«تعالوا وانظروا إلى كريم»

كريم متألماً من جراحه قبل عام<br>(أرشيف ـــ كامل جابر)
كريم متألماً من جراحه قبل عام
(أرشيف ـــ كامل جابر)


من منكم لا يتذكر كريم؟ الطفل ابن العامين والنصف الذي تناقلت وسائل الإعلام صوره باكياً بين يدي الطبيب في المستشفى إثر تعرّضه للإصابة في قصف وحشي طال بلدته زبدين؟ يومها وجد كثيرون في كريم شبهاً بينه وبين أطفالهم. تصدّرت صوره التظاهرات وتلقت عائلته رسائل تضامنية أبرزها من مواطنة

سلوفانية عرضت استقبال كريم وعائلته في موطنها رغم ضيق حالتها المادية. كريم الذي كبر عاماً استعاد صحته وضحكته البريئة، يستمع إلى رواية والده عما حصل من دون اهتمام لكنه يخشى الاسرائيليين الذين رآهم عند بوابة فاطمة

لم تكن الساعة تجاوزت العاشرة والنصف من صباح اليوم الخامس للعدوان، عندما استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية، مرتين وبتفاوت نصف ساعة، مدخل بلدة زبدين، غربي مدينة النبطية. الحصيلة غير المعلنة كانت 13 شهيداً، بينهم مسعفون من الهيئة الصحية الإسلامية وكشافة الرسالة الاسلامية، ومن أبناء الحيّ وثلاثة عمال سوريين.

دخان كثيف يتسلل إلى منزل محمد قبيسي الواقع في الجهة المقابلة للمبنى المستهدف. يلتقط أنفاسه بعد ضيق، ويروح ينادي ابنه كريم (سنتان ونصف السنة). يسأل زوجته بالصوت، في ظلّ انعدام الرؤية: أين كريم؟ فتجيبه: «ربما في غرفة اللعب».

يركض محمد بهستيريا نحو الغرفة المرجوّة متلّمساً الجدران، ويعود. يكرّر الأمر ثلاث مرات، ولا يسمع رداً من كريم. في المرة الرابعة، يشعر محمد بأن حجراً يتحرك في الغرفة «تقدمت بسرعة وبدأت أتحسّس المكان، قبضت على لحم جسد كريم ورفعته من بين الركام. كان في الخزانة التي قذفته الغارة إليها، حمته كثافة الثياب فيها من شرّ الردم والزجاج المتطاير». يقول بتأثر: «لم أرَ بعدما قربته من وجهي سوى عينين واسعتين ودماء تبلل جسد الطفل المصدوم وثيابه، الحمد لله، كان حيّاً».

لم تكن مختلف العائلات التي تقطن في المكان تتوقع أن يكون البناء المقابل هدفاً للغارة. «لم نسمع أصلاً غير دويّ ضعضعة جدران وتحطيم زجاج. كأن الظلام حلّ فجأة، بعد زلزال، وفي وسطه رحت أبحث عن ماء أبلّ به ريقي لكني لم أجد بسبب تطاير الخزانات عن السطح، وانفجار الأنابيب. وبعدما عثرت على كريم، كنت في حاجة إلى ماء ينظف حلقه من الغبار الكثيف فوقعت على مياه البراد ورحت أصبّ المياه الباردة عليه وعلى جسده. بعدها بدأت أسمع الصراخ، ومن ينادينا بأن ننزل من البيت قبل وقوع غارة ثانية. التقيت تحت، بجاري ومعه سيارة إسعاف، وبعد إلحاح توجّهت به إلى المستشفى».

يسمع كريم الذي لا تغادر البسمة وجهه، رواية الوالد. يصغي إليه من دون أن يترك لعبته «الدبابة الحمراء»، لقد كبر اليوم عاماً بعد الغارة، واكتسب حياة جديدة عمرها سنة كاملة. يستفيض «أبو كريم» في سرد تفاصيل علاج طفله في المستشفى وتقطيب جروح الرأس والقدمين واليدين «هناك اكتشفت أني مصاب بدوري، فعالجت جروحي، ونمنا تلك الليلة في غرفة العمليات في المستشفى الحكومي من دون إنارة وتكييف بعد سلسلة غارات على كفرجوز. كدنا نموت من انقطاع الهواء، وفي اليوم التالي أخذت كريم ووالدته إلى أنصار التي تعرّضت بدورها لغارة في المنزل المجاور. انتقلنا بعدها إلى عاليه، حيث منزل أحد الأصدقاء، بعدما أحضرت ابنتي مريم البالغة ست سنوات من عند أهل زوجتي في بيروت». مريم كانت قد شاهدت صورة شقيقها المصاب على التلفاز، طلبت هاتف البيت مرات عدة قبل أن تتصل بوالدها على الجهاز الخلوي واطمأنت على سلامته وسلامة أخيها.

تصدّرت صورة كريم المصاب في المستشفى الصحف ومحطات التلفزة، وتقدمت العديد من التظاهرات في العالم التي طالبت بوقف العدوان على لبنان.

حملت السلوفينية مليسا هوتزك صورة الطفل المؤثرة، وراحت من سفارة إلى سفارة تدق أبوابها، وتسلمها رسائل فيها «أن إسرائيل دولة مجرمة تقتل الأطفال، ولأنكم تسكتون عن جرائمها، يعني أنكم مشاركون في هذا الجرم، يعني أنكم مجرمون». وبدأت سلسلة اتصالات حتى اهتدت إلى مركز عمل والد كريم في بلدية النبطية. يقول: «طلبتني بالهاتف، وسألت عمّا أحتاج إليه مع العلم أنها فقيرة جداً، وعندها طفل يشبه كريم، عمره خمس سنوات. ثم أرسلت كنزة وألعاباً متواضعة إلى كريم وعرضت أن تأخذه وأخته مريم إلى بلادها ونحن معهما. ورغبت في المجيء إلى لبنان، بيد أن ظروفها لا تسمح بذلك، وقالت إنها فقدت 5 كيلوغرامات من وزنها جراء قلقها على كريم. برأيي قدمت هذه السيدة المتواضعة، لابني، ما لم يقدمه العالم كله».

تكره الطفلة مريم «إسرائيل» وتحزن لأن شقيقتها التي ولدت بعد الحرب بشهرين لم تعش غير يومين. تقول الوالدة إنها ماتت بسبب ضيق في التنفس لم يدرك الأطباء سببه «والأرجح أنه يرتبط بما جرى لنا عندما كنت حاملاً بها في الشهر السابع، يوم الغارة، إذ عدت لأبحث عن بعض الثياب لكريم، لم أجد مفتاح السيارة، تركتها وذهبت مع جارنا، ولم نكد نبعد خمسمئة متر، حتى أتت الغارة الثانية وقذفت السيارة إلى الحقل القريب، في هذه الغارة قتل ثلاثة عمال سوريين كانوا يعبرون في المكان نحو النبطية».

منذ أسبوع أجريت عملية جراحية جديدة لكريم، فانتزعت شظية زجاجية كبيرة من يده «قال الطبيب إنها كانت في العضل ثم تحركت نحو شريان حيوي، كادت أن تقطعه، لو حصلت بالليل، لسبّبت نزفاً لا تحمد عقباه».

ويروي الوالد أنه أخذ كريم، أخيراً، معه إلى منطقة بنت جبيل «وعندما وصلنا إلى بلدة كفركلا أشرت إلى الموقع الإسرائيلي الحدودي، فنزل فجأة إلى تحت المقعد وراح يسأل بذعر من أحضر الإسرائيلي إلى هنا؟» ومن حين إلى آخر نسمعه يردد «الله يهدك يا إسرائيل».

صور كريم رفعت بالحجم الكبير في تظاهرات في أوستراليا، ولأجلها جرى جمع تبرعات لمساعدة أطفال لبنان «أما هو، فعندما كان يشاهد صورته على الشاشة كان يصرخ: تعالوا شوفوا كريم».

«لعنة الله على اسرائيل»

ثريا جابر ناجية من المجزرة أيضاً. لم تتصدّر صورتها وسائل الإعلام فحسب، بل كان لكلمتها التي اطلقتها لحظة الانفجار وقعها. كانت خارجة من البناية المقابلة للمبنى المستهدف في زبدين، حاملةً ما تيّسر من أغراض خاصة تمكّنت من جمعها في عُجالة الهرب. وقفت أمام الكاميرات تصرخ: «سجّلوا، أنا مواطنة لبنانية أحمل الجنسية الفرنسية، أقول بصوت مرتفع: إسرائيل دولة مجرمة تستبيح دمنا بلا وازع أو رأفة، لعنة الله عليها وعلى كل من يدعمها أو يؤيدها».

تقول ابنتها رلى جابر كلاكش: «توجّهنا بعدئذ إلى مدرسة الليسيه الفرنسية في حبوش، وقد قادت أمي برغم الصدمة، سيارتها التي أصيبت بأضرار جسيمة. بعد يومين أتى باص ونقلنا إلى الأشرفية. مرت ليلتان، ثم نُقلنا بالباخرة إلى قبرص، ومن هناك إلى فرنسا. وصلنا لنجد صورة أمي تتصدّر الصفحة الأولى من مجلة «لو جور». خالتي داليدا، رأت كل ما حصل، كانت آتية من أميركا بعد غياب خمس سنوات، تتصل وتقول: حتى الآن لا يمكن أن أنسى تلك اللحظات».

رلى عادت هي وزوجها من الإمارات وباشرا إصلاح أضرار المنزل وتأهيله، بانتظار عودة الوالدة ثريّا.

يذكر أنه لم يعرف إلى اليوم هوية كل شهداء المجزرة، بل عُرف منهم كل من: مصطفى منصور ووسيم فقيه، فضلاً عن ثلاثة عمال سوريين.

ثريا لحظة وقوع الانفجار (أرشيف ـــ كامل جابر)
ثريا لحظة وقوع الانفجار (أرشيف ـــ كامل جابر)


وضاحكاً مع استعادة والده لقصته
وضاحكاً مع استعادة والده لقصته


تعليقات: