قِفَا نبني ولا نبكي !..


.. ليس انتقاصاً للغة الدمع البليغة, ولا نكراناً لوقعها في النفوس والقلوب, فهي المشترك الذي يتوحّد عليه بنو الإنسان تعبيراً عن الحزن تارةً وعن الفرح تارةً أخرى, وهي ترجمان المشاعر الصادقة والأحاسيس المرهفة التي لا يتسلّل إليها الزيف أو يشوّهها التصنّع ..

أن نبكي ليس غريبا, ولكنَّ الغريب أن ندمن البكاء, و يتحوّل بكاؤنا أغنية نرددها على أطلال ضعفنا وانهزامنا وتخلّفنا, الغريب أن نختبئ وراء الدموع استجداءً للقوة من بواطن الضعف لنكون الأمّة البكّاءة المتسوّلة المتوسّلة .

لقد حفظنا عن ظهر قلب بكائيات العرب القدماء من " قفا نبكي " إلى ما شاء الله من آلاف الرثائيات والمنائح, حتى غدونا الأبرع بين الأمم في تقديس الألم. وهكذا تداورنا الفلك ذاته نمتهن الصراخ على أرصفة الوجع المتراكم دون الالتفات إلى أسباب القوة المختزنة فينا والتي لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ وأعادت رسم الجغرافيا, وبدّدت سحب اليأس والإحباط, وأحيت روح الأمل بالغد الواعد .

لسنا بحاجة الى أدمغة تفكر بقدر حاجتنا إلى إدارة التفكير, ولسنا بحاجة إلى الطّاقات والموارد بقدر حاجتنا إلى ترشيد استغلالها والاستفادة منها, وربما يعوزنا أن نعيد النظر في هرمية الثقافة التي تبانينا عليها لقرون مضت والتي قامت وللأسف على منطق الانتقاص للذات والازدراء بها, والتطلّع للأخر بعين الإعجاب وبروحية التبعية والانقياد, هذه النظرة التي برّرت لنا أن نكون أمةً مستوردةً محتاجةً تتقوّى بغيرها وتتكامل به, دون أن تدرك سرَّ كمالها بذاتها ودون أن تؤمن بقدرتها على الحياة والبقاء .

جميلٌ أن نستحضر التاريخ المجيد ونفخر بما صنعته أيدي الأجداد من بطولات ومآثر, ولكنَّ الأجمل أن نصنع أمجادنا بأيدينا وأن نكتب لأحفادنا تاريخاً جديدا, لقد ألفنَا مداورة حكايات وأحداث عتيقة, وبتنا مطالبين بالسير في موكب الزمن المتجدد والمتسارع, ومساءلين عن كثير من المواقف والأحداث والتحدّيات التي تحكم مرحلتنا بكل تفاصيلها وخصوصياتها, والتي تختلف في شكلها ومضمونها عن سابقاتها من الحوادث في الزمن الغابر .

إنّ الواقع الذي نعيش يحدونا إلى التطلّع بعين المسؤولية ويحفّزنا على الحركة وترك الجمود وهجران الأطلال, لنبني مستقبلاً أفضل تتفيؤ الأجيال ظلاله الوارفة وترمقه بعين الإكبار والانتماء .

الشيخ محمد قانصو

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: