ثورة مصر تفتح باب الغد العربي الجديد

ولادة جديدة للثورة تحاصر النظام
ولادة جديدة للثورة تحاصر النظام


كما يطل الفجر هالة خافتة الضوء تبشر بانبلاج الصبح شمساً تنشر نورها لتكون الحياة، كذلك أطلت انتفاضة الشباب في مصر، وها ان الوطن العربي بأقطاره جميعاً، في المشرق كما في المغرب، يتعرف على ذاته ويكتشف قدراته ويتحرك مندفعاً الى صنع تاريخه الجديد.

إن ميدان التحرير في قلب قاهرة المعز هو الآن «المركز»، ففيه يؤكد شباب مصر قدرة «الشعب» الأعزل إلا من إرادته، على تغيير واقعه المهين، حتى في مواجهة أعتى قوى التخلف والدكتاتورية المعززة بقدر من الحماية الأجنبية، وإسرائيل ضمنها وفيها وليست خارجها.

ففي ميدان التحرير في قلب قاهرة المعز، كما في الميادين والساحات والشوارع في سائر مدن مصر وقصباتها، يستعيد الشعب حقه في كتابة تاريخه، مستكملاً ما باشرته الانتفاضة المباركة في تونس، مضفياً على تكامل التجربتين القرار بإعادة صياغة الواقع العربي بإرادة الناس وعبر المواجهة المباشرة مع حكام القهر والعسف في العديد من «الدول» العربية التي يغّيب حكامها شعوبها، موكلين الى أنفسهم مهمة تمثيلها بتفويض مطلق ومفتوح... إلى الأبد.

لقد أثبت فتية مصر، ما كان أكده قبل أسابيع قليلة فتية تونس، من ان اجتماعهم على الهدف أقوى من كل أسلحة القمع التي يمتلكها السلطان، وأفادوا من بعض حقائق العصر وأهمها أن العالم قد غدا قرية كونية، وان وسائل الاتصال الحديثة تربط بينهم وتوصل أصواتهم الى العالم كله وليس الى بعضهم البعض فقط، فتنوب عن المنظمات والأحزاب ووسائلها التقليدية (البيانات والمنشورات السرية وحتى الكاسيت التي تعمم ليلاً وخلسة، واللقاء بعيداً عن أنظار شرطة القمع وأجهزة التنصت)..

لقد حطم هؤلاء الفتية الأبرار حاجز الخوف في طول الوطن العربي وعرضه، بل انهم نجحوا في نقل الخوف الى سلطة القمع وأجهزتها، فإذا هي ترتبك وتنشق على نفسها، لا سيما أن الجيش - في تونس بداية وفي مصر الآن - قد اتخذ الموقف الحاسم والحافظ لشرف سلاحه الذي يحمل تاريخ مواجهاته مع الاستعمار البريطاني ثم مع الاحتلال الإسرائيلي.

وها هي شرارات الثورة تتطاير فتشعل الحرائق في قصور أهل النظام العربي من أقصى المغرب الى أدنى المشرق.

واذا كان لتونس الفضل في إطلاق الرصاصة الأولى فإن المعركة الحاسمة على المستوى القومي هي هذه التي تشهدها مصر وتتوالى تداعياتها في مختلف الأرجاء.

بعد تونس، ونتيجة للجغرافيا، ارتج النظام الحديدي المقفل على نفسه في الجزائر، فإذا به يفتح خزائنه المتخمة بالذهب ليحاول رشوة شعبه ببضعة مليارات من الدولار، خفضاً في أسعار الحاجيات الضرورية، وبإطلاق سيل من الوعود بتنفيذ مشاريع عمرانية وإنتاجية كانت نائمة في أدراج حملة الأختام في انتظار الرشوة الأعلى.

الأخطر: إن هذه النظام الذي يحكم كغيره من أنظمة القمع في الدنيا العربية قد اضطر الى رفع حالة الطوارئ المعلنة في البلاد منذ بداية التسعينيات، والتي اتخذ النظام من تنامي شعبة الإسلاميين وفوزهم في المرحلة الأولى من الانتخابات التي عطلها خوفاً من الفوز الكاسح لأولئك الذين كانوا رفاق السلاح في ثورة التحرير ثم في جبهة التحرير الوطني الحاكمة!

... وفي المغرب يسود القلق، فبرغم ثبات العرش إلا أن الأحزاب التي تتناوب على الحكم في ظله، قد شاخت بمعظمها، وغيب الموت أو المرض قياداتها ذات التاريخ النضالي، وتقدم الصفوف «نخب» من البيروقراطيين أو الخارجين من أحزابهم أو عليها، في حين يغرق الشعب المغربي في دياجير فقره، وتختفي خلف الواجهات اللامعة للمدن، بعيداً عن القصور الملكية الهائلة الفخامة، مدن الصفيح التي يحتشد فيها - بمجموعها - ملايين الفقراء والمعدمين والعاطلين من العمل، من أحفاد أبطال التحرير الذين قضوا في ميادين الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي وحفظوا كرامة العرش وأسرته الحاكمة.

أما في اليمن فقد أكمل الحاكم بأمره في صنعاء فصول الكوميديا التي يلعب بطولتها منذ دهر، والتي يتقلب دوره فيها بين الخليفة والإمام والسلطان والرئيس المنتخب وشيخ العشيرة والقائد الأعلى والإمبراطور... وهكذا خرج على الناس معلناً التوبة عن طلب التمديد أو التجديد، مقسما بأغلظ الإيمان انه لن يورث الحكم ـ باعتباره من ضياعه ـ ابنه أو أخاه أو بعض ذوي القربى، وانه سيجري انتخابات حرة، وانه سيرفع يده عن المؤسسات لكي تسود الديموقراطية والعدالة والمساواة بين مواطنيه الذين يهربون من بؤس فقرهم الى الجنة الوهمية في مجالس القات حيث يخزنون أحلامهم في التغيير!

فإذا ما اقتربنا من قلب المشرق فوجئنا برئيس الحكومة التي لما تكتمل في العراق نوري المالكي، يخرج على الناس متعهداً بألا يطلب ولاية ثالثة، مع انه بالكاد قد باشر ولايته الثانية، وبعد انتخابات مدولة، شاركت فيها إضافة الى الإدارة الاميركية وقوات احتلالها التي استكملت ما كان بدأه الطاغية صدام حسين من تدمير للعراق، دولة ومؤسسات ووحدة شعب، دول عدة، أبرزها تلك التي في الجوار، ثم العشائر والقبائل والطوائف والمذاهب والعناصر، التي أسهم الجميع في استيلادها، مرجعين أرض الرافدين الى مرحلة ما قبل الدولة، فارضين على شعبه ضروبا من التقسيم الأخذ الى حرب أهلية لا تنتهي.

ولعل ملك الأردن الذي بالكاد يعرف «العربية» قد استخدم تعبير «الهلال الشيعي» كعنوان لمسلسل من الحروب الأهلية التي كان العمل جارياً لإطلاقها بامتداد الوطن العربي، بدءاً من لبنان وصولاً الى العراق أو بالعكس، مع علامات استفهام حول الأوضاع في الجزيرة العربية بقلبها وأطرافها، لا سيما في البحرين والكويت، وتساؤلات عن انعكاس ذلك كله على «المنطقة الشرقية» في مملكة الذهب الأسود.

وكان لافتاً، بل مستفزاً، أن تندفع الأسرة السعودية الى إعلان مساندتها للحكم المهدد بالسقوط في مصر، نتيجة لانتفاضة شعبه، وان تجهر بدعمها لهذه السلطة المتهالكة والمتوقع أن يطوي التاريخ صفحتها بين يوم وآخر.

وبديهي أن معظم تلك المشيخات التي صارت «دولاً»، في غياب قدرة الأمة على القرار، قد جهرت بمساندة النظام المتهاوي في مصر، خضوعاً لأمر أميركي لا يرد، وحماية لنموذج رديء للحكم يبعد الشعب العربي الأعظم عديداً وخبرة وإيماناً بالدولة والأغنى تاريخاً بالتجارب، وعدة الأمة في مواجهة أعدائها لاستنقاذ مستقبلها... ففي غيبة مصر يتعاظم حجم الصغير وتختل منظومة القيم فإذا القرار في أيدي أعداء الأمة.

في أي حال، فقد تجاوزت الأمة - بفضل الانتفاضة المجيدة في مصر، وطليعتها التونسية - مخاطر الفتنة الكبرى الجديدة التي كان يراد لها أن تشعل الأرض العربية، وان تغرق الأمة بدمائها، عبر تنظيم تصادم مقصود بين مكوناتها، باستخدام الطائفية والمذهبية أسلحة فتاكة في حرب أهلية لا تنتهي، والنصر فيها أفظع من الهزيمة، اذ ستتساقط الدول والكيانات وتغرق الشعوب في بحر من دمائها، بينما يحتفل أرباب الهيمنة الاميركية والاحتلال الإسرائيلي بانتصار تاريخي لم يكن يداني أحلامهم..

وهكذا يتخلص الحلف الجهنمي للشركاء في إطلاق شرارة الفتنة من الأمة العربية جميعاً: من ادعاءات وحدتها التي ستغرق في بحر دمائها، ومن قضية فلسطين عنوان جهادها من أجل التحرر واستعادة قرارها المصادر، ثم من «جماهيرها» التي ان اجتمعت أسهمت في صناعة العالم الجديد، وان تبعثرت واقتتلت أعيدت الى الجاهلية، بينما الدنيا تسير الى غد مبهر لم يكن يخطر في بال الشعراء أو كتاب روايات الخيال العلمي.

ان لفلسطين حضورها العظيم في أي انتفاضة عربية، حتى وان ظلت الشعارات المحلية طاغية في هتافات المحتشدين في ميدان التحرير وسائر الساحات، في مصر أساسا، ومن قبل في تونس ثم في الجزائر وصولاً الى اليمن.

ذلك ان فلسطين تستبطن شعارات الحرية والكرامة واستعادة القرار الوطني، بقدر ما تتبدى واضحة في الهتاف ضد الطغيان وقهر الإرادة. ففلسطين هي التجسيد العملي لإرادة التحرر، وهي العنوان المضيء للغد العربي في كل أرض عربية.

وليس إلا تحايلاً على الواقع وطمساً للحقيقة، ان تدعي حكومة الاحتلال الإسرائيلي انها ليست قلقة من انتفاضة الشعب في مصر، وان الأحداث تؤكد «أنها الدولة الوحيدة التي تحظى بالاستقرار في هذه المنطقة المضطربة».

لقد كشفت الانتفاضة تهاوي «السلطة الفلسطينية» وترديها، متوجهة الى شعب فلسطين وليس الى التنظيمات، سواء تلك التي شاخت ولم تخرج من الميدان لأنها لم تجد من يخرجها حاملاً راية التحرير مجدداً، أو تلك التي تشغلها «السلطة» عن الوطن ومشروع الدويلة المرتهنة لإرادة العدو عن استعادة وحدة الشعب المبعثر بين هويات عدة، عربية وأجنبية.

وليس من باب الأحلام ان نتصور ميلاداً جديداً لحركة التحرير الفلسطينية.

إن أهل النظام العربي جميعاً يعيشون مخاوف لحظة السقوط.

إن مصر تعود لتتقدم الصفوف نحو الأهداف التي عز الوصول إليها في ما مضى.

ان عروبة جديدة، معافاة وواعية بقوانين عصرها، هي تلك التي تستولدها انتفاضة مصر، ومعها انتفاضة تونس، وسائر التحركات الشعبية التي تستعد لإكمال المسيرة في الأقطار العربية الأخرى.

حمى الله انتفاضة شعب مصر، التي تفتح باب الفجر لشمس الغد العربي الجديد.

.

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

تعليقات: