صناعة شراب الرمان: تراث جنوبي يعاند الزوال


بين الأبنية الحديثة وما تبقّى من بساتين خضراء، تفوح بين الحين والآخر روائح زكية تزكم الأنوف عطراً وراحة لتنقل الإنسان مباشرة بذكرياته الى الماضي الجميل، إذ ما زالت الكثير من المهن اليدوية الصيداوية التراثية، تُعاند الزوال والإنقراض رغم كل التمدن والتطور التكنولوجي الذي شهدته المدينة··

فماء الورد وماء والزهر وشراب الرمان وسواها·· مهن يدوية ما زالت بعض العائلات الصيداوية تُحافظ على صناعتها وقد إلتصق أسماء الكثير منها بكنية العائلة ذاتها أو لقبها كتعبير عن بقائها حية ومنع إندثارها·· وسبب الحفاظ عليها كما يؤكد محترفوها أنها لم تعد مجرد مهنة لكسب قوت اليوم والعيش من جنى عائداتها وإنما تراث متوارث من جيل الى آخر··

توقفنا مع عائلة حجازي التي حافظت على احدى المهن التراثية المتوارثة أباً عن جد فإشتهرت بصناعة شراب الرمان··

صناعة شراب الرمان داخل أحد بساتين منطقة <مكسر العبد> عند الأوتوستراد الشرقي - بوليفار الدكتور نزيه البزري الواقع في الطرف الشمالي لمدينة صيدا، يُحوّل الصيداوي بسام حجازي أكواز الرمان الطازجة الى عصير لذيذ وشراب طيب، في عملية يومية تستغرق 8 ساعات يمضي منها 5 ساعات أمام موقد من النار على الحطب، في مهنة يُحافظ عليها منذ أكثر من 50 عاماً، بعدما ورثها أباً عن جد وباتت تجري في عروقه وشرايين دمائه، ويتنفسها كالهواء رغم كل ما أصابها من تراجع وارتفاع في كلفة الإنتاج·

غداة كل صباح، تجتمع عائلة حجازي حول مئات من <أكواز> الرمان في حركة لا تهدأ، ينهمكون في صناعة شرابه الذي ما زال يعتبر من مونة المنزل ويقدم للضيوف كشراب فاخر طيب المذاق أو يرسل الى المسافرين كهدية تحمل في طياتها ذكريات الماضي الجميل·

بسام حجازي (50 عاماً) أوضح ان <هذه المهنة تجري في عروقي كالدماء، إذ ورثتها عن والدي علي قبل 25 عاماً، الذي بدوره ورثها عن والده - جده محمود، لتنتقل بين أفراد العائلة منذ نصف قرن وما يزيد، وفي ذات المنطقة كمصدر رزق للعيش الكريم>·

ورأى <أن صناعة شراب الرمان مهنة ليست معقدة، ولكنها تحتاج الى خبرة كما كل مهنة قديمة، فلها أسرارها وطريقة صناعتها بجودة عالية>·· مؤكداً <أن المهم فيها نظافة وطول أناة - الصبر، إذ تستغرق عملية صناعته نحو 8 ساعات متواصلة في رحلة عمل طويلة، تبدأ بشراء <أكواز> الرمان، وعادة تكون من حسبة صيدا بالجملة، حيث يبلغ كلغ الواحد نحو 1000 ليرة لبنانية، وصولاً الى غليه على النار، وتعبئته في قناني زجاجية نظيفة معقمة لتباع الواحدة منها بـ 20 ألف ليرة لبنانية>·

خبرة ومراحل العمل على مدى شهر كامل من نهاية أيلول حتى آواخر تشرين الأول من كل عام، يبدأ عادة موسم صناعة شراب الرمان وهو يمر بـ 5 مراحل أساسية، تبدأ بتنظيف <أكواز> الرمان بمياه نظيفة عدة مرات حتى يزول عنها كل بقايا الأوساخ والوحل، ثم يتم تقطيعه بواسطة سكاكين كبيرة حادة، قبل أن يتم فرطه بواسطة عصا خشبية صغيرة تسمى <المكتة>، مروراً بتنقيته من القشور البيضاء وعصره وتصفيته وصولاً الى غليه على نار هادئة·

وأضاف حجازي: إن كل مرحلة منها تحتاج الى جهد ووقت، فغسيل <الأكواز> يُعتبر الأصعب، لأن النظافة أساس العمل وهو يحتاج الى وقت، بينما الفرط بواسطة عصا خشبية - <المكتة> يحتاج الى جهد وعرق، فيما باقي المراحل سهلة وتحتاج الى خبرة ومراقبة دائمة لجهة عصره وتصفيته·

وتابع: إن هناك عدة أنواع من الرمان، وأهمها الرمان الحامض العادي والحلو واللفاني (قليل الحموضة)، والرمان الصنيني وهو شديد الحموضة، بيد أن أفضل الأنواع التي تستخدم في استخراج شراب الرمان، هو الرمان الحامض والصنيني الذي يزيد من عقدة الشراب ليمنح المتذوق نكهة لا تضاهى·

بين الحداثة والتطور وأكد <أن التطور لم يدخل الى هذه المهنة، فهي يدوية 90%، فقط عصر <أكواز> الرمان كان يتم بواسطة اليدين ويأخذ وقتاً طويلاً، أما اليوم فإننا نعصره بواسطة آلة كهربائية، قبل أن يتم تصفيته تحضيراً لغليه على النار>·· مشيراً الى <أنه ما زلنا نستخدم موقد النار على الحطب لا حباً بالتوفير أمام إرتفاع أسعار الغاز وهو كل يوم في ازدياد·· ولكن لأن <الطبخة> تحتاج الى نار هادئة تستمر نحو 5 ساعات، ونستخدم الوعاء النحاسي لأنه الأفضل، كي يعقّد العصير ويتحول الى شراب، قبل أن نسكبه في قناني زجاجية نظيفة ومعقمة ويصبح صالحا للشرب>·

وأضاف حجازي متباهياً بإنتشار إنتاجه: لقد بتنا مقصداً من مختلف المناطق اللبنانية وليس في صيدا ومنطقتها وحسب وكثيراً من الزبائن <يوصوننا>، كما حال عدد من أصحاب المحال التجارية، لأن صناعتنا باب أول ولا نضيف إليها أي ماء أو ملح الليمون أو حتى النشاء كي لا تخرب <الطبخة>·· موضحاً <إننا نبيع انتاجنا بالجملة والمفرق حسب الطلب، فالقنينة الواحدة نبيعها بـ 20 ألف ليرة لبنانية وبالجملة بـ 18 ألف ليرة لبنانية>، ويضيف ممازحاً <نقبض بالعملة اللبنانية فقط>·

خسارة·· وقرار بالإستمرار ولأن الصناعة تحتاج الى جهد وقوة ممزوجة بالتعب والعرق، فقد إستعان حجازي بعدد من العمال الذين ينهمكون في فرط <أكواز> الرمان ويتقاضون في اليوم 25 ألف ليرة، فيما والدته الحاجة مواهب حجازي التي رافقت زوجها علي وولدها بسام في هذه المهنة منذ خمسة عقود من الزمن في ذات المكان، تساعده في الإشراف على العمل والعمال معاً·

وقالت حجازي: إنني سعيدة بهذه المهنة التي حفظت طريقة صناعتها عن ظهر قلب، فهي تحتاج الى خبرة وانتباه ومراقبة كي لا <تشوط الطبخة> - تحترق وتخرب·

وأضافت: إنها مصدر رزقنا الأساسي فهي تكفي للعيش بكفاف اليوم ورغم ذلك نتمسك بها رغم كل الغلاء وارتفاع الأسعار، لكن للأسف لم تعد تكفي الهم والتعب اليوم أمام المضاربة والمنافسة ما دفع بسام الى تعلم مهنة الميكانيك·· وما نأسف له أن أحفادي لا يرغبون بتعلمها كما والدهم، لقد قرروا متابعة تحصيلهم العلمي، يرون أن مستقبلها بات محدوداً أمام التطور والآلات الحديثة التي باتت تصنعها بطريقة تجارية وليست منزلية خالصة·

<أم درويش> التي تعشق هذه المهنة كعشق الصيداويين لبساتين الليمون والحامض والأكي دنيا أمام زحف الإسمنت والبناء والإعمار وشق الطرقات، ورغم خسارتها، تمسك بكلتا يديها حبوب الرمان وتحاول الحفاظ عليها كتراث عائلي· وتؤكد <إنها تاريخ العائلة وتراثها، ومن الصعب التخلي عنهما·· فشراب الرمان يُعتبر من حاجيات المنزل، ويستعمل في العديد من الوجبات والطعام>·· متسائلة <وهل هناك أجمل من أن يأكل الإنسان ويشرب من صنع يديه>·

th@janobiyat.com

تعليقات: