القلمون \"أميرة\" السياسة والمواطنية والثقافة

هدوء شوارع القلمون خلال النهار يشبه هدوء البلدات الوادعة على ساحل البحر ومنحدرات التلال. حركة الناس نهاراً خفيفة فالكل مشغول بأعماله ودراسته. الشوارع الصغيرة والبيوت المتناثرة من حواليها تضيع بين العمارة الحديثة والبيوت الحجرية. أطفال القلمون يلعبون أمام بيوتهم في صخب يقطعه صراخ أم تدعو أولادها إلى الغداء أو مرور سيارة يتوقف الجميع لرؤية من بداخلها.

الأعلام اللبنانية تطغى في حضورها على شرفات المنازل معلنة الانتماء بفخر إلى كيانهم اللبناني بعيداً عن "الأدلجة" والاتهامات "السخيفة" التي يحاول البعض سوقها لهم. هذا الانتماء إلى حب الحياة يزداد في بلدة يعيش أكثر سكانها على التعليم في الجامعات والثانويات إضافة إلى العدد الكبير من أصحاب المهن الحرة كالأطباء والمهندسين وأصحاب الشركات التجارية. في القلمون يشهد المتحدث مع ناسها تسابقهم على تعليم أولادهم في أفضل المدارس والجامعات ليتشاوفوا مع الآخرين بانتمائهم إلى بلدة المثقفين.

هدوء عادي نهاراً وحياة تنتعش بعد الظهر من خلال "كزدورات" الشبان والصبايا في شوارع البلدة. مقاه البلدة تجمع الشبان والرجال. كل يجلس مع شركاء في الهوايات البعض لشرب القهوة والشاي وآخرين للحديث في شؤون الحياة وشجونها والبعض الآخر للعب ورق "الشدة" وتدخين "النارجيلة". الصيادون القادمون من رحلاتهم البحرية يجلسون في هذه المقاهي بحثاً عن الأحاديث التي يفتقدونها خلال الصيد في الليالي. يجتمعون من كل أحياء البلدة في النوادي الثقافية للنقاش وسماع الندوات والمحاضرات. يشجعون أولادهم على المشاركة في النوادي الرياضية وخصوصاً الكرة الطائرة للسيدات حيث فازت صبايا القلمون ببطولة لبنان للمرة العاشرة من دون أي منازع.

أهالي القلمون يتحدثون عن تشييع شهيد الجيش اللبناني رامي حمزة حيث امتدت السيارات الذاهبة للمجي بالجثمان من القلمون إلى طرابلس. مشت البلدة كلها واستقبلته استقبال الأبطال. رش الناس الورود كأنه عرس ورفعت الأعلام اللبنانية وصور قائد الجيش العماد ميشال سليمان والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي تعبيراً من القلمونيين عن تأييدهم للجيش اللبناني والدولة اللبنانية في المعركة ضد عصابة فتح الإسلام. يتحدثون في البلدة عن أكثر من 20 شاباً يقاتلون ضمن صفوف الجيش في مخيم نهر البارد، إضافة إلى سبعة جرحى أصيبوا خلال هذه المعركة.

عراقة سياسية

أهالي القلمون عريقون في المشاركة في الحياة السياسية عامة وفي الانتخابات النيابية والبلدية خاصة ففي انتخابات العام 1992 وما تلاها انتخابات نيابية وبلدية كان لأهالي القلمون مشاركة بنسب عالية. ففي العام 2005 اشترك في الانتخابات أكثر من 2400 ناخب من أصل نحو 3000. ويعتبر أهالي البلدة أن هذه المشاركة تفوق نسبياً أي مشاركة في مناطق لبنانية ثانية. أما من لم يشترك فهو مسافر خارج لبنان. ويرى بعض الأهالي أن هذه المشاركة في العام 2005 هي مشاركة سياسية وليست مشاركة انتخابية خدماتية عادية، فهم أوضحوا من خلال اليوم الانتخابي توجههم السياسي بالانتماء إلى قوى 14 آذار وسيادة وحرية ووحدة لبنان.

الحراك المجتمعي يبدأ في المدارس وينتقل إلى العدد الكبير من أصحاب الإجازات وصولاً إلى الانتخابات بالإضافة إلى الفوز بعدد كبير من الكؤوس الرياضية وغيرها من أنشطة في المجتمع المدني والأهلي مما يجعلها البلدة النموذجية من حيث البحث عن التطور والغنى الثقافي والاجتماعي.

حياد.. وانفتاح

بعد الحرب كان أهل القلمون أول من انفتح على المناطق اللبنانية الأقرب. بدأت المشاركة في الدورات الرياضية في العديد من المناطق خلال الحرب تؤتي ثمارها بعد إزالة المحاور حيث صارت البلدة محجة للعديد من اللبنانيين لزيارة اللاعبين الذي تخطوا الحواجز السياسية طوال الحرب في سبيل إبقاء الصلة مع كل اللبنانيين بعيداً عن الفئوية. المجتمع القلموني هو تصغير للمجتمع اللبناني فالقرية فيها التنوع السياسي من العروبي والإسلامي وتيارات الاعتدال واليسار وأيضاً الجمعيات الخيرية مثل جمعية "عباد الرحمن" التي تهتم بتربية الناشئة والتعليم المدرسي من دون أي نشاط سياسي.

في الهجمة الإعلامية السياسية التي تتعرض لها القلمون يأتي البعض بأخبار من تاريخها عن محاولة بعض الشبان تفجير اجتماع للرهبان في دير البلمند. يومها ولصدفة ما انفجرت القنبلة بواضعيها، وظهر خلال التحقيقات أن هؤلاء الشبان هم من تابعي أحد الدعاة الإسلاميين في طرابلس وهو من الوجوه البارزة في قوى 8 آذار. يحاول البعض خلط المعلومات القديمة مع بعض الأخبار الجديدة لرسم صورة سيئة عن بلدة جل اهتمام ناسها المشاركة الحقيقة في بناء وطنهم. صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري تملأ طرقات وبيوت البلدة إضافة إلى شهداء انتفاضة الاستقلال. بلدة تحمل التنوع ولا تنفيه مع أن أكثرية ناسها بالمطلق يؤكدون انتماءهم إلى تيار المستقبل وقوى الاستقلال اللبناني.

في القلمون يعيش الناس على الصناعات الحرفية ومعامل الزيتون والملح والصابون، إضافة إلى الزراعة والصيد البحري. ومن الملفت أن الكثير من شبانها يمارسون هواية الصيد بالقصبة بعد نهاراتهم الطويلة في العمل ليرتاحو قرب مكاسر الموج التي تحمل إليهم الهدوء. الآثار في البلدة ليست كثيرة ولكن أهمها مغارة القديسة مارينا يحج إليها الناس من مناطق مختلفة ويجتمعون في البلدة التي يعرف ناسها معنى الوئام الداخلي فيما بينهم ومع القادمين لزيارتهم. السياحة البحرية في المنتجعات تملأ شواطئ البلدة من دون موانع أو تدخلات.

دنكر

رئيس بلدية القلمون طلال دنكر، يرى أن المجلس البلدي يقوم بالاهتمام بأمور البلدة ضمن المتاح. ويؤكد على شراكة الأهالي في الحفاظ على بلدتهم كمجتمع تتعدد فيه وجهات النظر من دون قياس الأحجام. ويؤكد أن الأوضاع الاقتصادية لأهالي البلدة ساءت بعد اغتيال الرئيس الحريري بسبب الجمود الذي أصاب الحياة الاقتصادية. فالقلمون التي تحوي إضافة إلى العدد الكبير من المهندسي والأطباء والأساتذة الجامعيين والثانويين "70 أستاذ جامعي، 150 مهندس من مختلف الاختصاصات، و40 طبيب وغيرهم من حملة الإجازات"، يعيش أهلها على عمل مصانع كبيرة للملح والزيت والصابون. إضافة إلى الصناعة التقليدية والمتمثلة بماء الزهر وماء الورد والمربيات والحفر على النحاسيات. بلدة 12000 نسمة تقريباً تحمل وجهات نظر مختلفة ولكن أهلها يتناسون خلافاتهم وهم يد واحدة في سبيل بناء بلدتهم.

في الأحداث الأخيرة في نهر البارد ظهرت بشكل واضح مؤازرة الجيش والقوى الأمنية. فعندما طلبت قيادة الجيش التبرع بالدم لبى أهالي البلدة النداء بفخر الانتماء إلى هذا الوطن وجيشه. بلدة التسامح والعيش مع القرى البعيدة والقريبة تعيش في هذه المرحلة تسليط أضواء عليها. فأخطاء شخص واحد يريدون تحميلها لكل البلدة فيما الأقلام المسمومة تطلق أخباراً عن البلدة تشبه الصواريخ التي تطلقها العصابات من مخيم نهر البارد على القرى والبلدات.

يتمنى دنكر زيارة الناس للبلدة فالبيوت والناس يستقبلون القادمين لأنهم أهل بلدة الوئام. "هي ليست إمارة إنها مراكز علم تصدّر أجيالاً من المثقفين إلى المناطق اللبنانية كافة".

كبارة

منسق تيار المستقبل في الشمال عبد الغني كبارة يرى ان هناك أسباب عدة للهجمة الإعلامية التي تتعرض لها القلمون. فهناك محاولة الضغط على أهالي البلدة بسبب انتماء أكثريتهم إلى تيار المستقبل وقوى 14 آذار. وخصوصاً بعد محاولة قوى 8 آذار إلصاق قصة عصابة "فتح الإسلام" بالقوى الاستقلالية والتي صارت تشبه قصة راجح. فيما معاناة الأهالي هي بسبب الأزمات السياسية الخانقة التي تغلق البلد وتحاول جره إلى مواقف ليس وقتها ولا مكانها.

وقال "أهالي القلمون هم أهالينا واستهدافهم محاولة سيئة تؤذي الناس ولكن الوعي الأهلي والسياسي يمنح أهالي البلدة موقفاً قوياً في مواجهة الإفتراءات. هؤلاء أهالينا وتيار المستقبل وقوى 14 آذار إلى جانبهم في مواجهة هذا النوع من الإساءة".

الابيض

رئيس نادي القلمون الثقافي الدكتور حسن الأبيض يرى أن التربية على المواطنية هي أساس في تقديم رجالات يحمون الوطن ويؤسسون لرفع مستواه عالياً بين الحضارات. يتحدث الأبيض عن نشاطات النادي بشغف يرتسم بوضوح على وجهه وكلماته. فالمكتبة العامة مفتوحة للأهالي وهي دائمة الحركة في خروج الكتب وإدخالها. ويعتبر أن دور النادي هو في التنشئة المدنية وذلك من خلال الندوات والمحاضرات المتنوعة. يرافقها الاحتفال بالنشاطات في المناسبات الوطنية مثل عيد الاستقلال والذي يبدأ التحضير له من خلال الندوات ويصل إلى مسيرة يشارك فيها كل طلاب البلدة تحمل فيها الأعلام اللبنانية. وللنادي نشاطات ثقافية على مدار السنة محوره الكتابات والقصائد التي يشارك فيها كافة طلاب مدارس القلمون حول مواضيع الساعة وتحديداً حول موضوع استقلال لبنان وسيادته.

الارتباط بالانتماء اللبناني والتربية الوطنية إضافة إلى نشاطات مثل المنبر الحر وهو مفتوح لكل الآراء من دون أي موانع على أحد وهو تعبير عن قناعة راسخة بتعدد الآراء الذي يظهر الحقيقة من خلال الحوار المنفتح والنقاشات البناءة.

وفي النادي نشاطات تربوية للطلاب من الفئات العمرية المختلفةلتعزيز روح المشاركة والمواطنية لديهم. فالنقاشات تأخذ العديد من المحاور مثل السلم الأهلي والتعايش وقيم المجتمع المدني والأهلي ما ينتج حوارات تساهم في تأكيد الانتماء إلى الوطن اللبناني. يتم تحفيز الطلاب من خلال الجوائز وتكريم المتفوقين في الامتحانات الرسمية. والقيام بتكريم المعلمين المتقاعدين مربي الأجيال.

يستغرب الأبيض قيام البعض بأخذ عامة البلدة بذنب مجموعة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وهنا يؤكد أن المجتمع المدني والأهلي ليس معنياً بتأكيد أو نفي وجود متطرفين في البلدة لأن هذا هو من عمل الدولة، ويقول "نحن نؤمن بالقضاء اللبناني ونزاهته ولذلك ليس دورنا القيام بإعلان براءة أحد أو التبرؤ منه".

وأضاف "ما ينسب للقلمون من صفات عامة من دون التخصيص ووصفها بالتشدد هو تعميم متخلف يجمع الناس بقبضة واحدة وكأن الحياة هنا هي حياة لم تعرف التنوع والتطور. هذه الصفات التي قيلت مثل "تورا بورا" و"وزيرستان" هي تجنٍ على بلدة متنوعة وتحمل الاختلاف في الرأي. الواقع الملموس يكذّب ما ينشر فمجتمع القلمون واحد من المجتمع اللبناني، فيه تيارات مختلفة وشرائح اجتماعية منفتحة، متعلمة ومثقفة".

وتابع "الناس هنا يعرفون معنى الدولة المدنية وهم مرتبطون بها ارتباطاً وثيقاً بعيداً عن السياسة وارتباطات المصالح. ومن ضمن التيارات في البلدة هناك تيارات دينية لديها "العلم والخبر" من وزارة الداخلية إضافة إلى عملها ضمن الانتظام العام للحياة الاجتماعية للبلدة وهم ليسوا خارج البنى المدنية على ما حاول البعض إظهاره. ففي البلدة كمثل كل المناطق المحجبات والملتحين وغير المحجبات والحليقي الذقون في صورة واضحة للتعايش والتصالح المجتمعي اللبناني مع الظواهر الدينية".

يقول الأبيض ان القلمون "قدمت في الانتخابات النيابية كلها نموذجاً للبلدة التي توزعت أصوات ناخبيها على التيارات السياسية من دون التفريق بين المسيحي والمسلم على اللوائح وهذا برأيه واحد من الأدلة عن غياب التشدد عن حياة ناسها بكل انتماءاتهم".

قزيحة

يعتبر رئيس نادي القلمون الرياضي غسان قزيحة أن البلدة والنادي الرياضي يمثلان رسالة انفتاح على كل المناطق والفئات اللبنانية. فالانفتاح على المحيط المتنوع والتواصل مع كافة المناطق من الشمال إلى الجنوب وبيروت والبقاع والجبل يتم عبر أكثر من 80 مباراة خلال فترة الصيف لوحدها. ففي فترة الحرب بقي النادي متواصلاً مع كل النوادي من دون استثناء رغم المشاكل الأمنية والسياسية التي طغت على حياة اللبنانيين. وطبيعة القلمون وفكرها منذ عقود هو التواصل مع كل الطوائف من دون استثناء. فخلال الحرب ربح النادي دورة الشيخ بيار الجميل في بكفيا وجمعت الكؤوس من مناطق مختلفة. ما يظهر طبيعة الانفتاح في منطقة تتنوع فيها المذاهب وتتعدد.

لا يخفي قزيحة فرحته بفوز النادي ببطولة لبنان بالكرة الطائرة للسيدات لمدة عشر سنوات. ويقول أن البلدة الإسلامية لديها هذا التنوع والتشكل الحضاري حيث لا أحد ينفي الآخر ويفرض سيطرته على البلدة وسكانها. في نوادي البلدة 120 لاعب من كافة الأعمار يتمرنون على الرياضة ويساهمون في رفع إسم البلدة عالياً.

القلمون ناس وحياة بابها مشرّع إلى البحر وبيوتها تحيا بحب الناس، يعيش أولادها بعناية مستمرة من مثقفيها وأجيالها التي تعرف معنى المواطنية. هي هناك بالقرب من طرابلس و"البارد" حيث يستبسل أبناؤهم مع غيرهم من جنود الجيش دفاعاً عن الوطن.

تعليقات: