رادار للمسير .. وأيضاً للضمير !..


.. حسناً فعلت حكومتنا مؤخّراً عندما استقدمت نظام المراقبة عبر الرادار, علّها بذلك تلجم جموح المواطنين المستهترين بحياتهم وحياة الآخرين, وتضع حدّاً لحوادث السير المميتة والتي بلغت رقماً قياسياً في الآونة الأخيرة, ولأنّ البعض من الذين يعيشون حالة استعداء للنظام وإدمان للفوضى لا سبيل للتفاهم معهم إلا بالضغط على جيوبهم, كان لا بدّ من فرض غرامات مرتفعة يُحسب لها الحساب وتسترعي التأمّل والتفكير, وربما يُتوصل معها لالتزام نظام السير ولو إكراها ..

لفتني أثناء توجّهي للعاصمة مشهدٌ غير معتاد ولا مألوف, فقد رأيت السيارات وهي تسير بشكلٍ رومانسيٍّ هادئٍ متجاهلةً الخطّ السريع الفارغ دونما تجاوزٍ أو إطلاق العنان لأبواق الزمامير الغريبة الأصوات, حتى ظننت لوهلة أنّني في بلد من البلدان التي يعيش أهلها حالةً نظاميةً عامةً رغبةً منهم وطواعية, وإيماناً بضرورة النظام لاستقامة الحياة .

ألزمني المشهد هذا بواجب الامتنان والشكر ضمناً لمن اخترع الرادار صاحب الهيبة والسلطان, والذي أصبح رابضاً على الشوارع والمفترقات كاسدٍ يزأر بعينٍ حمراء, متخفّياً يتربّص الدوائر بفريسةٍ متفلّتةٍ لينزل بها العقاب والهوان ..

لكنني لا أخفي عليكم الشعور بالخيبة أيضا لانَّ حاكمية الرادار المستقدمة لم تكن إلّا بديلاً عن حاكمية الوجدان, ذلك لأننا لم نتعلم بعد كيف نعيش الرقابة الذاتية على أنفسنا ولم نأخذ بالنظام التزاماً وسلوكاً عملياً نستحضره في كلّ تفاصيل حياتنا اليومية. إنّنا لعميق الأسف نحتاج الرادار لجاماً لتهوّرنا وطيشنا في الوقت الذي ينبغي فيه أن يكون الضمير راداراً ورقيباً ذاتياً على كلِّ تصرفاتنا ..

اليوم بتنا نعيش في ظلّ سلطة رادار الطرقات لنتعلم القيادة الواعية والمسؤولة, وربما نحتاج غداً لرادار يلزمنا الاعتناء بالبيئة, وبعد غدٍ لرادار يقونن استخدامنا للطاقة, وبعده لرادارٍ يرصد سلوكنا في بيوتنا مع زوجاتنا وأولادنا وو..

وهكذا يتحوّل المجتمع إلى مرصد يلتزم النظام بهيبة الرادار, ويضبط الإيقاع بسطوة العقاب, ولكنّ المصيبة إن غفت عين الرادار يوماً لخلل تقنيّ أو تكتيك احتيالي, عندها يعود العبثيون إلى الفوضى المألوفة عودة النّهر إلى مجراه ..

.. من هنا فالحاجة إلى رادار الضمير أكثر ضرورةً وإلحاحا .. فعندما يكون الضمير حيّاً وحاضراً في المواطن والمسؤول, وفي دوائر السلطة والإدارة, يتحوّل النظام إلى ثقافة ثابتة راسخة, ويصبح الالتزام به تربيةً تنشأ عليها الأجيال وتعتادها وتؤمن بها, وبهذا يتحوّل السلوك الفوضوي المعاكس إلى حالة شاذة وغريبة تستنكرها الطبيعة وينفر منها الطباع العام ..

وعلى هذا الأساس فإنَّ المهمة الأولى تكمن في كيفية تكوين الضمير الرقيب, وهي مهمةٌ ليست سهلةً ولكنّها ليست بالمستحيلة أيضا, وينبغي لتحقيقها تضافر الجهود وتعاون الجميع سيما المعنيين بالشأن التربوي, والذين لا بدَّ وأن يضعوا في أولوياتهم أصول التنشئة وركائز الإعداد الإنسانيّ السليم القائم على بناء النواة الأولى لأنسان سويّ مشبع بالمبادئ التي تؤهّله للعيش والشراكة في المجمع البشريّ الكبير ..

بقلم : الشيخ محمد اسعد قانصو

Cheikh_kanso@hotmail.com

تعليقات: