الفساد والمحسوبية والبيروقراطية... واقع قائم حتى إشعار آخر


الإدارة العامة في لبنان: «نيات» إصلاحية تدعمها مشاريع خارجية

قصة الإصلاح الإداري في لبنان تشبه قصة «إبريق الزيت»، إذ يتّفق الجميع على «نظرية» وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتغليب الكفاءة على المحسوبية، وإعادة ترسيم هيكليات المؤسسات والإدارات العامة، واعتماد التخطيط الاستراتيجي، وتطهير الجسم الإداري من «فيروسات» الفساد والبيروقراطية... مع ذلك، لا يزال مشروع الإصلاح الإداري يدور في دوامة مُفرغة.

يُعدّ السبب الأول هو غياب الإرادة السياسية الجامعة في وضع القطار على السكة. فتنتج محاولات حكومية من هنا وهناك، بمؤازرة أحياناً من منظمات غير حكومية، من أجل إحداث تغييرات جذرية في الإدارة، وهي مبادرات تشكّل عملياً خطوة أولى في مسيرة الألف ميل. ولأن يداً واحدة لا تصفق، فقد أدت مساهمات الجهات الدولية المانحة، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، إلى تعبيد الطريق نحو تطوير مفهوم الإدارة الحديثة في الجسم اللبناني المتهالك وإلى الإدخال التدريجي لـ «ترياق» العصرنة والشفافية والمحاسبة والمساءلة إلى المؤسسات والإدارات العامة. إلا أن الطريق يجب أن تشقّ، وعلى لبنان أن يفتحها.

منـذ انتـهاء الحـرب الأهليـة اللبنانيـة فـي العـام 1990، بـدت الإدارة بحاجـة إلـى نهضـة كبيرة في مجال تطويـر مشاريـع الإصـلاح الإداري، فـي ظـل تراكمـات «أمـر واقـع» وهـو أن إنشـاء الـوزارات والإدارات والمؤسسات العامة في لبنان تمّ في غياب مخطّط توجيهي رسمي عام للإدارة العامة، الأمر الذي أدى وما زال يؤدّي إلى تداخل وازدواجية في المسؤوليات وإلى ضعف هائل في المساءلة والمحاسبة، وتدني مستوى الخدمات، والتأخر في إنجاز المعاملات، وفتـح مغارات الفسـاد على مصراعيهـا، وضـعـف القـدرة عـلى التخطيـط والبرمجـة، وحصول شغـور كبيـر في الملاكـات، ونقص هائل في المهارات والكفاءات المتخصصة، وتحوّل الإدارة العامة إلى أداة تخدم بشكل مباشر مصالح السياسيين والنافذين...

تتعـددّ أسبـاب الاهتـراء الإداري والنتيجة واحدة: فقدان ثقة المواطن بالإدارة وبخدماتها، ونزف حقيقي لموارد الدولة.

وارتبطت بدايات الإصلاح الإداري منذ العام 1995 بالاعتماد على الجهات الدولية المانحة لسببين جوهريين: الأول هو أن القسم الأكبر من مساعدات الدول المانحة تأتي على شكل هبات مما يخفّف الأعباء على الدولة اللبنانية، والثاني هو الاستفادة من التجارب المثمرة لتلك الجهات في دول أخرى مما يفترض أن ينعكس نتائج أفضل على صعيد تحديث الإدارة.

وكان الاتحاد الأوروبي من أبرز الجهات المانحة التي أقدمت على دعم المشاريع الإصلاحية في لبنان على شكل هبات، في حين أن تقديمات الدول الأخرى كانت تأتي على شكل قروض.

واجهـت برامـج الإصـلاح الإداري عقبـات عـدة رغـم النجاحـات التـي حقّقتهـا فـي العديـد مـن المواقـع والـوزارات والمؤسسـات العامـة، وذلـك بسبـب البـطء فـي تنفيـذ التشريعات والقوانين المواكبة للمقترحات الأوروبيـة المتعلقـة بتحديث الإدارة وتطويرها، خصوصاً، وعلى سبيل المثال، لجهة اعتماد هيكليات إداريّة أكثر فعالية وإقرار قوانين متعلقة بمكافحـة الفسـاد ونظـام الصفقات العمـومية والتوقيـع الالكتروني - ولكن أيضاً بسـبب العجـز عـن جـذب عناصـر بشريـة شابـة، تملـك الكفـاءة وتلتـزم بالمعاييـر التحـديثية الجديدة في الإدارات العـامـة، وذلـك لاعتبـارات عـدة أهمهـا سلسلـة الرتب والرواتـب التـي لـم تتطـور بمــا يتـلاءم مــع عنصـر المنافسـة مـع القطـاع الخـاص.

هكذا، فإن موظف القطاع العام يشعر دوماً بأنه موظف من «الدرجة الثانية»، ما يجعل مؤسسات القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية أكثر أهلية وجهوزية للعمل في مجال تقديم الخدمات من القطاع العام.

اقتناص الفرص

ومن أبرز العوائق إزاء ترتيب البيت الإداري الداخلي وتنظيمه هو غياب القرار السياسي الموحّد في ما يخصّ إدخال إجراءات إصلاحية إلى الإدارة اللبنانية، الأمر الذي يتطلّب تعديلاً جذرياً في هيكليات بعض الإدارات والمؤسسات ونفضة في التعيينات، المبنية أساسا على مفهوم المحسوبية و«الواسطة» على حساب الكفاءة والشفافية.

ويقول مدير وحدة التعاون الفني في مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة ناصر عسراوي أنه «في غياب استراتيجية للإصلاح الإداري مقرّة في مجلس الوزراء ومعتمدة على الصعيد السياسي، ونتيجة غياب الأطر التشريعية الحديثة، ونظراً لافتقار الإدارة العامة للخبرات المطلوبة، تسير برامج الإصلاح الإداري ببطء محقّقة نجاحات محدودة. وغالباً ما تكون هذه النجاحات نتيجة اقتناص لفرص مؤقتة تتلاقى فيها عوامل عدة منها توفّر الإرادة لدى عدد من المسؤولين ووجود ظرف سياسي ملائم. والمؤسف انه نتيجة هذا الوضع تبقى هذه النجاحات في وضع هشّ ومعرّضة لعدم الاستمرار».

لم يكن صعباً على ممثلي الاتحاد الأوروبي كشف «عورات» الإدارة اللبنانية ووضع الاصبع على الجرح. فغياب القرار السياسي يجرّ إلى مكامن الخلل المزمن والتي تظهر من خلال افتقار الإدارة اللبنانية إلى التقنيات والخبرات الضرورية لتطوير خدماتها، ويبرز في هذا الإطار غياب التخطيط الاستراتيجي وتطبيقات نظم الاتصالات والمعلوماتية. وفي ظل عدم توافر العناصر الأساسيّة لإنجاح عملية الإصلاح والتطوير تجري محاولات في هذا الإطار بشكل مجتزأ وفي أماكن محدّدة، لكنها تواجه بكثير من العقبات خصوصاً على صعيد «مقاومة التغيير» لدى بعض العاملين في القطاع العام وصولاً إلى قياديين ومسؤولين كبار في الدولة اللبنانية. ويقول أحد المواكبين لورشة الإصلاح الإداري، ان عمليات الإصلاح تتم بطريقة انتهازية، بالمعنى الايجابي للكلمة، أي انتهاز الفرص الملائمة على الصعيد السياسي والتقني والإداري لتحقيق نجاحات محدودة. واقع يقود إلى نتيجة حتمية هي عدم استخدام الموارد المالية المتاحة للدولة بشكل فعال يقود إلى النتائج المتوخاة.

البيان الوزاري

وفيما أشار البيان الوزاري الأخير لحكومة الرئيس سعد الحريري الصادر في كانون الأول 2009 إلى هدف «تحرير الإدارة العامة من التشابك في أدائها ومهماتها»، ورد تحت بند تحديث الإدارة ومكافحة الفساد، من البيان نفسه وفي إطار الأولويات: الإسراع في عملية المكننة وتطبيق مشروع الحكومة الالكترونية، وتعزيز دور الهيئات الرقابية وتطويرها وتعجيل إقرار القوانين المنجزة، وتعيين الموظفين في المواقع القيادية وفي الإدارات والمؤسسات العامة وفقا لمعايير الجدارة والكفاءة واحترام المناصفة وزيادة نسبة النساء بينهم، بالإضافة إلى التزام لبنان بتطبيق مبادئ اتفاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

تعوّل الحكومة في الوقت الحالي، وكما قال وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة محمد فنيش في افتتاح ورشة عمل حول تبسيط الإجراءات الإداريّة وتحديث التشريعات، على ما توفره تقنيات المعلومات والاتصالات من فرص كبيرة تتجاوز التعقيدات المتعلقة بتطوير البنى التنظيمية والإداريّة من خلال الاستفادة من وسائل الاتصالات المتطورة مثل الانترنت والهواتف الجوالة وغيرها ليصار، بقدر المستطاع، إلى تقليل الاتصال المباشر بين الموظف الحكومي من جهة وبين المواطن والشركات ومجتمع الأعمال من جهة أخرى، والذي هو المدخل الصحيح لمعالجة مشكلة الفساد والرشى.

ويضمّ برنامج الحكومة الالكترونية، الذي تعمل الحكومة على وضعه وإقراره، مجموعة من المقاربات العلمية التي تسمح بترجمة الإمكانات التي توفرها تقنيات المعلومات والاتصالات إلى برامج ومشاريع عملية قابلة للتنفيذ. ومنها على سبيل المثال توحيد معايير الاستمارات الإداريّة ووضعها بصيغة رقمية على المواقع الالكترونية، وإنشاء بوابة الحكومة الالكترونية كي تكون الشبّاك الموحّد الافتراضي للإدارة العامة اللبنانية والذي يساعد الإدارات العامة في تقديم خدماتها الكترونياً بشكل كامل أو جزئي بالتزامن مع إقرار اقتراح قانون المعاملات الالكترونية باعتباره إطارا تشريعيا لازماً.

مساهمات الاتحاد الأوروبي

برزت مساهمات الاتحاد الأوروبي منذ العام 1999 وحتى اليوم في أكثر من محطة أسهمت في دفع عجلة الإصلاح الإداري قدماً. وقد وقّع لبنان اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي دخلت حيّز التنفيذ في العام 2006.

كانت البداية مع مشروع ARLA وهو برنامج إعادة تأهيل الإدارة العامة في لبنان. بلغت قيمة الهبة المقدمة 38 مليون يورو، وهدف البرنامج هو دعم مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة OMSAR لتحويل الإدارة اللبنانية إلى إدارة ديناميكية، وفاعلة، وشفافة، وموجّهة لخدمة المواطن بالتعاون مع كل من القطاع الخاص والمجتمع المدني، استنادا إلى إستراتيجية الإصلاح الإداري التي وضعت سنة 1998 .

وتضمّن العمل تقييماً لنقاط القوة والضعف لعدد كبير من إدارات الدولة، ومراجعة لنقاط الخلل فيها، وتصنيفها بحسب الأولويات، واقتراح خطط لدعم أجهزة الرقابة المركزية والوزارات المستفيدة من البرنامج، في ضوء أنجح التجارب الدولية في مجال تنمية وتحديث الإدارة.

تعتبر الهبة هي الأكبر التي يقدّمها الاتحاد الأوروبي حتى اليوم في مجال التنمية والتحديث الإداري، وقد حدّدت لها أهدافاً أساسيّة تقوم على:

ـ إعداد دراسات وتنظيم حلقات تدريب والمبادرة في عدد من مشاريع الدعم الفني لتقوية أجهزة الرقابة (التفتيش المركز، مجلس الخدمة المدنية...) والوزارات المعنية.

ـ إعادة تنظيم المهام الإداريّة للمؤسسات المستفيدة، من خلال وضع وتنفيذ

نظام إداري ملائم للإدارة وتدريب الموظفين الحاليين.

ـ تطوير الإطار التنظيمي والإجرائي وتبسيط الإجراءات الإداريّة خاصة

المتعلقة بتأمين الخدمات للمواطن.

ـ تطوير قدرة الإدارات المستفيدة لتحديد، وتقييم، وتخطيط، وتنفيذ ومراقبة

المشاريع.

ـ تطوير مهام الإدارات المستفيدة، خاص إدارات الخدمات، في مجال التخطيط،

والتنظيم، والمراقبة والإرشاد.

- تطوير قدرة الإدارات المعنية لتقييم المشاكل، والاحتياجات، وبالتالي صياغة

وبرمجة وتنفيذ سياسات قطاعية ملائمة مُمكن تنفيذها من الناحيتين المالية والفنية،

وذلك وفقًا للسياسات الحكومية.

ـ تعزيز اللامركزية الإداريّة من خلال دعم البلديات بهدف تدعيم قدراتها.

وتعدّ اليوم الدراسات التي أعدّت لإنشاء الهيئة الناظمة للاتصالات من أهم إنجازات برنامج ARLA، وكان قد بدأ العمل على إعداد دراسات لهيئة ناظمة لقطاع النقل البحري لكنها لم تبصر النور بعد. لكن البرنامج سهّل للسفن اللبنانية والبحارين اللبنانيين الاستحصال على شهادات دولية تخوّلهم الدخول إلى موانئ دول العالم.

وفي مجال هيئات الرقابة أتاح برنامج ARLA إدخال مفهوم تقييم الأداء المؤسسي إلى الإدارات والمؤسسات العامة، وقد شكّل نقلة نوعية في أساليب الرقابة المعتمدة من قبل الأجهزة المعنية، لتقييم أداء هذه المؤسسات والإدارات. وفي المجال البلدي تم العمل على 12 تجمعاً بلدياً لوضع مخططات بلدية من العام 2004 حتى 2005، وتم إدراج خمسة مشاريع تقنية للتنفيذ، فيما تحوّل ما تبقى من أموال الهبة إلى مشاريع معالجة النفايات الصلبة (المشروع قائم حتى اليوم).

مع ذلك، لم ترق الهبة إلى مستوى تحقيق الأهداف المرجوة، حيث كانت الآمال أكثر طموحاً بإجراء تعديلات جذرية في بعض الوزارات كوزارة النقل والمؤسسة الوطنية للاستخدام...

وبموازاة مشروع ARLA قدّم الاتحاد الأوروبي هبة للمجتمع المدني من خلال برنامج «أفكار» وكانت له نجاحات كبيرة، وما زال مستمراً حتى اليوم (يقوم على دعم المشاريع المقدمة من الجمعيات الأهلية...). ويذكر أن هناك مبلغ عشرة ملايين يورو رصدها الاتحاد الأوروبي لدعم مشاريع حماية حقوق الإنسان والديموقراطية منها مشروع «أفكار3» (تحديث السجون، المواطنة الفاعلة عبر الإصلاح الانتخابي ودعم المجتمع المدني، العمال الأجانب في لبنان...) ووقّع على الاتفاقية في الثامن شهر كانون الأول الجاري كل من رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان السفير باتريك لوران والوزير محمد فنيش، على أن تنفّذ خلال اثنين وسبعين شهراً من بدء تاريخ التوقيع.

يضاف إلى ذلك هبة بقيمة 15 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لمكننة المحاكم في وزارة العدل، خصوصاً تلك الواقعة في نطاق العاصمة. ويرى مسؤولون لبنانيون في مجال إصلاح المؤسسات العامة إن التطوير الإداري في هذا المجال يشكّل العامود الفقري لإدارات خالية من «جراثيم» البيروقراطية والفساد.

برنامج «الحكم الصالح»

قرّر الاتحاد الأوروبي، برغم الصعوبات التي تواجه عملية تطوير الإدارة اللبنانية وتحديثها، بالتنسيق مع OMSAR (مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة) وبعد تكليف مجموعة خبراء في هذا المجال، مسح حاجات الإدارة العامة في لبنان، وتم تخصيص هبة بقيمة تسعة ملايين يورو لدعم برنامج «الحكم الصالح» الذي يرتكز على خمسة عناصر أساسيّة هي:

1 ـ دعم تطوير قدرات الإدارة العامة في مجال التخطيط الاستراتيجي: لا يتوافر التخطيط الاستراتيجي بالمفهوم الحديث للكلمة في الإدارات والمؤسسات العامة في لبنان. والتخطيط الاستراتيجي الذي يتّسم بطابع الاستمرارية هو الغائب الأكبر في إدارات الدولة غير الممأسسة، وتأتي مساهمة الاتحاد الأوروبي لمعالجة هذه الثغرات على صعيد اعتماد منهجية موحّدة وتعميمها على الإدارات من خلال إنشاء وحدات دائمة يجري تدريبها وفق مستلزمات البرنامج وتوفير آليات العمل الضروري لتطوير الخطط الاستراتيجية وتحديثها بشكل دائم وربطها بالموازنة العامة للوزارة تمهيداً لتحقيق ما يسمّى «موازنة الأداء».

2 ـ دعم برنامج تبسيط الإجراءات والمعاملات الإداريّة: يسعى البرنامج المموّل من هبة الاتحاد الأوروبي إلى وضع منهجية عالمية تستند إلى أفضل الممارسات والتجارب العالمية في مجال تبسيط الإجراءات مستعينة بتقنيات المعلومات والاتصالات. ويذكر أن ARLA كان يتضمّن برنامجاً لتبسيط المعاملات وقد حقّق اختراقات في العديد من المواقع وخصوصاً في مجال وزارة الصحة. وفي وقت يلتقي فيه جميع اللبنانيين على وصف إدارات الدولة بـ «المغارة» التي تضيع فيها حقوق المواطن، فإن ورش العمل على هذا الصعيد تبدو شائكة حيث إن مبدأ التجاوب مع احتياجات المواطن يتطلب الانتقال من نظام بيروقراطي، هو متجذّر في الإدارة اللبنانية، إلى نظام منفتح. وبالتالي فإن تجاوب الإدارة العامة يجب أن يأخذ بمبدأ ربط الإدارة بالمواطنين بهدف تأمين نوعية خدمات أفضل وتسهيل الحصول على المعلومات واعتماد الشفافية مع الأخذ بالاعتبار الأولويات والموارد المتوافرة.

3 ـ دعم تطوير الموارد البشرية: تفتقر الإدارة العامة في لبنان إلى تطبيق مفهوم إدارة الموارد البشرية. حالياً هناك وحدات ضمن الإدارة تتولى مسؤوليات إدارة شؤون الموظفين التي ينحصر دورها في متابعة ملفات لها علاقة بدوام العاملين وإجازاتهم وأمور إداريّة ومكتبية أخرى. وكان سبق لـ OMSAR ان قامت بإعداد مشروع قانون موجود في أدراج مجلس النواب يهدف إلى إنشاء وحدات لتطوير الموارد البشرية وفق المفاهيم الحديثة لتطوير قدرات الموظفين وإيجاد آليات لمراقبة أدائهم وتحفيزهم على إعطاء الأفضل وربط هذه المنهجية بالتخطيط الاستراتيجي للوزارات. وبرنامج «الحكم الصالح» يأتي ليدعم تنفيذ هذا القانون.

4 ـ تطوير نظام الصفقات العمومية: يشكّل الوضع التشريعي الحالي لإدارة الصفقات العمومية عقبة أساسيّة أمام الاستفادة من المال العام بطريقة فعالة وشفافة لتنفيذ المشاريع خصوصاً تلك المقدّمة من الدول المانحة والخزينة العامة. وفي الغالب تشترط الجهات المانحة استخدام إجراءات خاصة بها تأميناً للشفافية. ومنذ العام 1999 عمد مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة إلى إعداد نظام حديث للصفقات العمومية، ومن ثم تحديث مشروع القانون القائم آخرها العام 2008، ومؤخراً تم تأليف لجنة من مجلس الإنماء والأعمار وOMSAR ووزارتي المالية والأشغال وديوان المحاسبة لوضع قانون جديد للصفقات العمومية. اللجنة أنهت عملها ومسودة القانون تنتظر إقرارها في مجلس النواب. وتهدف الهبة الأوروبية إلى إقرار قانون الصفقات العمومية الجديد استناداً إلى إصلاحات نوعية وتوفير مساعدات فنية لتطوير دفاتر شروط نموذجية للصفقات العمومية.

5 ـ دعم قدرات ديوان المحاسبة في مجال الرقابة المالية: يهدف برنامج «الحكم الصالح» إلى تطوير منهجيات وآليات عمل تفعيل الرقابة المالية في ديوان المحاسبة وإجراء التدريبات اللازمة للقضاة العاملين في ديوان المحاسبة، بما في ذلك تمويل رحلات دراسية وتدريبية لبعض الدول الأوروبية. كما سيسهم البرنامج في تطوير مفهوم الرقابة اللاحقة لدى الديوان من خلال التدريب وتعلّم تقنيات المعلومات والاتصالات. وتأتي هبة الاتحاد الأوروبي لتدعم توجيهات الوزارة في هذا المجال من خلال استراتيجية الإصلاح الإداري التي تمّ تحديثها مؤخراً.

ويؤكد مدير وحدة التعاون الفني في OMSAR ناصر عسراوي «ان هبة الاتحاد الأوروبي «للحكم الصالح» تأتي لتدعم توجهات وزارة التنمية الإداريّة في تأطير نشاطاتها ضمن برامج ذات أولويّة محدّدة الأهداف وتتضمن معايير واضحة للأداء. وهذه البرامج هي: تطوير قدرات الإدارة في التخطيط الاستراتيجي، تبسيط الإجراءات الإداريّة، تطوير الموارد البشرية، تحديث وتفعيل نظام الصفقات العمومية وتفعيل الرقابة المالية في ديوان المحاسبة».

انطلق الاتحاد الأوروبي من خلال برنامج «الحكم الصالح» من خلفية أساسيّة تتعلق بضرورة توفير مقدار أكبر من الفعالية في مجال الخدمة العامة والشفافية. ومكامن الخلل كانت واضحة لجهة الشغور الكبير في المؤسسات والإدارات العامة المصابة بأكثريتها بالإهتراء، وتدني رواتب موظفي القطاع العام، وعدم تحديث القوانين، وقد ظهر جلياً للمفوضية الأوروبية في لبنان بأن تأثيرات المحسوبيات والنفوذ السياسي في لبنان هي أكثر من أي بلد آخر، إضافة إلى الالتزام بالتوزيع الطائفي للمناصب، وسوء توزيع الموارد البشرية، وعدم اعتماد معايير مهنية في التعيينات والتوظيفات.

العجز عن «امتصاص» الهبات

ووفق الرؤية الأوروبية، يشكّل الإصلاح الإداري الطريق الآمن نحو قيام الإدارات والمؤسسات بتقديم أفضل الخدمات للمواطنين. ويعكس برنامج «الحكم الصالح» قاعدة المعايير الأساسيّة لإدارة فعّالة وشفافة تقوم على التخطيط الاستراتيجي واستثمار أفضل للموارد البشرية وتبسيط المعاملات الإداريّة للمواطنين الأمر الذي يؤدي إلى تسريع عملية النهوض الإداري والاقتصادي والتخلص من الفائض في الإدارات وإيقاف الهدر ومحاربة الفساد والرشوة والتزوير وإدخال أحدث الوسائل التكنولوجية إلى الإدارات... في المقابل ثمة إقرار أوروبي من الدول المانحة بأن لبنان لا يستوعب حجم الهبات السنوية المقدمة له، حيث ان نظام الإدارة اللبنانية بهيكليته الحالية يعجز عن «امتصاص» هذه المبالغ وفق البرامج المحددة.

ليس الإصلاح الإداري، بتأكيد الخبراء، مجرّد عصرنة تقنية أو شكلية مرتبطة حتما بضخامة المباني الإداريّة. لأن المعيار الأساسي للإصلاح هو تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن. وعلى ذلك، يطلق مفهوم الإدارة الحديثة على الإدارات التي توفّر خدمات عامة، وفيها يشعر المواطن بأن كرامته مصانة ويلقى معاملة متساوية مع الجميع.

يكاد هذا المفهوم يشكّل عملة نادرة في الإدارات والمؤسسات العامة والوزارات في لبنان. قد تقع على مبان فخمة ومكاتب وثيرة وفخمة وممرات نظيفة ومكننة متقدّمة، وأيضاً قد تصطدم بكوارث إداريّة في بعض المواقع تذكّر بمغارة علي بابا، لكن النتيجة واحدة. الإدارات العامة في لبنان لا تزال بحاجة إلى جهود جبارة لترتقي إلى مستوى الإدارات الحديثة وفق المعايير المعتمدة دولياً، خصوصاً في ظل استشراء المحسوبيات والفساد والرشوة، وهو واقع موثّق في العديد من تقارير هيئات الرقابة، وفي غياب شرعة سلوك لموظفي الإدارات العامة حول حقوقهم ومسؤولياتهم حيال المواطنين، إضافة إلى غياب المهل لإنجاز المعاملات الإداريّة مع العلم أن هناك قوانين تنص على هذه المهل وتعود إلى العام 1959...

لكن في بعض المواقع تبدو الآمال معقودة على مبادرات قد تشكل نواة لإصلاحات إداريّة تمتد إلى عمق الإدارات كافة. في وزارة التربية في مبنى الأونيسكو مثلاً تجارب مضيئة عن مساع لوضع الإصلاح الإداري على السكة. هيكلية الإدارة قديمة والقوانين المعتمدة تعود إلى الخمسينيات وهناك شواغر بنسبة 80% في الكوادر الوسطى، ما يؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية والفعالية. لكن بالمقابل، تم استحداث وحدات مستقلة (المكننة والهندسة والإرشاد والتوجيه وأمانة سر تطوير القطاع)، لا تدخل في صلب الهيكلية الإداريّة القائمة، لكنها تعكس النمط المطلوب في الإدارات الحديثة. وقد شكّلت مجموعات عمل من خبرات فنية وتقنية ضمن أمانة سر تطوير القطاع وضعت عدة مشاريع مرتبطة بالتطوير الإداري. وفي خطوة تقطع الطريق كلياً على مزاريب الرشوة والتزوير تم مؤخراً اعتماد نظام معادلات الشهادات وفق نظام الأرشفة الالكترونية، وفي كانون الثاني المقبل سيتم الإعلان رسمياً عن هذه الخطوة التي تؤدي، برأي مسؤولين في وزارة التربية، إلى مزيد من الفعالية والشفافية.

وفي إطار مساعيه لدفع عجلة الإصلاح الإداري إلى الأمام خصّص الاتحاد الأوروبي منحة بقيمة 14 مليون يورو لمشروع «إصلاحات القطاع التربوي وإدارة المالية العامة»، بحيث يهدف المشروع، وفق مسؤولي الوزارة، إلى تطوير الأداء الإداري وعلى كافة المستويات مركزياً ومناطقياً. المشروع الأوروبي انطلق مع وزارة المالية، وقد اختيرت وزارة التربية لكي تكون «وزارة رائدة» في مجال تطوير الإدارة المالية العامة. والاتفاقية تندرج ضمن إطار برنامج دعم الإصلاحات لدعم الحكومة اللبنانية في تطبيق أولوياتها الإصلاحية.

وعادة ما تعتمد الجهات المانحة «دعم موازنة»، لكن هذا الأمر يتطلب أن تكون الوزارات المعنية قد وصلت إلى مرحلة من التطوير والقدرات العالية على التخطيط الأمر الذي ينعكس على التخطيط المالي، وعندها توضع خطط تتضمن مشاريع مع مؤشرات وأموال مرصودة لها، تؤمن معايير الشفافية والفعالية وتتيح إمكانية المساءلة والتقييم. وتأمل وزارة التربية أن تصل إلى هذه المرحلة من الجهوزية بأن تستقبل فيها مشاريع من هذا النوع تعنى ليس فقط في تطوير إدارة المال بل أيضاً على الصعيد الإداري عبر حوكمة القطاع والتسلّح بقدرات تؤمّن التخطيط والمتابعة والتقويم مع الإدارة المالية.

تنشر هذه الصفحة بمساهمة

من الاتحاد الأوروبي

إن الآراء المنشورة في الموضوع، ومحتوياتها، هي مسؤولية «السفير» وحدها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار أنها تعكس آراء الاتحاد الأوروبي.

تعليقات: