القذافي وعلاقته بالقوى اللبنانية: أسرار امتدت لثلاثة عقود

الحركة الوطنية اللبنانية تلقت دعماً لسنوات من نظام القذافي بعدما اعتبر رمزاً نضالياً عربياً. مقاتلو الحركة الوطنية كانت اسلحتهم من ليبيا، وتدريباتهم تجري في الاراضي الليبية. ( )

قبل اقل من عامين تحدث بيان وزع في بيروت عن قيام وفد من نحو 30 شخصية لبنانية بينهم اصحاب مهن حرة ورؤساء بلديات وشخصيات في طرابلس الغرب، وقابلوا الزعيم الليبي معمر القذافي، وتداولوا واياه في قضايا تتصل بالوضعين اللبناني والعربي عموما.

وربما كان هذا الوفد آخر وفد لبناني يقابل الرجل، اذ بعده لم تأت المعلومات على اي انباء عن لقاءات بينه وشخصيات او وفود لبنانية.

ووفق المعلومات فإن زيارة هذا الوفد اتت، من ضمن توجهات للنظام الليبي، الذي يهتز منذ مدة مؤذناً بالسقوط الوشيك، تقضي بالعمل وفق اي السبل وهي محاولة للعودة مجدداً الى الساحة اللبنانية، في محاولة مكشوفة لاستعادة الحضور الليبي في كل هذه البقعة التي كانت في مرحلة من المراحل واحدة من "الرئات" الاساسية التي كان يتنفس منها وعبرها، ويمارس فيها ومن خلالها طموحاته واوهامه السياسية وغير السياسية.

ليس خافياً ان علاقة القذافي ونظامه، وما انطوى عليه من مشاريع متعددة وما ابتكره من تطلعات وافكار عابرة للأقطار والساحات العربية، بالساحة اللبنانية على وجه التحديد راوحت ما بين مدّ وجزر، واقدام واحجام، ولكن المفصل الاساس والعلامة الفارقة في رحلة هذا الرجل الملتبس والمغامر، عبر هذه الساحة كانت مسألة اختفاء الامام السيد موسى الصدر، ابان رحلة كان يقوم بها هذا القائد المميز لطرابلس الغرب في اواخر آب العام 1978، وقبل هذا التاريخ وبعده بقي ظل القذافي ممتداً على الساحة اللبنانية وله مع العديد من اشخاصها ورموز بعض قواها السياسية خزان اخبار واسرار.

ربما كان ابرز الكاتمين لها والعارفين بخفاياها الامين العام السابق للحزب الشيوعي والقائد المخضرم جورج حاوي الذي قضى غيلة في مطلع عام 2006، طاويا صدره على هذه الاسرار كونه واحدا من قلة نادرة ومن الشخصيات اللبنانية والعربية ظل القذافي يقبل بالتواصل معها، وهو المعروف بأنه من "العيوفيين" الذين لا تطول صحبتهم لاحد، التي ولا تمتد ثقته بأحد، اذ ما يلبث ان ينقلب عليه وفق كل الذين يقيض لهم ان يقاربوه.

من الصعوبة بمكان ايجاد جردة حساب عميقة لعلاقة القذافي بالساحة اللبنانية، لاعتبارين اثنين:

الاول: لطول هذه العلاقة الممتدة الى اكثر من ثلاثة عقود.

الثاني: لتشعب هذه العلاقة وتعقدها ومراوحتها ما بين الدعم المادي البلاحدود، الى تصدير الافكار والاسرار، الى اصدار الصحف ودور النشر، ومراكز البحوث والدراسات، مرورا بالمشاريع الاقتصادية والعمرانية، وصولاً الى حد انشاء الاطر السياسية (كان يكره تسمية الاحزاب)، وما يندرج تحتها من لجان ثورية ومؤتمرات ذات طابع قومي.

ورغم ذلك، فلا بد من الاشارة استهلالاً الى ان جذور هذه العلاقة تضرب الى مطالع عقد السبعينات في القرن الماضي. في ذلك الزمن الغابر، كانت الساحة اللبنانية تحتضن كما هو معلوم قوة اساسية ناهضة وواعدة هي "الحركة الوطنية" اللبنانية بتلاوينها اليسارية والقومية والبين بين، وهي تضع نصب اعينها، لا سيما بعدما تضخمت وانتجت من نفسها قوة متعاظمة، القبض على مقاليد تغيير المعادلات والموازنات الداخلية اللبنانية لمصلحة برنامج تغييري، والى جانبها كانت هناك الفصائل الفلسطينية المنتقلة آنذاك لتوها الى هذه الساحة بعدما نجح النظام الاردني في طردها من بلاده بعدما ألحق بها ضربة عسكرية موجعة.

ولأن القذافي كان عهدذاك في ذروة تألقه الثوري، كوريث للناصرية التي رحل رمزها الابرز جمال عبد الناصر، وقد رحل لتوه تحت وطأة نكسة عام 1967، تاركاً تياراً شعبياً عربياً ممتداً وعريضاً ملكوماً، يبحث عن مثال آخر، توجهت انظار الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية الى القذافي الشاب، الممتلئ وعودا وثورية وحماسة لا تهدأ، وجعلته بالتالي معقد آمالها ومربط احلامها.

وفي المقابل بدا واضحا ان القذافي الذي كان يعيش، حتى يومذاك، على مجد احتضان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتسميته اياه بالامين على القومية العربية، والذي خال انه الوريث الشرعي للزعامة الناصرية، وجد ضالته في الساحة اللبنانية والقوى والتيارات اللبنانية والفلسطينية الموجودة فيها على حد سواء.

ووفق معلومات وذكريات بعض من قدر لهم ان يعاصروا عن كثب تطورات تلك المرحلة، وخفايا تلك العلاقة، فإن القذافي اتخذ لنفسه نخبة سياسية لبنانية جعلها بمثابة مجلس مستشارين مقربين منه، يرفدونه بالافكار والرؤى والمشاريع الهادفة جميعها الى جعله قطب المرحلة في العالم العربي، الذي شعر بأنه بات بلا اب روحي له بعد غياب عبد الناصر.

واللافت ان تلك المجموعة التي اتخذها الزعيم الليبي يومذاك دائرة مستشاريته الضيقة والموثوقة كانت تضم شخصيات تنتمي الى كل التيارات السياسية الصاعدة في تلك الحقبة، اذ كان فيها الشيوعي والناصري والقومي السوري والتقدمي الاشتراكي، وحتى من كان يعتنق فكر حزب البعث.

واللافت ان هذه النخبة السياسية الفكرية نجحت في تأمين جسر علاقة متينة بين القذافي والساحة السياسية والاعلامية اللبنانية، وذلك من خلال تلميع صورة الزعيم الليبي في الوسط السياسي والاعلامي والفكري والثقافي اللبناني، وتقديمه في صورة القائد الثوري صاحب الرؤية الذي يتخطى كونه رئيس دولة عربية محدودة السكان.

ولا بد من ان كثيرين ما زالوا يذكرون كيف ان الراحل جورج حاوي اطلق على القذافي ونظامه مصطلح "المثابة الثورية".

وفي المقابل صارت العاصمة الليبية مقصد عشرات الوفود والشخصيات اللبنانية، اما الباحثة هناك عن دور وموقع وتمويل لمشروع ما سياسي او اعلامي او ثقافي، وإما للمشاركة في مؤتمرات ومناسبات ومهرجانات متنوعة الاهتمامات كانت تنظمها دوائر القرار في النظام الليبي. والغاية القصوى المضمرة لهذا النشاط المحموم، ايجاد جسور تواصل بين اوسع الشرائح اللبنانية و"المركز" الليبي.

وهكذا وغداة اندلاع الحرب الاهلية في لبنان العام 1975، كانت ليبيا القذافي حاضرة بقوة في الوسط السياسي والاعلامي والثقافي من خلال:

1 - قوى وتيارات سياسية ترتبط مباشرة بالقيادة الليبية وتعمل وفقاً لتوجهاتها ورؤاها، وغالبيتها من القوى والتيارات والمجموعات الناصرية الهوى والتوجه.

وتذكر ادبيات تلك المرحلة بان الاحصاءات سجلت في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، اسماء نحو 18 تنظيماً وحزباً وتياراً يدعون النسب الى الناصرية وفكرها، ولكن لكل منها قيادتها الخاصة وقاعدتها الجماهيرية واطارها التنظيمي والعسكري وقواعدها المختلفة.

ومن المفارقات التي تذكر ان كل هذه القوى والمجموعات كانت توالي القذافي وتجعل منه رمزها وقائدها وتتلقى منه الدعم والرفد المالي والسياسي، ولقد بذلت لاحقاً محاولات لجمع هذه القوى تحت لواء واحد، ولكنها لم تنجح. فيما حاولت القيادة الليبية في تلك المرحلة ايجاد مظلات عامة تعمل تحتها هذه القوى، مثل "رابطة الطلبة العرب الناصريين الوحدويين" و"التنظيم الناصري العربي" و"المؤتمر العام للأحزاب الناصرية"، ولكن الواضح ان هذه الاتحادات الناصرية لم تعمر طويلاً.

2 - دعم وتمويل اصدار صحف يومية واسبوعية شهرية خصوصاً في بيروت، التي كانت يومذاك عاصمة الصحافة العربية الحرة.

3 - انشاء دور نشر مثل دار "المسيرة".

4 - انشاء مراكز بحوث ودراسات وابرزها "معهد الانماء العربي" الذي كان مركزه الاساس في طرابلس الغرب، لكن مقره في بيروت (في محلة بئر حسن) كان الافعل والانشط، اذ عكف على اصدار اكثر من 250 كتابا وموسوعة، اضافة الى مجلة دراسات شهرية (تحولت لاحقاً فصلية)، اضافة الى تنظيم ندوات ومؤتمرات علمية وثقافية وفكرية...

واللافت ان هذا المعهد جمع خيرة المثقفين والكتاب والصحافيين اللبنانيين، الذين كانوا يعملون كباحثين متفرغين او متعاقدين او متعاملين. وكانت رواتبهم هي الاعلى، الى درجة ان البعض عدّ هذا المركز وكأنه مركز انشئ خصيصاً لربط مثقفي لبنان والنخبة الفكرية والعلمية والجامعية فيه، بنظام القذافي، وهو اسلوب اتبعته معظم الانظمة التي كانت لها تطلعات كبيرة عابرة حدود بلادها.

5 - دعم وتمويل مشاريع عمرانية وصحية وتربوية في المدن والبلدات والقرى التي سيطرت عليها، احزاب وقوى "الحركة الوطنية" من العام 1975 وحتى العام 1982.

واللافت انه في تلك المرحلة كان نظام القذافي يتعاطى مع كل القوى الوطنية واليسارية والقومية الموجودة في لبنان، ولم يفكر في انشاء اطر واحزاب خاصة به، مع انه كان يدعم قوى وشخصيات اكثر من سواها تحت عنوان انها قريبة منه في شكل مباشر، او تعتبر امتداداً له، خصوصاً الاحزاب ذات التوجه الناصري.

وليست جديدة الاشارة الى ان التنافس كان في تلك الحقبة على اشده بين النظامين العراقي والليبي على الساحة اللبنانية، وعلى اكتساب ود قواها واحزابها الوطنية، وان سوريا كانت تفيد من الحضور الليبي الذي كانت تعتبره رصيداً لها وداعماً لتوجهاتها للحد من تنامي نفوذ النظام العراقي.

وظلت الصورة على هذه الحال حتى اختفاء الامام الصدر ابان زيارته ليبيا في العام 1978، اذ صار القذافي ونظامه عدواً لشريحة من اللبنانيين الذين اتهموه مباشرة بجريمة اخفاء الامام الصدر والشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين.

ومذذاك فتحت حركة "امل" حربا لا هوادة فيها على النظام الليبي وامتداداته ورموزه في لبنان. ومن ذلك الحين اضطر النظام الليبي الى ان يسلك سلوكاً مغايراً على الساحة اللبنانية، لا سيما بعدما شعر بأنه بات طرفاً في هذه الساحة، وان القوى التي ظن انها ستكون الى جانبه وتدافع عن وجوده في لبنان بدأت تعيد حساباتها، لا سيما بعدما رفعت حركة "امل" وتيرة استهدافاتها وهجماتها على الديبلوماسيين الليبيين وعلى كل القوى والفصائل التي كانت تدور مباشرة في فلك النظام الليبي.

وازداد وضع النظام الليبي على الساحة اللبنانية صعوبة وحراجة بعد انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في صيف عام 1982، في اعقاب الغزو الاسرائيلي الواسع النطاق للأراضي اللبنانية في ذلك التاريخ، وفي اعقاب سيطرة حركة "امل" على الوضع في بيروت الغربية في أعقاب ما صار يعرف في القاموس السياسي اللبناني بـ"انتفاضة السادس من شباط" العام 1984، واضطرار طرابلس الغرب الى سحب كل بعثتها الديبلوماسية من لبنان، بعد ذلك التاريخ، ولا سيما بعد اقتحام السفارة الليبية في منطقة بئر حسن.

وعموماً بعد اختفاء الامام الصدر في ليبيا، وبعدما بات نظام القذافي مستهدفاً من جانب حركة "امل"، وبعد تغير الاوضاع جذرياً في الساحة اللبنانية في أعقاب اجتياح العام 1982، وما تلا ذلك من تقلص لدور الحركة الوطنية، وضمور حضور اغلب احزابها، وانفراط عقدها الجامع (اللجنة التنفيذية والمجلس السياسي للحركة الوطنية)، وفقدانها ذراعها العسكرية المتمثلة بقوات الفصائل الفلسطينية، وصعود نجم حركة "امل" وضعف عصب التيار القومي، بدا واضحاُ ان نظام القذافي بدأ يسلك مسلكاً مختلفاً وينفذ اداء مغايراً على الساحة اللبنانية، تمثل بالآتي:

- وقف ضخ الاموال والمساعدات والمخصصات المالية لاحزاب وقوى معينة.

- قطع العلاقة مع قوى واحزاب كانت حتى الامس القريب تعمل وفق توجيهاته. بل ان القذافي ساهم في احداث انشقاقات في داخل هذه القوى، ولا سيما القوى الناصرية.

- وقف انشطة كل المؤسسات والمعاهد والمرافق التي كان نظام القذافي انشأها على الساحة اللبنانية، ومن بينها معهد الانماء العربي.

- وقف زيارات الوفود اللبنانية الى ليبيا والتي كانت تتم في شكل شبه يومي.

- انصرام حبل العلاقة بين القذافي والمجموعة اللبنانية التي كانت بالنسبة إليه بمثابة حلقة استشارية.

- ولم يسجل اي دور مميز في دعم ما يقدمه القذافي لجبهة "المقاومة الوطنية اللبنانية" للاحتلال الاسرائيلي، وهي الجبهة التي بدأتها احزاب يسارية وقومية غداة الاجتياح الاسرائيلي للأراضي اللبنانية. وبدا جلياً لكل الذين حافظوا على شكل علاقة وتماس مع النظام الليبي، ان رموز هذا النظام بدأوا يتحدثون في شكل سلبي عن حلفائهم السابقين في لبنان، وعلى ادراجهم في خانة "الخونة" و"الغدارين" و"الخائفين"من غضبة حركة "امل" والشيعة عموماً.

- شرع النظام الليبي في اتباع نهج معين في العلاقة مع الساحة اللبنانية كما مع بقية الساحات العربية قوامه انشاء اطار سياسي معين مركزه في طرابلس الغرب، على ان تكون له خيوط علاقة من نوع ما مع الساحة اللبنانية وسواها.

وتعددت هذه الاطر ضمن "المؤتمر الشعبي العربي"، الى "اللجان الثورية العربية"، الى "المثابة الثورية العربية"، واخيرا وليس آخرا الى "الملتقى الثوري العربي الديموقراطي". وتكفل هذه الاطر بالقيام بأنشطة ومؤتمرات معينة ومناسبات معينة تارة في بيروت وطوراً في صنعاء وسواها.

- قطع العلاقة بين طرابلس الغرب، وفصائل فلسطينية بعينها، كانت في وقت من الاوقات محسوبة بالكامل على النظام الليبي، مثل "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" بزعامة احمد جبريل، والابقاء على علاقة مميزة مع "فتح – المجلس الثوري" بزعامة الراحل صبري البنا "ابو نضال" الذي كان قبيل اغتياله في بغداد في اواخر عقد التسعينات، طريد كل العواصم العربية.

وحتى بداية الحصار الاميركي – الغربي على ليبيا في التسعينات من القرن الماضي، والذي دفع القذافي الى الانكفاء الى الداخل كلياً، كان الحضور الليبي في الساحة اللبنانية في اضعف حالاته، ان لم يكن معدماً، فلا تمثيل ديبلوماسياً، ولا نشاط معيناً يميز حضوره، بعدما كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، وهو الذي ظن في يوم من الايام انه يقبض على زمام الساحة اللبنانية حتى انه تجرأ في حقبة السبعينات ودعا مسيحيي لبنان الى "الاسلمة" بالكامل.

واللافت انه، بعدما نجح نظام القذافي في انهاء قضية "لوكربي" والحصار الغربي والدولي على بلاده، سعى الى فتح الابواب مجدداً على الساحة اللبنانية من خلال امرين اثنين:

الاول عرض عبر اكثر من طريق ايجاد تسوية لقضية الامام الصدر، تارة عبر تحميل مسؤولية قتل هذا القائد المميز، لـ"ابو نضال" الذي كان قتل في بغداد، وتارة اخرى عبر عرض دفع مبلغ ضخم من المال.

الثاني: العمل على فتح قنوات اتصال غير مرئية بواسطة بعض الموفدين الذين كانوا يصلون سراً عبر سفارته في دمشق، مع عدد من الشخصيات والقوى اللبنانية، ولا سيما تلك المحسوبة على المعارضة السابقة.

ولكن الواضح انه، فيما اخفق اخفاقاً تاماً في المسألة الاولى، لم ينجح في تحقيق اختراق واسع في المسألة الثانية.

...

..

.

تعليقات: