وبدأ مذ ذاك بتأسيس مدرسة التلحين المصرية وكل من جاء بعده اخذ عنه وبهذا تطورت هذه المدرسة ومن ثم انتشرت بواسطة السينما المصرية لانها اول سينما عربية وكانت الاغنية من ضرورات تسويق الافلام وفرضت تياراً معيناً في التلحين ساد فيما بعد البلدان العربية.

وحين بدأت "مهرجانات بعلبك الدولية بدأت معها بوادر مدرسة التلحين اللبنانية وعمادها الاساسي الفلكلور وما لبث ان امتد هذا "الفيروس" الى العراق وسوريا والأردن حيث قلدوا هذه الانطلاقة اللبنانية بداية السبعينات.

[المعهد الوطني بعد غلمية

[ هل تمكنت من وضع اسس لمؤسسة "المعهد الوطني" والأوركسترا السمفونية والشرقية، يمكن ان تسير عليها المؤسسة بعد سنوات، اعني بعد ان تتقاعد وتترك المسؤوليات لغيرك؟هل تمكنت من خلق آلية واجيال يمكن ان تتعاقب على تسيير الامور بشكل آلي سهل؟

- بالطبع هذه المؤسسة الضخمة السائرة بدفع قوي جداً الآن، لا ادري ان كانت ستبقى بهذا الدفع؟ السؤال المطروح؟ هل هناك من يستطيع ان يتحمل كل هذا الضغط؟ اقصد هي مسؤوليات جمة تتطلب شخصاً محنكاً وموسيقياً وإدارياً يمسك بزمام الامور ويدفع بالمؤسسة الى التطور وعدم التراجع.

قد تكون لدينا آلية معينة في المؤسسة لكن هل يأتي الرجل المناسب في المكان المناسب. وانا طرح علي مسألة الدخول في ملاك الدولة لكني فضلت ان ابقى متعاقداً رغم ان التثبيت في الملاك افضل بالنسبة لي، لكن التعاقد يبقي المؤسسة بمنأى عن البيروقراطية والعراقيل الروتينية.

تعليقات: