لمصلحة من يُدفع الشيعة نحو الانتحار الجماعي؟

 من الاحتفال بالذكرى العاشرة لتحرير الجنوب اللبناني
من الاحتفال بالذكرى العاشرة لتحرير الجنوب اللبناني


غريبة طريقة التعامل هذه مع حزب الله. محاولة حشره في الزاوية. الإصرار على لف الطوق حول عنقه بهدف نحره. ممارسة مستمرة منذ سنوات، رغم نتائجها العكسية: دفعت الشيعة إلى التماهي مع الحزب ومع سلاحه حتى باتوا كينونة واحدة بحلقات ثلاث تحمل ذاكرة جماعية من المظلومية التاريخية وعقيدة مهدوية كربلائية تنزع نحو الاستشهاد... الجماعي

بعيداً عن لغة التخوين، التي طبعت الخطاب السياسي على مدى السنوات الماضية، وبعيداً عن المصطلحات الكبيرة (مقاومة وتحرير وحرية واستقلال وسيادة) التي شكلت مفرداته، أو حتى الاستراتيجيات الإقليمية والدولية التي سعت الأطراف كلها إلى حشر الانقسام الداخلي القائم في أتونها، لا بد من عودة إلى المربعات الأولى، إلى الأنفاق الطائفية والمذهبية البغيضة، إلى الأزقة المصلحية الضيقة والتوازنات المحلية المقيتة، التي تمثّل الينبوع الأساس الذي يرفد كل أنهر الخوف الذي يلامس حد الغيرة، والنبذ الذي يلامس حد الحقد، على حزب الله. بل لا بد من خلع القفازات ومقاربة الأمور كما هي، بصورتها البدائية ومصطلحاتها الخام التي يجري تداولها في الصالونات المقفلة، بعيداً عن الإعلام، حيث يرتدي الخطاب لبوس الوطنية والديموقراطية ومفهوم الدولة والصراع والحياد وما إلى ذلك من مصطلحات ملّها اللبنانيون لكثرة اجترارها.

لننطلق بداية من فرضية أن الانقسام القائم في لبنان (والمنطقة) منذ عقود هو بين مدرستين تتساويان في وطنيتهما وحرصهما على استقرار البلد ورفاهية بنيه وإن كانتا لا تخلوان من متعاملين: تقول الأولى بعدم إمكانية تحييد لبنان عن صراع المنطقة على قاعدة أن إسرائيل قائمة على العدوان والتوسع، وأنها لا تفهم سوى لغة القوة التي لا يمكن استرداد الحقوق إلا من خلالها. أما الثانية فتقول بلاعقلانية الخيار الأول نظراً لكون الطرف المقابل أعتى قوة عسكرية في المنطقة ومدعومة من أعتى قوة عسكرية في العالم. وتحاجج هذه المدرسة بأن عدم التكافؤ العسكري لصالح العدو يفترض تحييد السلاح عن المعادلة وخوض الصراع بأدوات أخرى، في مقدمتها المفاوضات التي تراها الوسيلة الأنجع لاستعادة ما تبقى من حقوق. انقسام بين خياري هانوي وهونغ كونغ، على ما جرى تداوله في تسعينات القرن الماضي في لبنان حيث أدت سوريا دور ضابط الإيقاع بينهما.

التقدير الأكثر صدقيّة هو أنّ القرار الظنّي جاء نتيجة للعجز العسكري عن توجيه ضربة لحزب الله

وقتها تم التوافق على المعادلة الشهيرة: الجنوب والمقاومة لحزب الله، والاقتصاد والداخل لرفيق الحريري. معادلة لم تأت من العدم. كانت أصدق تعبير عن هوية كل من الطرفين. هذا الذي بنى استراتيجية حكمه على فرضية «السلام الآتي» من مؤتمر مدريد وروافده، ومعه تلك الزمرة المعنية بتقاسم الكعكة الداخلية. وذاك الذي مضى في المهمة التي اختارها لنفسه، أي مقاومة إسرائيل وتحرير الأرض، محيّداً نفسه عن كل شأن داخلي (أياً تكن الخلفيات، سواء لجدول أعمال إقليمي أو لأسباب محض ذاتية أو لتوجهات ميتافيزيقية تتحكم بسلوكه. وبغضّ النظر عن السجال حول احتكار المقاومة في الجنوب عبر «مؤامرة» سورية – إيرانية).

الولادة الطالبانيّة

كانت تلك تسوية ما بعد الحرب الأهلية التي أدّت المتغيرات الداخلية دوراً أساسياً في اندلاعها وتأججها، رغم كل المحاولات الرامية إلى تحميل الخارج وزرها كلها. لعل أبرز هذه المتغيرات ذاك المتعلق بالحركة الديموغرافية التي أعطت المسلمين، والشيعة منهم على وجه الخصوص، تفوقاً عددياً عن باقي الطوائف دفع بهم إلى المطالبة بالمساواة وبالحقوق السياسية المسلوبة عبر تعديل دستوري، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي كانت (ولا تزال) وطأتها أكبر على تلك الطائفة المهمشة حيث الفئة العمرية الشابة (القادرة على حمل السلاح والتي تعدّ محركاً لتقدم لأي فئة اجتماعية) تؤلّف قاعدتها الأوسع (وهذا لا يعني تجاهل المهمشين من باقي الطوائف والمناطق، لكن التركيز على الشيعة جاء لضرورات البحث). من هنا ولدت حركة المحرومين التي أسسها الإمام موسى الصدر، والتي خرجت من ثناياها حركة أمل. ومن هنا أيضاً كان الانقسام بين جبهة لبنانية مسيحية رفعت لواء الحفاظ على الوضع القائم (أي الامتيازات التي منحتها لها صيغة 1943) والجبهة الوطنية «المسلمة» التي رفعت لواء «الشراكة» في السلطة والقرار، بمعنى أن الصراع الأساس كان حول صيغة الشراكة في الحكم، وانقسام المجتمع اللبناني إلى مواطنين درجة أولى وثانية وثالثة...

أما العوامل الخارجية، فهي التي أعطت الحرب طابعها وهويتها ووقودها: انتهت حرب 1973 إلى قناعة عربية بأنها الحرب الأخيرة ضد إسرائيل، وبدأت الأطراف المعنية معركة جديدة لامتلاك القدر الأكبر من الأوراق التي يمكن استخدامها على طاولة المفاوضات. كانت الساحة اللبنانية، بتناقضاتها وأزماتها المحلية، وبحكم وجودها على الحدود الإسرائيلية والوجود الفلسطيني فيها، الساحة المثالية لصراع بالوكالة أداره فريقان؛ الأول، أقلّوي كياني يسعى للاحتفاظ بالسلطة، اختار التحالف مع المعسكر الغربي ومع ربيبته في المنطقة. أما الثاني فأكثري بامتدادات قومية وإسلامية وماركسية يسعى لانتزاع حقوق. تحالف مع الفلسطينيين في الداخل والأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لهم. وذلك قبل أن يرتدي الصراع لبوساً آخر، بين مدرستين: مدرسة كامب ديفيد، والمدرسة الخمينية التي حملت لواء مقارعة إسرائيل التي كانت تتولاها في فترة سابقة المدرسة الناصرية.

في هذا السياق المحلي والإقليمي ولد حزب الله عقب عدوان 1982: طائفة فتية مزارعة في الأساس، تتضخم عددياً، هي الأكثر حرماناً وتضرراً من الكيان الإسرائيلي، حكم عليها العثماني بداية ومن بعده الفرنسي ومن ثم الآخر اللبناني أن تكون الأقل حظوة في التراتبية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان حيث عمل الإمام الصدر على تأطيرها سياسياً قبل أن يتهاوى نظام الشاه فجأة لصالح جمهورية إسلامية فتحت مخازنها وجيوبها لوليدها الجديد (حزب الله) الذي تألّف من تجمع مجموعة من التنظيمات الإسلامية الشيعية التي كانت تلعب على الساحة في ذاك الزمن.

ولادة من رحم كربلاء، بكل ما تعنيه من نزعة استشهادية، رفعت عنوانين سياسيين خطّتهما الثورة الخمينية: إسرائيل غدّة سرطانية وأميركا الشيطان الأكبر. والحديث هنا عن الرحم الكربلائية ليس من باب الإطناب ولا لغاياتٍ ترفية. هي المقاربة الوحيدة التي يمكن من خلالها فهم حزب يعبّر عن طائفة تحمل ذاكرة جماعية وإرثاً من "المظلومية" عمره أكثر من 1400 عام، مذ «سُلب» الإمام علي حقه في الخلافة، ومقتل ابنه الحسين في واقعة كربلاء الشهيرة، إلى موت كافة ورثته من «الأئمة المعصومين» قتلاً أو تسميماً، على ما تقول الرواية الشيعية.

والمهم طبعاً ليس واقعة حصول هذه الأحداث من عدمه، بل حقيقة أنه بهذه الطريقة ينظر الشيعة إلى نفسهم وتاريخهم الذي لا يزال يحفر عميقاً في وجدانهم. لعل قروناً من الاضطهاد الذي تعرض له الشيعة، على ما هو عالق في عقلهم الجماعي، أدى دوراً أساسياً في هذا التماهي بين واقعهم وبين ذاكرتهم التاريخية المدعومة بعقيدة كربلائية – مهدوية نجحت الحوزات في الحفاظ عليها عن طريق التمسك باستقلالية إدارية ومالية (الخُمس) مثّلت الضمانة التي حفظت التشيع والشيعة ومنعت السلاطين المتعاقبين من تدجين هذه الطائفة المتمردة.

الشق الكربلائي من العقيدة الكربلائية – المهدوية هو المسؤول عن نزعة الاستشهاد لدى معتنقيها. والاستشهاد هنا له قوانينه وضوابطه الفقهية. هو ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة تُستخدم لتجنب «الذل» («هيهات منا الذلة» للإمام الحسين) و«حفظ البقاء» («أتهددنا بالموت يا ابن الطلقاء، الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة. كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك والله لن تمحو ذكرنا» وهو قول ينقل عن السيدة زينب في مخاطبتها يزيد بن معاوية). بمعنى أن «الشهادة» وسيلة للعيش «بكرامة» ولحفظ حياة الآخرين. ثقافة الموت التي تَلد حياة (في الآخرة للشهيد وفي الدنيا لمحبيه).

وأسمى أنواع الشهادة تتحقق، بحسب معتنقي الخمينية، على يد «المغتصب الصهيوني». بهذا المعنى، يتجاوز مفهوم الصراع مع إسرائيل تحرير الأرض والذود عن الحدود، إلى جسر مرور إلى الجنة الموعودة بالحد الأدنى، والمساهمة في تمهيد الأرض لظهور الإمام المهدي وإقامة دولته المنتظرة وعاصمتها النجف الأشرف.

وهنا نأتي إلى الشق الثاني من العقيدة: المهدوية، الأمل المنتظر في إحقاق العدل والمساوة واستعادة الحقوق في الحياة الدنيا. بهذا المعنى لا مكان لليأس لدى أتباع هذه العقيدة. صحيح أن هناك ظلماً تاريخياً، على ما يعتقد معتنقوها. لكنه ظلم ليس بلا أفق. هناك الأمل الموعود، الذي يعدّ الجهاد في سبيل زوال إسرائيل أحد شروط تحققه.

لعل في ذلك ما يوضح بعض الشيء مفهوم المقاومة لدى حزب الله. هي ليست فعلاً سياسياً مجرداً. هي إكسير حياة. فعل وجود. جزء لا يتجزأ من كينونة هذه الجماعة البشرية ومن صيرورتها.

بهذا الموروث العقائدي ظهر حزب الله بنزعة «طالبانية» فرضتها حداثة الثورة الخمينية والحماسة التي رافقتها والتي عززها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. تنظيم جديد متقوقع عقائدياً، متطرف دينياً. جامد حد التحجر. لا يعرف الآخر ولا يريد. يضرب خبط عشواء بلا حسابات ولا ضوابط، باستثناء الشرعية منها. تنظيم حديدي، لم يمانع في خوض اقتتال شيعي شيعي يوم شعر أن المقاومة في خطر. لكنه وفي أوج «طالبانيته»، كان يعترف بهذا «الآخر» شريكاً في الوطن لا بد من العيش معه، على ما تظهر أدبياته في تلك الفترة.

دولة داخل الدولة

أياً يكن من أمر. انتهت الحرب اللبنانية إلى منتصر ومهزوم ولو ألبسوا الاتفاق – التسوية لبوس «لا غالب ولا مغلوب». جرى تعديل الدستور وأعطي الشيعة بعضاً من حقوقهم السياسية فيما زادت خطة إعادة الإعمار التي ركزت على بيروت العاصمة، مظلوميتهم الاقتصادية. ودخل الجميع لعبة إعادة بناء الدولة (أو نهبها)، فيما انصرف هذا الحزب لمحاربة إسرائيل، مدعوماً من طهران ومحمياً بالتحالف السوري – الإيراني الذي بدأ مع أوائل التسعينات يتحول شيئاً فشيئاً إلى تحالف استراتيجي.

مرت السنون وبدأ نفوذ هذا الحزب يتضخم داخل الطائفة الشيعية. خلق الآلاف من فرص العمل، سواء داخل الحزب أو في المؤسسات التي تتبع له. ولم يترك قطاعاً اجتماعياً تنموياً يعتب عليه؛ أقام المؤسسات الصحية والتربوية والمصرفية ودور الرعاية الاجتماعية ودور النشر ... إلى الحد الذي بات فيه «دولة داخل الدولة» التي كانت حريصة، على ما يظهر، على تغريب الشيعة. هي لم تحاول أصلاً العمل على دمجهم في أطرها، على الأقل بحسب ما يعتقد أبناء هذه الطائفة. وهنا لا بد من الإشارة، بين المزاح والجد، إلى أن أحداً لم ينتبه إلى أن هذه الدويلة «الحزبللهية» جنّبت الدولة الأم، عن قصد أو عن غير قصد، الكثير من الخضّات الاجتماعية بإنفاقها مئات الملايين من الدولارات سنوياً (20 مليار دولار بالحد الأدنى خلال 20 عاماً) على المناطق الشيعية وتوفير الخدمات التي كان يفترض بالدولة أن توفرها منذ عقود.

مهما يكن، فإن حزب الله أدى خلال هذه الفترة دورين أساسيين. الأول نفسي. أعطى الشيعة شعوراً بالفخر والاعتزاز بما أنساهم، بعض الشيء معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل حتى عقوداً من المعاملة كمواطنين درجة ثالثة. كان خطاب واحد للسيد حسن نصر الله حول المقاومة وبطولات المقاومة كافياً ليخلد أهل هذه الطائفة إلى أسرّتهم هانئين قانعين، ولو كانت ثلاجاتهم خالية من الطعام أو جيوبهم من المال.

أما الدور الثاني فاجتماعي. مثّل حزب الله وسيلة للارتقاء واكتساب الاحترام؛ وضع اقتصادي مزرٍ وأبواب وظائف الدولة مقفلة في وجه الشيعة، باستثناء «المحظوظين» من حركة أمل (توازن مذهبي مفروض وغالبية عددية شيعية)، كان أمام هؤلاء حل من اثنين: إما اللجوء إلى أفريقيا سعياً وراء لقمة العيش، أو الانضمام إلى حزب الله. وأدّت الهالة والتقديس اللذان منحهما الحزب للشهداء، إلى تعزيز مفهوم الشهادة في صفوفه، خاصة في ظل الاهتمام والرعاية التي يمنحها لعائلات هؤلاء.

راكم حزب الله عناصر القوة والخبرة والسمعة، مع كل جولة جديدة مع إسرائيل. لكن الأهم أنه راكم معها نضجاً سياسياً، جعله أكثر مرونة ودبلوماسية وتفهماً للآخر، سواء كان شريكاً في الوطن، أو في الطائفة. حتى تزمّته الديني حصَرَه داخل صفوفه وأوساطه. علماً بأن حزب الله لم يحظ يوماً بإجماع شيعي حوله، ولا حتى حول عمله المقاوم. كانت هناك دوماً تحفظات على بعض رموزه الدينية، من مثل التشادور، أو ارتباطاته الإقليمية (إيران).

في المقابل، حرص حزب الله على عدم الخوض في السياسة الداخلية اللبنانية لأسباب متعددة، لعل بينها انتفاء الحاجة، السياسية والأمنية، ما دام ظهر المقاومة محمياً، وحتى الخدماتية التي كان الحزب يؤمنها بنفسه. هناك انتفاء الرغبة لدى هذه الجهة التي تعمل، كما سبق وذكرنا، لآخرتها وليس لدنياها. من يهتمّ بالكبائر، مقارعة الصهاينة وتمهيد الأرض لظهور الإمام المهدي والسعي نحو الشهادة طمعاً بالجنة، لا تعنيه الصغائر الدنيوية (يمكنك أن تجد مسؤولاً جهادياً يدير ملايين الدولارات الخاصة بالمقاومة فيما تعاني عائلته فاقة مالية، علماً أن الاستثناء موجود دائماً ولكنه من ذاك النوع الذي يؤكد القاعدة). وهناك أيضاً توزع الأدوار مع حركة أمل التي تولت ملف السلطة والحصة الشيعية فيها.

يمكن المرء أن يجد في طريقة تعامل حزب الله مع الانسحاب الإسرائيلي لعام 2000 الكثير من المؤشرات التي تدعم الاستنتاجات السابقة: إهداء الانتصار للشعب اللبناني كله، بجميع مشاربه المذهبية والسياسية. الحرص الشديد على ضبط الوضع الأمني ونشر الأمان فوراً، خاصة في القرى المسيحية. عدم الانقضاض على العملاء، خاصة الذين ينتمون إلى المذاهب الأخرى. التأكيد على عدم نية المطالبة بثمن داخلي لهذا الإنجاز...

الخروج إلى الداخل

انتصار شكر أتباع مدرسة كامب ديفيد حزب الله عليه، لكنهم استغلّوه لخوض جولة مواجهة إعلامية تطالبه بتسليم سلاحه، تحت عناوين متعددة، بينها انتفاء الحاجة بعدما حُررت الأرض، وضرورة تحييد لبنان عن الصراع الذي دفع وحده دون الدول العربية الأخرى ثمنه. باختصار «بدنا نعيش ونبني البلد». جولة كان معروفاً مسبقاً أنها بلا جدوى. كان البلد لا يزال ممسوكاً بقبضة حديدية سورية، وكان لحزب الله تبريره، الذي لم يقنع أحداً من المطالبين بالسلاح، وهو مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ومعها الأسرى... والقرى السبع.

وتسارعت الأحداث: 11 أيلول واحتلال أفغانستان والعراق وشرق أوسط واسع موعود، ومشروع أميركي لتغيير وجه المنطقة، يتصدر حزب الله وسلاحه جدول أعماله، من أوائل إرهاصاته اللبنانية القرار 1559، الذي أشار في أحد بنوده إلى نزع سلاح الميليشيات، قاصداً حزب الله (والفصائل الفلسطينية). ترسخ انقسام البلد معسكرين بدأت الهوة بينهما تكبر إلى أن بلغت أوجها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري. خرج الجيش السوري من لبنان، ووقف تحالفا 14 و8 آذار وجهاً لوجه في ظل استقطاب مذهبي يحاكي السنوات الأولى للحرب الأهلية.

وجد حزب الله نفسه فجأة أمام وقائع ثلاثة: انسحاب سوري خلّف فراغاً أمنياً يكشف ظهر المقاومة. تحالف سياسي يقتات بدماء الرئيس الحريري (والشهداء الذين سقطوا بعده) يسعى لأخذ لبنان إلى المعسكر الآخر، إلى «حلف كامب ديفيد الجديد» الذي سمي «اعتدالاً». مخاوف من انزلاق البلد نحو اقتتال أهلي يراه حزب الله آخر كوابيسه. واقع جعل خوض غمار الساحة الداخلية واجباً. أولى موجباته حماية المقاومة وسلاحها.

هذا بالنسبة لحزب الله. لكن الأهم هو ما حصل للطائفة الشيعية التي تعرضت لواحدة من أشرس حملات التحريض، عناوينها المعلن منها خياراتها السياسية والمضمر خلفياته مذهبية عنصرية فوقية مقيتة. وهنا لا بد لحزب الله من توجيه الشكر لجهابذة 14 آذار، بامتداداتهم الإقليمية والدولية، الذين جعلوه حزب الطائفة الشيعية (وليس قسماً منها على ما كانت عليه الحال) وسلاحه، في الذهن الجماعي، هو سلاح الشيعة. دفعوا هذه الطائفة، التي انكفأت على نفسها ورصّت صفوفها متجاوزة كل خلافاتها، مرة جديدة إلى أحضان الحزب، الذي تماهت معه ومع سلاحه.

الاحتكاك الفعلي الأول لحزب الله كطرف أساسي فاعل ومنخرط حتى العظم في الشأن الداخلي اللبناني، تمثل في صولات وجولات أمينه العام الحوارية على طاولة الرئيس نبيه بري (كان قد شارك للمرة الأولى في الحكم في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بوزير غير حزبي هو طراد حمادة). خروج نصر الله (الذي «يزار ولا يزور» على ما هو معروف) من برجه الأمني، ومد اليد للجميع في محاولة لإيجاد حل ينقذ البلد ويحفظ المقاومة، نُظر إليه على أنه إحدى علامات الضعف. أصلاً حزب الله كان موصوفاً بأنه «أسد على الجبهة نعجة في الداخل». كم مرة أطلقت النار عليه ولم يحرك ساكناً؟ كم مرّة هوجم وشُتم و... ولم يأت بأي ردة فعل؟... حراك انتهى إلى لاشيء.

حتى جاء اختبار تموز وما رافقه من انهيار للحد الأدنى من الثقة بالأطراف الأخرى لما تكشّف في خلالها عن المدى الذي بلغته الاتصالات بالخارج، الأميركي والإسرائيلي، ولما نُقل من أحاديث شماتة، ووعيد، وتهديد بإعادة الشيعة عقوداً إلى الوراء، أيام كانوا مواطنين درجة ثالثة. وكانت المفاجأة: نصر قلب موازين القوى في المنطقة، خرج منه حزب الله والشيعة أقوى مما كانوا عليه.

«إنذار» أيّار

وقف دويّ الصواريخ ومعه دخل البلد في أتون أزمة سياسية تعددت فصولها، لكنها بلغت أوجها في تلك الليلة الليلاء من الخامس من أيار 2008. يومها اتخذ مجلس الوزراء اللبناني قرار تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة (موضوع العميد وفيق شقير يعدّ تفصيلاً). لا بد أن تقدير الموقف لدى 14 آذار كان يراوح حينها بين النجاح في تفكيك الشبكة وبالتالي تكون خطوة أولى نحو نزع سلاح المقاومة (هذا إذا افترضنا حسن النية!) إلى احتجاج سياسي شعبي سقفه سبق أن اختبر في التظاهرات المناهضة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. أداء حزب الله «النعجة» على الساحة الداخلية خلال السنوات الماضية كان يفترض، على ما قرأ قادة 14 آذار، عدم استخدام السلاح في الداخل. أما في ما لو استخدم، وهو الطموح الأقصى لهؤلاء، فهو في هذه الحال يفقد قدسيته وهالته وشرعيته ومشروعيته ويتحول إلى سلاح ميليشيوي يجب نزعه.

ما جرى في ذاك الوقت هو ثلاثة أنواع من الخطأ في الحسابات: الأول، يتعلق باستبعاد استخدام حزب الله لسلاحه في الداخل. ما فات أهل الحل والعقد في 14 آذار هو أنّ كلّ تعفُّف حزب الله («لن نطلق النار ولو قتل لنا ألف محمد محمود») وسلوك «النعجة» الذي احترفه في التعاطي مع الملف الداخلي لا هدف له إلا حماية المقاومة وسلاحها. وبالتالي لأن استهداف سلاح المقاومة يُبطل كل ما سبق، فكان الوجه الجديد الذي ارتداه حزب الله وأمينه العام منذ ذلك الحين. أصلاً لطالما حذر نصر الله من أن «اليد التي ستمتد لسلاح المقاومة ستقطع». المشكلة أن البعض إما لم يقرأ تاريخ، أو أن نواياه الخبيثة تحركه أو أنه عاجز عن القيام بغير ذلك. الخطأ الثاني يتعلق بتقدير قوى 14 آذار لقواها العسكرية الذاتية. كان الرهان، إذا تحقق سيناريو استخدام حزب الله لسلاحه، على صمود ميليشيات 14 آذار لفترة تسمح للعرب والمجتمع الدولي بالتحرك في هذا السياق. لم تصمد ساعات. أما الخطأ الثالث فكان اعتقاد البعض أن حزب الله كان يمكن أن يمضي بعمليته العسكرية حتى النهاية، سواء عن طريق اقتحام السراي أو المسّ بأي من الرموز أو تغيير الوضع القائم جوهرياً. ما حصل كان ضربة عسكرية موضعية استهدفت تحقيق هدف واحد أحد: تغيير المعادلة على الأرض بما يضمن التراجع عن القرارين المشؤومين.

ومع ذلك، فإن كل ما سبق عن 7 أيار يبقى تفاصيل. المهم فيه أمران: الأول أنه أثبت بما لا يبقي أي شك أن حزب الله مستعد للتضحية بكل شيء من أجل المقاومة. معادلة تحمل معنيين: أن الحزب يتخلى عن كل امتياز أو مكسب أو حصة أو غنيمة للآخرين في مقابل احتفاظه بالمقاومة. وفي الوقت نفسه، أنه يضحي بكل ما يملك من أصول وأموال وبشر وسمعة وإرث من أجل حماية هذه المقاومة والحفاظ عليها.

أما الأمر المهم الثاني، فهو أن حزب الله وفي أوج استهداف المقاومة وسلاحها ظل يتصرف على أساس أنه طرف من بين مجموعة شركاء في هذا الوطن، وأن الجميع مضطر، في اليوم التالي لانتهاء المعركة، لأن يعيشوا معاً في ظل في هذا البلد الذي لا تزال وحدة أراضيه خطاً أحمر. وهذا يفسر لماذا كان الحرص على التأكيد أن «العملية جراحية موضعية» وعلى بذل الجهود كلها من أجل تجنب الفتنة.

يوم يصبح عنوان المعركة الشيعة والتشيّع لن تكون هناك ضوابط لا شرعية ولا سياسية

الكل يتذكر المقولة التي سيقت في ذلك الوقت عن كون حزب الله «مارداً في المنطقة وقزماً في لبنان»، وأن كل قوته حدودها في الداخل حدود طائفته. وفي ذلك الكثير من الدقة ما دام الحزب لا يزال يأخذ «الآخر» في حساباته. وهو كذلك ليس لعجز الحزب عن أن يكون مارداً في الداخل، بل لاستحالة أن يفعل ذلك ويبقى حزب الله الذي نعرفه وأن يبقى يحتفظ بالسمعة التي بناها على مدى عقود. وما قيمة حزب الله من دون سمعته: مقاومة وصدقية وأخلاق؟ الكل كان يعرف ذلك، وخاصة خبثاء 14 آذار لحظة قرروا استصدار القرارين المشؤومين.

بل أكثر من ذلك. إن في العنوان والطريقة التي استخدم حزب الله عبرهما سلاحه في 7 أيار أكبر دليل على استحالة استخدام هذا السلاح في الداخل. العنوان: السلاح دفاعاً عن السلاح. أي السلاح دفاعاً عن المقاومة. والمعنى، بحسب ما أسلفنا، السلاح دفاعاً عن فعل الوجود، وعن الكينونة، عن إكسير الحياة. والطريقة: القدر الضروري من القوة غير المباشرة (عبر أطراف أخرى) لضمان التراجع عن القرارين. لا أكثر ولا أقل. (ما حصل في برج ابي حيدر إشكال فردي ساهمت عناصر غير منضبطة في توسّع دائرته من دون قرار من القيادة ولا حتى رضاها).

نحو الانتحار الجماعي

معركة جديدة انتهت إلى غالب ومغلوب، تكرست التسوية الجديدة بينهما في الدوحة. وهكذا كانت حكومة الوحدة الوطنية وما تلاها، إلى أن جاء تقرير دير شبيغل، الذي سرعان ما تبين أنه القمة الظاهرة من جبل بدأ ينقشع رويداً رويداً إلى أن انكشف وجود قرار ظني بحق أفراد من حزب الله متهمين بقتل الرئيس رفيق الحريري. طبعاً ملف المحكمة وتقنيات التحقيق ومهنيته وصدقيته ليست موضوع هذا البحث، وهي في كل الأحوال تبقى تفاصيل مهما عظمت أهميتها.

قرار ظني كهذا يتطلب نوعين من النقاش. الأول في خلفياته، والثاني في تداعياته.

على المستوى الأول، يبدو التقدير الأكثر صدقية هو أن هذا القرار جاء نتيجة للعجز العسكري عن توجيه ضربة قاصمة لحزب الله. بهذا المعنى، يكون القرار الظني بديلاً للحرب المنتظرة على المقاومة. صحيح أنها حرب حتمية، لكن مقوماتها غير متوفرة الآن، لا إسرائيلياً ولا أميركياً. القدرات الردعية لدى حزب الله تبدو أكبر من القدرات الهجومية الإسرائيلية. على الأقل هذا ما يعتقده صنّاع القرار في دولة الاحتلال.

الجديد في القرار الظني أنه ينقل عنوان المعركة من السلاح إلى حزب الله نفسه. واستهداف الحزب هنا ليس مادياً بالطبع، لقناعة الجميع باستحالة ذلك. كيف وقد عجزت إسرائيل، بكل جبروتها، عن تحقيق هذا الهدف؟ الاستهداف معنوي. تجريد حزب الله من شرعيته ومشروعيته. تحويله إلى تنظيم شيعي متهم بقتل زعيم سنة لبنان. عصابة من المغامرين وقطاع الطرق الذين يتخذون من لبنان رهينة لخدمة إيران. وقس على ذلك. بهذا، تكون عملية عزل الحزب قد وضعت على نار حامية. محاولة لدفع مؤيديه من «الشرفاء» عبر العالم للانفضاض عنه. تحويله إلى جرثومة تصيب كل من يقترب منه بلوثة. ويكونون بذلك قد مهدوا الأرضية لاستهدافه مادياً بضربة عسكرية عندما تتوفر الظروف الملائمة لها.

وكما كان عليه الحال يوم استهداف السلاح، يبدو العاملون على استهداف حزب الله واحداً من ثلاثة: إما جاهلون أو مضطرون أو أغبياء، على قاعدة استبعاد فرضية العمل على تدمير الهيكل على رؤوس الجميع مهما بلغ مستوى الخبث.

سبق أن أوضحنا وجود ثلاث حلقات تتماهى فيما بينها (بسبب غباوة عباقرة 14 آذار) وتحمي كل منها الأخرى: السلاح والحزب الله والشيعة. يوم استهدف العنصر الأول، أي السلاح، هبّ العنصر الثاني للدفاع عنه. رأى الحزب أن استهداف السلاح محاولة للقضاء على كينونته هو، محاولة لإدخاله دائرة الخطر.

ما يحصل اليوم أن الخبثاء من أتباع كامب ديفيد انتقلوا درجة على سلّم الاستهداف. التصويب الآن على حزب الله ككيان. بات السلاح والحزب في خطر. الأمر الذي يعني أن الشيعة كطائفة والتشيع كمذهب في لبنان بات مهدداً بدخول دائرة الخطر.

وهنا ننتقل إلى المستوى الثاني من السجال حول تداعيات القرار الظني. ما يجري عملية قتل معنوية لحزب الله وبالتالي للشيعة، على ما أسلفنا. محاولة لتدمير الحزب الذي جعلهم «أشرف الناس وأطهر الناس»، وتجريدهم من السلاح، «زينة الرجال» بحسب تعبير الإمام الصدر، الذي حماهم في وجه إسرائيل وأعاد لهم كرامتهم قبل أرضهم وبيوتهم. محاولة لحرمانهم من عناصر القوة وضمانة الوجود... لإعادتهم مواطنين درجة ثالثة، على ما جرى التداول في بعض الصالونات خلال عدوان تموز... لوضعهم مرة جديدة على المقصلة. عملية تخيير جديدة بين «السلة والذلة»، بين القتل الجماعي والانتحار الجماعي. التجارب التاريخية والعقل الكربلائي ينبئان بأن الاختيار سيقع على الخيار الثاني، على الاستشهاد الجماعي. ولا يعني هذا أبداًً وضع المسدس في الرأس وقتل النفس. بل فتح النار على الجميع على قاعدة «عليَّ وعلى أعدائي يا رب».

هذا على المستوى العام. أما على مستوى حزب الله فهناك أيضاً ما يقال. يوم استهدف السلاح، نزل الحزب إلى الشارع، لكن وفق ضوابط شرعية وسياسية، في مقدمتها الحفاظ على السمعة وعلى العيش المشترك. ضوابط لن يكون لها وجود، يوم يصبح عنوان المعركة: الشيعة والتشيع (راجع ما حصل في العراق).

مجنون قال ذات يوم إنه ما عاد من خيارات متوفرة في التعاطي مع حزب الله وسلاحه سوى اثنين: إما دعمه وإما احتواؤه. لعله السياسي الأعقل في هذا البلد.

تعليقات: