الحشائش البرية في جبل الشيخ.. عودة الى الجذور

العكوب والدردار والجرجير والفطر والكرات والبقدونس البري
العكوب والدردار والجرجير والفطر والكرات والبقدونس البري


العكوب والدردار والجرجير والفطر والكرات والبقدونس البري

راشيا ـ

ليس على تخوم قرى راشيا الممتدة من عين عطا جنوبا إلى ينطا ودير العشاير شمالا مرورا بقرى السلسلة الشرقية وصولا إلى قرى الوسط أي مقومات أو ثروات للاستثمار التجاري أو الصناعي، إنما هناك جبال وهضاب وأودية وسهول لا تزال تحفظ ماء الوجه من التلوث المقيت الذي انسحب على كثير من المناطق الجبلية بفعل استثمار تلك الاماكن بطريقة تسيء الى الطبيعة ومناخاتها وبيئتها.

فمن جبل الشيخ وامتداداته الطولية إلى جبل عربي وما يحيط به من هضاب وأودية، تجد أبناء القرى في راشيا منشغلين بجمع الحشائش البرية على مختلف أنواعها، ليحصلوا "أكلة مشا" من هنا أو "طبخة عكوب" من هناك أو "شنطة قرص عنّة" من خلة ليست بعيدة عن طريق .

جمع الحشائش البرية لم تعد هواية تمارسها ربات المنازل في أوقات الفراغ أو في مشوار إلى الطبيعة، بل أصبحت مهنة لعشرات الأسر ممن ضاقت بهم سبل العيش وراحوا يفتشون في الجبال والهضاب والأودية عن أبواب رزقهم مما تيسر لهم من أعشاب باتوا يوضبونها في أكياس لتباع في بيروت والجبل وفي الاسواق او على قارعة الطريق او في قراهم والقرى المجاورة ممن لا يكلفون انفسهم مشقة السير إلى البرية أو يخافون الأشواك والأفاعي والعقارب.

أبو رامي فوزي مغامس الذي نظم عقدا مع البرية لاستثمار كل المواسم، لا يعرف الهدوء. يسابق الفجر لينسل من باب خلفي في منزله البسيط كي لا يقلق أولاده الأربعة. يصطحب زوجته ووالدته ومن يقصده من ابناء الضيعة، ليخلد هضاب جبل عربي غرب بلدته كوكبا. عدّته "بيك أب" صغير وعشرات الأكياس الكبيرة الحجم ومعاول وسكاكين لقلع نبتة العكوب وتشفيتها من الأشواك مباشرة كي يتسع الحمل لأرطال اضافية.

أبو رامي الذي يعرف طبيعة تلك الجبال لا يحتاج إلى أن يبحث عن أماكن العكوب، فالتجارب الموسمية علمته أين تتموضع نبتات العكوب بكثافة، فيقصدها مباشرة، مع أول أيار وإن كان هذا العام قد نضج باكرا تبعا لغزارة المطر.

ويعرض أبو رامي فوائد العكوب التي تبدو بالنسبة له شبه صيدلية. إذ لا ينفك يعدد لزبائنه قدراتها الشفائية لعشرات الأمراض والأوجاع وما فيه من ألياف ومضادات حيوية وتقوية العظم والمناعة والحديد ودواء للروماتيزم ووجع الظهر ومقو جنسي وتنقية الدم، حتى لتكاد تقتنع أن العكوب هو النبتة التي يبحث عنها جلجامش في ملحمته والتي تمنح المرء شبابا دائما. وهذا ليس غريبا على "ابي رامي"، وهو موصوف بمغامراته في البرية وفق ما يرويه عن معركة مع افعى طولها ثلاثة أمتار أو تصديه لذئب كاسر أو محاربته ضبع مفترس.

أبو رامي يقصد دوار بعقلين ليبيع أرطال العكوب المنقى بعناية حيث له زبائنه و"مراق الطريق" فثلاث ساعات تكفيه كي ينفق عشرات الأكياس التي تحوي رطلين أو ثلاثة من العكوب بعشرين أو ثلاثين ألف ليرة.

والمكان هو دكانه الصغير في سيارته البيك أب التي كان يودع فيها أكياس المشا والقرص عنة والزويتي والثومية والدردار والفطر البري، والقرة والجرجير والكرات والسبانخ البرية والهندباء والبقدونس البري من تحت أجباب السنديان والملول إضافة إلى البلعصون وكف الدب وغيرها من الحشائش البرية التي لا يتوانى أبو رامي عن اقتلاعها وتوضيبها بعد تنظيفها لتباع بالجملة أو بالمفرق.

يمتهن أبو رامي هذا الكار منذ أكثر من 15 سنة، اذ لا وظيفة تؤمن له ما تحتاج اليه البيوت من مدارس ومونة وطبابة وتدفئة، ناهيك عن الطعام والشراب وغيرها من مستلزمات الحياة من كهرباء وماء وهاتف وضرائب فكيف الحال في هذا الزمن الذي يعتبره ابو رامي زمن التنكيل بالفقراء ونفض الجيوب، متسائلا أين الضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة ومجانية التعليم والاستشفاء، واين الحكومة التي تبخرت ولم تجد لها طريقا. لكنه بالمقابل يتأمل خيرا بالبلد الذي تعود ان ينتفض دائما على الجور وان يتوهج من تحت الرماد.

وتفتقد الجبال في مثل هذه الايام في زمن العكوب، إلى أبو حاتم فندي "مارد الجبال"، كما يسمى في بلدة كوكبا، والذي كان يغير على جبل عربي منفردا فيحمّل سيارته المرسيدس القديمة حمولة بيك أب ويجمع من العكوب ما لا يجمعه خمسة رجال، يوضبها ويقصد قرى قضاء حاصبيا. زبائنه الذين افتقدوه هذا العام بعد أن أودع الروح بارئها منذ اشهر قليلة حيث كان قبل يومين من وفاته يعمل في الارض بهمة قوية وعزيمة لا تلين.

عشرات العائلات في قرى راشيا باتت البرية مورد رزقها بعد أن ضاقت فرص العمل واتسعت حاجات البيوت وكبرت متطلبات الحياة، حتى لكأن الانسان في طريق العودة الى الجذور، إلى دفء الارض التي لا ترد احدا بل تقدم كل ما في جعبتها دون منّة أو جميل ودون مقابل، شرط ان يحافظ عليها نضرة بعيدة عن التلوث والمبيدات والسموم، وعن شر الكسارات والمرامل والمصانع التي تنفث الموت والسموم.

تعليقات: